|
بعد ان تحدثنا عن الاساس الذاتي والموضوعي للبعد القيمي لسلوك الانتحاري نصل الان الى الاساس الثالث وهو الاساس المعتمد على التفاعل بين الموضوع والذات، حيث في الحقيقة هنالك معيار ثالث يحدد قيمة فعل ما _ ومنه الفعل الانتحاري _ حيث يمكن هنا ملاحظة أن الأساس القيمي بفعل معين لايرتبط بالذات كما تقول النظرة الذاتية، ولا بالموضوع الخارجي في حد ذاته كما تقول النظرة الموضوعية، بل أن الأمر يخضع لجانب العلاقة المركبة بين الذاتي والموضوعي في نفس الان. فقيمة فعل ما هي قيمة علاقة بين الموضوع والذات في وقت ما، فمثلاً عندما يتيه شخص في صحراء أو غابة ويسعى جاهداً لمعرفة مكانه أو الاتجاهات حوله، فان هذا الشخص لن يلقي بالاً أن وجد قطعة من الذهب بقدر مايهتم بوجود بوصلة تعينه على تحديد مكانه أو حتى هاتف نقال لكي يتصل بواسطته بمن يعرف من اجل أنقاذه ( بشرط أن لاتكون من شبكات الهاتف النقال العاملة في العراق والتي قدمت نموذجاً للفشل والاستهانة بالحكومة والشعب ). نعم ربما في مكان اخر في المدينة سوف يكون لقطعة الذهب قيمة كبيرة تفوق قيمة البوصلة مرات عديدة ولكنه في ظرفه الحالي يفضل جهاز البوصلة على قطعة الذهب. أذن هنا قيمة الفعل والشيء تتحدد وفق علاقة بين ذات معينة وموضوع ما في ظرف معين وفعل ما لايحمل قيمة في حد ذاته، بل أنه يحمل قيمة بالنسبة لشخص ما وفي ظرف معين بحيث لا تؤدي الى ضرر بالمجتمع وبالفرد. وبالنسبة للفعل الأنتحاري فأنه قيمته تتحد هنا عن طريق العلاقة بين ذات الأنتحاري والموضوع الذي يقع فعل الأنتحار عليه، ولعل الواقع وماتفرضه معطياته وعلاقة هذا الواقع _ وهو ينتمي الى عالم الموضوع _ بالذات الأنتحارية التي فخخت نفسها وغدت هشيماً واجزاءاً يصعب جمعها !!! هذه العلاقة هي التي تحدد قيمة الفعل الأنتحاري، اي هي قيمة مقيدة ومحددة بفرد معين في ظرف معين كما أشرت اعلاه ، ولكن .... نره هنا ايضاً عدم مشروعية الفعل الأنتحاري من المنظور الديني والأنساني ... المنظور الديني يرفض ذلك وقد مررنا على بعض الايات القرانية والاحاديث الشريفة واذا ما دخلنا في منظومة السلفية الذي تتحرك داخل اطارها أفكار الأنتحاري لرأينا كبار مشايخهم لايؤيدون ذلك ويرفضونه بصورة قاطعة . فنجد التاكيد الشديد على رفض ذلك في أقوال مشايخ السلفية كأبن باز، وابن عثيمين، وآل الشيخ فضلا عن علماء الأزهر كشلتوت، وأبو زهرة، ود. طنطاوي ، فقد قال الشيخ أبن عثيمين حين سُئل عن العمليات الانتحارية (انه قاتل لنفسه وأنه سيعذب في النار) وقال آل الشيخ عنها ايضاً (لا أعلم لها وجهاً شرعياً ) واكد الشيخ العبيكان (تسمية العمليات الانتحارية بالاستشهادية، خاطئة وهي محرمة)، وقال د. زقزوق - وزير الأوقاف المصري - (الانتحاريون ليسوا شهداء، بل يرتكبون جريمة مزدوجة، في حق الله واهب الحياة، وفي الاعتداء على الآخرين) كما ذكر ذلك واحصاها الكاتب عبد الحميد الانصاري . ولكن وعلى الرغم من كل هذا الاجماع نلاحظ أن الأنتحاري يكتفي بما اقنعه به شيخه من ان العملية لخدمة المسلمين والأسلام، وشيخه طبعاً يسير وفقاً لرؤاه الفردية وتاويلاته الذاتية الخارجة عن أجماع علماء المسلمين الذي لديهم رأي مختلف ومتناقض مع ارائه الشاذه الارهابية، ولهذا ترى ان أسامة بن لادن لايخجل من أن يقول " ليست لفتوى أي عالم رسمي قيمة عندي ". أذن لا توجد مصلحة دينية في الفعل التفجيري، وحجة الأنتحاري ايضاً مردودة هنا فالأخير يرى _ أو هكذا اقنعوه مشايخ التكفير _ أن في تفجير نفسه أنتصار للأسلام ولحربه التي يخوضها كما تطرقت لها أعلاه، وان الرسول الأعظم صلى الله عليه واله سوف يكون بانتظاره على مأدبة من طعام الجنان لكي يأكل معه, في حين ان ثمرة ونتائج أعمال هؤلاء كانت ضد الاسلام والمسلمين في كافة أرجاء العالم بل لعبت دوراً سياسياً أيجابياً للاطراف التي تزعم تلك الجماعات أنها تحاربها، فالرئيس الامريكي جورج بوش قد استفاد في حملته الانتخابية الثانية من خطابات بن لادن والظواهري وتهديداتهم الفارغة، واستطاع أن يُقنع الناخب الامريكي ان الخطر الارهابي مازال حاضراً ولهذا عليه ان يستمر رئيساً لدورة انتخابية ثانية لكي يُكمل حربه ضد هؤلاء وفعلاً تم له ذلك والحال عينه عند بلير رئيس الوزراء البريطاني الاسبق اذا ان تفجيرات لندن الارهابية الحمقاء قد غيرت وجهة نظر الناخب البريطاني ورفعت شعبية بلير بسرعة مذهلة. المنظور الأنساني _ الذي ينطلق من المشتركات العقلية الواضحة البديهية العامة لبني البشر _ يرفض ويستنكر ويستهجن بشدة أي عمل يمكن ان يؤدي الى قتل انسان مدني بريء لادخل له في الصراعات والخلافات والحروب، أي عقل هذا الذي يسمح لشخص ان يفجر نفسه ويقتل العشرات من المدنيين الذين لا يختلفون معه في الانسانية، بل أحياناً حتى الذين يشتركون معه في نفس الديانة والمذهب والخط الفكري ؟ بل اي ظرف هذا الذي يسمح لك ايها الأنتحاري ان تبيح قتل طفل واختطاف حياته وأزهاقها كما تفعل احياناً في تفجيرك لنفسك ؟ كيف يمكن لأنسان ما أن يخطف حياة أخر لايعرفه ولم يسبب له أذى ؟ هل حياة الأخر الذي مزقته وقطعته اوصالاً تابعة لك وانت من وهبها له حتى يحق لك ان تسلبها ؟ أن الأسئلة التي تتفجر هنا حول هذا الموضوع تُربكني وتُشعرني بالأسى والحزن والغصة في آن واحد ... وتُجبرني على أنهاء المقال المطول هذا مكتفياً بهذا العرض البسيط الذي قد يتحول في المستقبل الى كتاب يتناول هذا الموضوع الشائك الذي جر على المسلمين الويلات والسمعة السيئة التي لن تُمحى بسهولة من الذاكرة الأنسانية. صحيفة الوطن
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |