د. حميد الهاشمي/ باحث في

الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع

 hashimi98@yahoo.com

 الكتابة سواء كانت مهارة عادية أو "حرفة" أو هواية، قد تغيرت في ظل المتغيرات والمستجدات المتعلقة بها، خاصة في ضوء استخدام جهاز الكومبيوتر. والكومبيوتر يعتبر اليوم أهم منجز في مجال الكتابة وربما في الحياة العامة. وما ترتب على اختراع الكومبيوتر، وما ارتبط به من ابتكار شبكة الانترنت، لابد أن يكون هناك العديد من التغيرات في عادات الكتابة وما لها من خصائص وطباع يمكن عدها ثقافة فرعية (sub-culture).

لاشك أن هناك صراع الآن بين القرطاس والقلم من جهة وتقنية الكومبيوتر وشبكة الانترنت من جهة أخرى. القلم والقرطاس الذين ظلا رمزا للإبداع والنتاج الثقافي مئات القرون، منذ اختراع الكتابة بعد أن تطورا من عيدان الأشجار وأوراق القصب والبردي وجلود الحيوانات وقوالب الطين إلى وضعهما الحالي أو ما سينتهيا عليه. والصراع هذا قد يشهد الإستعاضة عن القلم بالكومبيوتر وربما الإطاحة كليا بأسطورة القلم وسلطته الرمزية، أو تطور شكله إلى بعض أنواع الأقلام التي تستخدم للكتابة والتوقيع فوق بعض الرقائق الالكترونية المصنعة، أو القلم السكنر (scanner) أو الماسح الضوئي، الذي يؤدي وظائف القراءة ومسح النصوص المطبوعة وتحويلها إلى صور اليكترونية.

ولسنا هنا بصدد استعراض هذه التقنيات وخصائصها بقدر ما نود التركيز على الآثار التي تتركها على ممتهني أو هواة ، أو متعلمي الكتابة، وتحديدا طبعا أولئك الذين ينعمون بهذه الإمتيازات وليس من لم يعتد عليها أو لم يطلها أو لم يسمع عنها.

تشير العديد من الدراسات واستطلاعات الرأي إلى أن الوقت المقضي على جهاز الكومبيوتر سواء في المطالعة أو الكتابة أكثر من نظيره في استخدام القلم والورق والكتاب. وأن طلبة المدارس أصبحوا يتدربون على الكتابة والقراءة والعلوم والمهارات الحياتية الأخرى من خلال الكومبيوتر، وأن مصادر معلوماتهم، وميدان الترفيه وقضاء أوقات الفراغ في الغالب هو الكومبيوتر والانترنت أيضا. وهناك العديد من الأشخاص، ومن الكتاب تحديدا من لم يستخدم القلم منذ بضعة سنين، إلا لملأ بعض الاستمارات أو التوقيع على بعض الوثائق التي يستوجب توقيعه عليها، مع أن مهنته هي الكتابة.

ومن بين ما ينجم عن هذه التوجهات هو ضعف مهارة الكتابة اليدوية. أي ضعف الخط اليدوي، وهذا من بوادر انهيار "سلطة القلم" التي أشرنا إليها. كذلك بات مرجحا أن يتعدل مفهوم الأمية إلى "الجهل باستخدام تقنية الكومبيوتر لأغراض القراءة والكتابة"، بعد أن ظهر مفهوم "أمية الكومبيوتر" مقابل الأمية الأبجدية.

في جانب آخر نجد أن الوقت الطويل الذي كان يقضيه الكاتب في صياغة مسودة عمله سواء كان كتابا أو رسالة أو أطروحة علمية أو بحثا قصيرا أو مقالة، ثم يلجأ إلى إعادة صياغتها كـ"مبيضة" أو نسخة نهائية جاهزة للطباعة، لا بد أن يكون قد تم شطبه الآن. فالتصحيح والمراجعة تتم على نفس النسخة الالكترونية. ومهمة تصحيح الأخطاء الإملائية والطباعية يتولاها جهاز الكومبيوتر، حيث يؤشر بخط احمر أسفل الكلمة غير المناسبة ليعاد ترتيبها، وبخط اخضر أحيانا تحت الجمل التي لا يجدها منسجمة ومناسبة.

إذن توفر جانب كسب الوقت والدقة والأناقة في آن معا. أضف إلى ذلك أن عملية البحث والإستعانة بمراجع يتم معظمها الآن من مواد الكترونية جاهزة على الشبكة، لا تتطلب قضاء وقت طويل في قراءة كتاب، بحثا عن معلومة. فالبحث عنها يتم آليا عبر محركات البحث على شبكة الانترنت. وعملية الإقتباس لا تتطلب النقل على كارتات أو أوراق خارجية ليتم نقلها إلى مسودة العمل. كما يمكنك الإطلاع على آخر ما استجد في الموضوع الذي تود الكتابة فيه. ناهيك عن أن هذه التقنيات يمكنها أن تكشف مدى انتهاك حقوق الملكية الفكرية من سرقات وهفوات أو حتى توارد أفكار بين كاتبين في موضوع واحد.

وفي ضوء ذلك أيضا لم تعد هناك حاجة إلى مكتبة طويلة عريضة أو رفوف زاخرة بالكتب وأمهاتها. فالعديد من تلك يتم تحويلها الآن من صيغتها المطبوعة السابقة إلى رقمية (digital) . وبذا أصبح لدينا ما يعرف بالمكتبات الافتراضية، ولا حاجة للتعفر بغبار الكتب وابتلاء أهل بيتك بها إذن، مع أن لكل ذلك التقليد حلاوة ومتعة متناهية لكل من اعتاد عليه.

ولكن علينا أن لا ننكر جانب السلبيات التي تنجم عن ذلك، ومنها اعتماد الإنسان على الآلة مما يضعف ذاكرته وبعض حواس وعضلات جسمه.

ذكر لي أحد زملائي "أنه حينما كان في مرحلة كتابة اطروحته للدكتوراه، كان يبعث بفصول مادته أولا بأول إلى أستاذه المشرف عبر البريد الالكتروني (email). ومع أن أستاذه يمتلك بريدا الكترونيا خاصا به ويتابعه، إلا أنه ما لبث أن جزع وطالبه أن يرسل مادته العلمية على ورق بالبريد العادي. معللا له ذلك بأنه لازال "رجل كلاسيكي"، يحب استخدام الطرق التقليدية.

ووفق ذلك التقليد أو غفلةً، لازال البعض يستمتع بتصدير مقالاته بكلمة "بقلم" فلان الفلاني، رغم أنه أنجز أعماله هذه بالكومبيوتر وأرسلها بالايميل ولا دخل للقلم فيها بتاتا.

فالأولى أن نقول "كيبورد: فلان الفلاني".

ولازالت دور النشر تسمي "مسودة" الكتاب المرسل إليها من كاتب ما للنظر في نشرها "مخطوطة". رغم أنها لا تخط بالقلم وفقا للمعنى الإصطلاحي. وربما أن المعنى اللغوي يعطي مفهوما يشمل "خط" الكيبورد أيضا.

وإجمالا فإن السؤال هو: طالما نشهد الآن أفول سلطة القلم، فهل نشهد إنهيارها؟

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com