لعل أهم مذهب صنع مجد الحضارة الغربية الحديثة هو المذهب التجريبي؛ لأنه حقق الإنجازات العلمية والتكنولوجية الضخمة التي تفخر بها الحضارة المعاصرة، وضمِن للأمم المتقدمة علمياً تفوقاً في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والعسكرية.

ولكن نجاحات هذا المذهب كانت مقرونةً بإخفاقات خطيرة. فالميدان المادي الطبيعي الذي شكل عنواناً بارزاً لنجاح المذهب التجريبي صاحبته انتكاسات خطيرة كادت - ومازالت - تؤدي إلى هلاك البشرية وتدمير العالم، حيث استخدم العلم والتجربة لتطوير الأسلحة الفتاكة التي بلغت ذروتها في الأسلحة الجرثومية والكيماوية والذرية التي استخدمت خلال القرن الماضي. ومازال خطر استخدامها قائماً بقوة خلال هذا القرن؛ لأن البحث العلمي قد افتقد الغايات المحددة، ولم يحفل بالمعايير الخُلُقية والإنسانية التي يمكن أن تصونه من سيطرة نوازع الشر على نتائجه وأهدافه.

ولكن الميدان الأكثر خطورة لتطبيقات المذهب التجريبي هو ميدان العلوم الاجتماعية والإنسانية، فإذا كان مجال العلوم الطبيعية الرئيس هو اكتشاف القوانين التي تتحكم في المادة ومعرفة خصائصها وأسرارها، فإن مجالات التطبيق في العلوم الاجتماعية هو الإنسان مباشرة في تجلياته النفسية والاجتماعية والسياسية وغيرها، وحينما يصبح الإنسان حقلاً للتجارب، ويعامل بالطريقة نفسها التي يتعامل بها العلم الطبيعي مع المادة الجامدة، فهنا يكمن الخطر وتحصل الكوارث.

وإذا كانت العلوم الاجتماعية قد حققت تقدماً في اكتشاف العلاقات والعناصر التي تحكم حركة الفرد والمجتمع، والأسباب التي تعوق تقدمها إلى الأمام، فإن توظيف مناهج العلوم الاجتماعية ونتائجها من قبل المؤسسة السياسية في الغرب - منذ نشأتها وازدهارها حتى اليوم - كان توظيفاً سيئاً إلى أبعد الحدود، حيث لم تأخذ من المنهج التجريبي الاجتماعي إلا نزعته في التجزئة والتعدد والتفتيت، ومعرفة أوجه الصراعات وسبل تغذيتها وتأجيجها.

وقد وجدت بريطانيا - وكانت أكبر دولة استعمارية في حينها - في الهند حينما احتلتها ضالتها المنشودة؛ لأنها تضم مجتمعاً متعدد الأعراق والأجناس، ومختلف المذاهب والأديان، ومتنوع اللغات والثقافات، ومنقسم الفئات والطبقات، فكان أن أصبحت شبه القارة الهندية بالنسبة إليها حقلاً للتجارب، تضرب المسلمين بالهندوس، وتضرب الهندوس بالسيخ، وتهيج الطبقات بعضها على بعض؛ لينشغل الجميع عن المحتل الذي ينهب الثروات ويفقر الشعب.

ومن يقرأ تاريخ الهند الحديث والمعاصر يرَ كم هي الدماء التي سالت على مذبح التجارب التي أجراها الاستعمار هناك تمهيداً لنقلها إلى مستعمرات أخرى، وهو ما حصل فعلاً، إذ أشعلت الدول الاستعمارية نيران الصراعات القبلية والمذهبية والقومية في الوطن العربي بهدف إجهاض المشاريع الوطنية التي كانت تهدف إلى تحقيق السيادة والاستقلال والنهوض الاقتصادي.

وقد ورثت الولايات المتحدة - بعد بروزها قوةً دوليةً عظمى في أعقاب الحرب العالمية الثانية - كل تلك الترِكة الاستعمارية، وزادت عليها تجاربها السياسية غير الأخلاقية في أميركا اللاتينية، بل في أميركا الشمالية نفسها التي لم تقم إلا على جماجم سكان أميركا الأصليين من الهنود الحمر. فكان دورها أشد شراسةً وطغياناً، فهي أول دولة استخدمت السلاح النووي ضد اليابان على رغم أن تلك الدولة كانت على وشك الاستسلام، ثم دشنت سياسة الحرب الباردة وتوازن الرعب النووي مع الاتحاد السوفياتي السابق التي يتحاشى فيها الطرفان الحرب المباشرة مع استمرار الحروب غير المباشرة، وخصوصاً في دول العالم الثالث.

أما العالم العربي - الذي لم يكن يعرف الكثير عن السياسة الأميركية لعدم احتكاكه المباشر بها - فقد صدق دعاواها أحياناً بنشر الديمقراطية وضرورة استقلال الشعوب العربية التي كانت ترزح تحت نير الاحتلال، ولكن سرعان ما تكشفت نواياها الحقيقية حينما تبيّن أن ذلك جزء من سياسة ملء الفراغ التي نادى بها الرئيس الأميركي آيزنهاور (1890-1969)، والتي تعني إحلال النفوذ الأميركي في المناطق التي كانت خاضعة للنفوذ البريطاني، ولاسيما بعد أزمة السويس التي أعقبت تأميم القناة العام 1956.

فبدأت عهدها بإنشاء حلف بغداد المناوئ لمصر بقيادة جمال عبد الناصر، ودعمت «إسرائيل» بشكل غير محدود على حساب الحقوق العربية، وعملت على إشعال الحروب الأهلية والإقليمية كالحرب اللبنانية والحرب العراقية الإيرانية، وكانتا تجربتين لإذكاء الصراع الديني والسياسي والمذهبي والقومي داخل البلدان العربية، وتوريطها في معاركَ داميةٍ مع جيرانها؛ لإشغال الجميع عن عدوهم الحقيقي وهو الكيان الصهيوني.

وحينما فشلت سياستها تلك بانطفاء نار الحرب اللبنانية وحرب الخليج الأولى، فكرت في الإشراف المباشر على تنفيذ سياستها؛ حتى تضمن عدم خروج أي من الممثلين على النص، فأعطت الضوء الأخضر لصدام لاحتلال الكويت، الذي شكّل سابقةً خطيرةً في العلاقات العربية التي شهدت - للمرة الأولى في تاريخها المعاصر - دولةً عربيةً تحتل دولةً عربيةً أخرى عضواً في جامعة الدول العربية والأمم المتحدة، وتمحوها من الخريطة لتصبح محافظةً عراقيةً!

لقد كانت هذه الحرب بدايةً لحقبة جديدة في العلاقات الدولية شعارها النظام الدولي الجديد في عهد بوش الأب، والتي وضع فيها سيناريو احتلال العراق الذي نُفذ جزئياً بعد طرد القوات الصدامية من الكويت، واحتلال قوات التحالف أجزاء واسعة من جنوب العراق. ولكن الإدارة الأميركية وجدت الفرصة سانحةً لاحتلال العراق بشكل كامل بعد تفجيرات سبتمبر/ أيلول 2001 في أقل من عامين. وكان النظام العراقي السابق يقدم للقوة الأميركية - التي تفردت بالقرار الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق - كل مبررات التدخل العسكري؛ بحروبه العبثية وسياساته العدوانية؛ وقسوته على شعبه التي وصلت إلى حد استخدام الأسلحة الكيماوية في مدينة حلبجة الكردية؛ وشن حرب إبادة ضد مئات الألوف من أبناء الشعب العراقي في مختلف أنحاء العراق.

فماذا فعلت أميركا في العراق بعد احتلاله؟ لقد تركت هذا البلد - المنكوب بثلاث حروب أهلكت الحرث والنسل، مضافاً إليها الحصار الذي تضرر منه الشعب لا النظام - نهباً لفوضى عارمة استمرت أياماً عدة نهبت فيها أو أحرقت الوزارات والمصارف ودوائر الدولة والمكتبات والمتاحف، باستثناء وزارة النفط التي حظيت بحماية خاصة من قبل القوات الأميركية. والأخطر من ذلك كله هو تركها معسكرات الجيش العراقي عرضةً للنهب، فتسربت ملايين من قطع السلاح المختلفة الأصناف بأيدي كل من يريد بالعراق وشعبه شراً، كما تركت الحدود الدولية مفتوحةً بلا رقيب ليتسلل منها تنظيم لا يعرف الرحمة أو التسامح اللذين اشتهر بهما الإسلام، ألا وهو تنظيم «القاعدة» الغريب عن شعب العراق وحضارته ومكوناته العرقية والدينية والمذهبية التي عاشت قروناً وأجيالاً متعاقبةً لم يعرف نسيجها الاجتماعي الحروب الأهلية، وتكفير الآخرين واستباحة دمائهم!

لقد تحالف هذا التنظيم - بتسهيل من قوات الاحتلال أو بغض الطرف منها - مع القوى التي تضررت من تغيير النظام السابق، وخصوصاً جلادي السجون وفدائيي صدام وأجهزة الأمن والاستخبارات السابقين، الذين شكلوا مخالبَ محليةً تنهش في الجسم العراقي بلا شفقة ولا رحمة، كما كانت تفعل في السابق. فمن قتلٍ للمصلين وتفجيرٍ للمساجد والكنائس والعتبات المقدسة، إلى تفجير الأسواق المزدحمة بالباعة والمتسوقين، وقائمة طويلة من الجرائم التي تقشعر منها الأبدان ويندى لها الجبين والتي طالت الشعب العراقي بمختلف شرائحه وأطيافه.

فهل كانت أميركا غافلةً حينما ألغت حرس الحدود، وتركت حدود العراق بلا رقيب ليتسلل إليه من هبّ ودبّ؟ وهل كانت غافلةً حينما أطلقت العنان للفوضى تلتهم بقايا الدولة والمجتمع؟

لقد كان نظام المحاصصة الطائفية الذي اعتمدته أميركا أساساً للعملية السياسية تجربةً جديدةً في العراق، أعطت مبرراً إضافياً لقوى التكفير لكي تشن حرباً مذهبيةً ضد أكثرية الشعب، وتمهد لحرب أهلية تلتهم الأخضر واليابس، وتتطاير شظاياها لتعم المنطقة كلها، فتوضع نظرية «الفوضى الخلاقة» التي نادى بها المحافظون الجدد، موضع التطبيق. ناهيك عن أن سياسة الحرب على الإرهاب التي اتبعتها الإدارة الأميركية بعد أحداث سبتمبر كانت تعني جعل العراق وأفغانستان ساحتين لتصفية الحساب مع القوى المناوئة لسياستها بعيداً عن الأراضي الأميركية.

أما الممارسة الديمقراطية المتمثلة في الانتخابات والتي خرج فيها الشعب بنية صادقة لينتخب ممثليه في البرلمان، فقد تبخرت بعد حين لتصبح شكلاً بلا مضمون، وجسداً بلا روح، لأسباب ذاتية وموضوعية.

أما الذاتية فلأنها اعتمدت نظام القوائم الذي يضطر فيه المنتخِب ليصوِّت لأشخاص غير مقتنع بهم، إضافةً إلى اعتماد القوى السياسية في مرشحيها على عنصر الولاء للحزب أو العشيرة أو الطائفة من دون الكفاءة، إلا ما ندر!... وأما الموضوعية، فإن غابة السلاح ونزف الدماء الذي لم يتوقف منذ الاحتلال لا يمكن أن يشكل بيئةً حاضنةً لديمقراطية حقيقية، وإنما هي مجرد شعارات ترتكب باسمها أبشع الجرائم. إنها تشبه شعار الشرق الأوسط الجديد الذي بشرت بولادته كوندوليزا رايس من تحت أنقاض المنازل المهدمة في لبنان، وجماجم الأطفال المهشمة، وأجسادهم الغضة المقطعة الأوصال بقذائف الحقد الصهيوني في قانا ومروحين والنبطية وغيرها، إبان حرب يوليو/ تموز 2006!

ولم تكتفِ الإدارة الأميركية بتجاربها الدامية في جعل العراق ساحةً مفتوحةً للحرب على «القاعدة» وغيرها من التنظيمات الإرهابية، بل زادت عليها في محاولات التحرش بالدول الإقليمية غير الممالئة لسياستها مثل إيران وسورية، إذ لا يمر يوم من دون تهديد من أميركا وصنيعتها «إسرائيل» بمهاجمة هذين البلدين تحت ذرائعَ شتى، حتى وصل الأمر بوزير البنى التحتية الإسرائيلي بنيامين أليعازر إلى التهديد بإبادة الأمة الإيرانية، من دون أن تستنكر أميركا والغرب هذا التصريح الجنوني الذي ينذر بعواقبَ وخيمةٍ على المنطقة، وسيتضرر منه العراق بالتأكيد؛ لأنه سيكون منطلقاً للهجوم، وهدفاً لردود الفعل، حيث يوجد فيه 140 ألف جندي أميركي على الأقل، وعتاد وسلاح لا حصر له، مع عشرات الألوف من قوات الأمن الخاصة.

فهل استطاعت الإدارة الأميركية حل مشكلاتها في العراق وأفغانستان حتى تفتح عليها جبهات أخرى أشد خطورةً وتعقيداً؟ أم أنها سياسة إشعال الحرائق وإثارة الحروب التي لا يستفيد منها سوى شركات السلاح العالمية، ولا يتضرر منها سوى شعوب العالم الثالث التي تعيش أزمات اقتصادية حادة تنذر باضطرابات سياسية واجتماعية في كثير من دول العالم، ومنها دول عربية، بحسب ما أشار التقرير الأخير للبنك الدولي؟

لقد عقّدت أميركا المشكلات داخل العراق بدلاً من أن تحلها، بحيث يبدو العراق اليوم حقلاً لتجارب الصراعات العرقية والطائفية والمذهبية، ومحاولة نقلها لدول المنطقة تطبيقاً لسياسة المحافظين الجدد، وهم العقل المهندس لسياسة الإدارة الأميركية الحالية، في إشاعة الفوضى الهدامة.

فهل ستعي القوى السياسية في العراق والمنطقة هذه الحقيقة، وتحاول إيجاد الحلول الوطنية المناسبة لمشكلاتها؟ أم ستبقى تعلّق الأوهام على السياسة الأميركية التي ثبت فشلها على أكثر من صعيد؟

صحيفة الوسط البحرينية (30/4/2008م)

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com