د. شاكر النابلسي

anoori41@gmail.com

لم يشهد العالم العربي حراكاً على مختلف المستويات من أجل تطبيق بعض استحقاقات الديمقراطية في العالم العربي، كما شهد ذلك بعد غزو العراق 2003. وكأن غزو العراق قد فتح شهية الفعاليات السياسية العربية، لطرح ضرورة تحقيق بعض استحقاقات الديمقراطية على الأقل وليس كلها. وهكذا كان غزو العراق بمثابة موجات كهربائية صادمة للقلوب السياسية العربية، التي كادت أن تتوقف عن الخفقان السياسي.

غزو العراق يكسر الجمود

فوجدنا أن الانتخابات التي كانت مؤجلة لعدة مرات قد أُجريت، وأن الكثير من الأصوات الليبرالية قد خرجت، وأن آليات الديمقراطية التي كانت معطوبة قد أُصلحت. وتمَّ تفعيل مجالس الشورى. وتمَّت انتخابات بلدية لأول مرة في تاريخ بعض البلدان. وقامت جولات من مؤتمرات الحوار الوطني من أجل التدرب على آليات الديمقراطية المستقبلية. ونالت المرأة حقوقاً كثيرة ومتتابعة في مختلف البلدان العربية، مع ملاحظة أن الكثير مما يتوجب تحقيقه للمرأة لم يتحقق بعد، فالطريق طويلة، والعقبات الاجتماعية والدينية والسياسية كثيرة. ولكن بالمقابل لم تكف الديكتاتوريات العربية عن اعتقال المطالبين بالإصلاح السياسي، والتنكيل بهم. وطالت تقارير منظمات حقوق الإنسان المؤنّبة الكثير من الدول العربية. ولكن من يقرأ صفحة الديمقراطية في العالم العربي قبل غزو العراق وبعده، سوف يشاهد دون عناء، أن استحقاقات الديمقراطية في العالم العربي تتحقق شيئاً فشيئاً ولكن ببطء شديد، وهذا دليل صحة برأيي، وليس دليل اعتلال. فالتقدم الديمقراطي البطيء، شأنه شأن الإنبات البطيء، وهو أفضل بكثير من السلق الديمقراطي، خاصة بالنسبة لشعوب العالم الثالث والعالم العربي على وجه الخصوص، الذي تعتبر الديمقراطية بالنسبة له بمثابة التضّرس الناتج عن أكل الحصرم. فهو يريدها ولا يريدها، وهو يعشقها ويخافها في الوقت نفسه.

صراع مرير وجني الحنظل

وهذا الحراك السياسي، صاحبه حراك إعلامي كبير، لم تشهد له المنطقة العربية مثيلاً من قبل، وذلك بظهور عدة وسائل إعلامية فضائية وورقية وإليكترونية، وانتشار الفكر الليبرالي العربي انتشاراً لم يسبق له مثيلاً، وخاصة في الصحافة الإليكترونية على الانترنت. كذلك انتشر الفكر الأصولي الديني انتشاراً مماثلاً، بل وتمتع بغض نظر الرقابة الحكومية عنه، مهما قال، ومهما نشر، ذلك أن معظم الأنظمة العربية ترى في الفكر الأصولي القاعدة الخفيّة التي يقوم عليها الحكم، والمتراس الذي يقف خلفه الحكم ضد سهام الليبرالية وشعاراتها في الحداثة والعولمة والعَلْمانية.

 ويدور في العالم العربي اليوم صراع مرير بين الليبرالية وبين الأصولية، سوف يتمخّض عن نتائج كثيرة منها:

1-  إن فكرة الوحدة العربية والعالم العربي الموحد قد سقطت إلى زمن قد يطول كثيراً، قبل استرجاع فكرة القومية العربية والوحدة العربية. فالشعور القطري في السنوات الأخيرة قد ازداد زيادة كبيرة، وخاصة بعد ارتفاع أسعار البترول بالنسبة للدول العربية الغنية. كما أن محاولة استعمار بعض الدول العربية لدول عربية أخرى أصغر منها (حالة سوريا ولبنان، والعراق والكويت) قد نمّى الشعور القطري وأمات الشعور القومي، الذي ثبت بأنه مجرد شعارات، لسيطرة الدول العربية القوية على الدول العربية الضعيفة. وجاء سقوط الناصرية، وسقوط حزب البعث في العراق، وضعف حزب البعث في سوريا، وكلها كانت تنادى بالوحدة القومية العربية، ضربة أخرى على رأس الحركة القومية العربية، وفرصة كبيرة لتنامي الحسّ القطري والتمسك بالقطرية، سيما بعد محاولة العراق غزو الكويت في 1990 وتهديد معظم دول الخليج بهذا الغزو الفاشل المشين، الذي تصدى له الغرب أكثر مما تصدى له العرب. وبذا، سقطت آخر أوراق التوت عن العورة القومية العربية.

2-  ستكون الفرصة سانحة أمام الأقطار العربية للالتحاق والانضمام إلى العولمة، أكثر منها إلى دولة الوحدة القومية العربية. ورغم الأبحاث الكثيرة والمؤتمرات القومية العربية المتعددة، التي تقام هنا وهناك، ووجود "مركز دراسات الوحدة العربية" في لبنان (وأصله عراقي، وبتمويل سابق من عراق صدام حسين، ودعم مباشر من سعدون حمادي رئيس البرلمان العراقي السابق، وهو بمثابة الخزانة الفكرية لأيديولوجية حزب البعث) إلا أن فكرة الوحدة القومية العربية على أرض الواقع كادت  أن تختفي مع اختفاء الحكام العرب المطالبين بتحقيقها. فمعمر القذافي الذي كان آخر  الباقين المطالبين بالوحدة القومية العربية، قد كفر بهذه الوحدة، وسلخ جلدها في ليبيا، واتجه إلى الوحدة الإفريقية، علّه يلقى صدى وتوفيقاً أكبر في القارة السوداء.

3- أدى الصراع السياسي الديني بين السنة والشيعة، وظهور قوة إقليمية شيعية في المنطقة كأيران، وحزب شيعي قوي كـ "حزب الله" في لبنان، وظهور الأحزاب الشيعية القوية في العراق (تمثل 60 % من عدد سكان العراق) والتي تحكم العراق بصفة فعلية، وبمساعدة إيران، إلى بروز شعارات الدولة الدينية، أكثر من بروز شعارات الدولة القومية. بل إن بلداً كسوريا العَلْمانية والمحكومة – ولو صوريّاً - بحزب قومي عَلْماني قُح، تحالفت تحالفاً استراتيجياً مع دولة دينية شيعية كأيران، بعد أن كانت متحالفة مع قوة قومية وعلمانية كمصر في عهد عبد الناصر. وهذا ما يعني بأن القرن الحادي والعشرين – على عكس القرن العشرين – سوف يشهد تحالفات دينية وقوى دينية جديدة، تنشأ في المنطقة كما كان عليه الحال في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، تلك الفترة التي تعتبر الفترة الذهبية لنشوء الفكر القومي الوحدوي العربي. ولولا بقاء المشكلة الفلسطينية دون حل إلى الآن ومنذ ستين عاماً، والتوسع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، لانتفت فكرة الوحدة القومية العربية تماماً. فالرابط الوحيد القومي الوحدوي الموجود الآن على أرض الواقع العربي- وهو رابط رفيع وهزيل - هو الشعور القومي العربي الموحد تجاه إسرائيل، وتجاه المشكلة الفلسطينية. مع ملاحظة أن هذا الرابط قد بدأ يتراخي مع وجود فئات كثيرة في العالم العربي تنادي بالسلام مع إسرائيل، وأخذ ما هو متوفر ومعروض الآن، حتى لا يصبح ما هو متوفر ومعروض الآن عزيزاً في المستقبل القريب، كما شهدنا من خلال تاريخ القضية الفلسطينية. فالزمن ضد المصلحة الفلسطينية، على عكس ما كان يُعتقد. وكلما مرَّ زمن، خسرت القضية الفلسطينية من رصيدها، حتى لم يصبح لها رصيد الآن، في ظل ضعف العرب، وتشتت الشعب الفلسطيني بفضل الخلاف الفلسطيني – الفلسطيني القائم الآن بين "فتح" و "حماس".

خيبة الأمل الأمريكي

خيبة أمل كبيرة أصيبت بها أمريكا شعباً ودولة من التجربة العسكرية المريرة في العراق نتيجة لعوامل عدة. فقد كان الأمل الأمريكي في العراق كبيراً ووردياً زاهياً، لم يحسب حساباً للشوك الكثير والمطبات المختلفة التي كانت في طريقه. فقد كانت أمريكا تأمل في أن يتحول العراق إلى منارة ديمقراطية، يحتذي بها العالم العربي، كما قال جون هيوز مساعد وزير الخارجية السابق في إدارة الرئيس ريجان. وقد عبَّر عن ذلك الرئيس بوش في خطاب التنصيب لولايته الثانية عندما قال: "هناك قوة واحدة فقط في التاريخ قادرة على كسر حلقة الكراهية والغضب، هي قوة الحرية الإنسانية". وقد تعهد في خطابه بأن تدعم الولايات المتحدة "نمو الحركات والمؤسسات الديمقراطية في كل دولة وثقافة، بهدف إنهاء الاستبداد في العالم". وهذا هو الحلم الأمريكي الدائم، بأن تصبح أمريكا "محررة الشعوب". ولكن حساب البيدر لم يتطابق مع حساب الحقل. فالنيات الحسنة لا تُدخلنا الجنة. وطريق الجحيم مرصوف بالنيات الحسنة، كما يقول المثل الانجليزي. وقد كان العراق بالنسبة لأمريكا هو الجحيم القائم الآن، والذي كان مرصوفاً بالنيات الأمريكية الحسنة. وبذا، تأجل الاستحقاق الديمقراطي في العالم العربي إلى أجل غير مسمى، ربما بانتظار صدام حسين آخر، وبانتظار رئيس آخر كجورج بوش وتوني بلير، الذي قال في بدء الحملة على العراق: "إننا نحارب من أجل الحقوق الثابتة للبشرية، ولكي نكون أحراراً. إنها معركة جديرة بالقتال". ولكن سيف القوى الدينية الأصولية في العراق وفي جوار العراق، كان أقوى من أساطيل هذين الرئيسين، فانقلب العسل إلى سُمّ، وانقلب العرس إلى عزاء، والأفراح إلى أتراح. فاللعبة الديمقراطية التي جاءت بها أمريكا للعراق كانت مكلفة جداً، حيث صُرف من أجلها مليارات الدولارات وقتل مئات الآلاف. ولكن ما الفائدة إذا كانت الأرض (سبخة) ومالحة، ولا تصلح لزراعة نبتة الديمقراطية، وعلينا إصلاح الأرض أولاً. 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com