مسمار المطير، براس الفقير
محمد علي محيي الدين
abu.zahid@yahoo.com
من؟ من الشيوعيين العراقيين لم يسمع بأسم هندال،ومن منهم لم تداعب أسماعه الأهزوجة الشهيرة(حي ميت هندال أنريده)،وهندال هذا واحد من آلاف المناضلين الشيوعيين الذين ظلت أسمائهم ألق على الشفاه،وعنوان للمجد والسؤدد الشيوعي،وعلامة بارزة في تاريخ الحركة الوطنية في العراق،ومن الذين أصبحوا معلمّا للنضال الوطني في تاريخ العراق الحديث.
والحديث عن هندال طويل ومتشعب،فهذا القائد النقابي المنحدر من أصول عمالية رصينة،كان وفيا لطبقته وأبنائها حريصا على النضال من أجلها،فقد أنحدر من أسرة عمالية بصرية فقيرة،وعاش في وسط شعبي في منطقة (الخندق) المعروفة في البصرة، وولد سنة 1923 ولظروف أسرته وما تتطلبه الحياة من تضحية بالمهم من أجل الأهم لم يدخل المدرسة أو يتعلم في الكتاتيب،وأنصرف للعمل في صبا باكر للنهوض بمتطلبات الأسرة،وما تتطلبه ضرورات الحياة،فعمل (عتالا) ليحصل على ما يسد رمق العائلة الكبيرة،ويسهم في توفير العيش الكريم لها،لذلك كانت بواكير وعيه الطبقي تتلقح بما يشاهد من تمايز طبقي وتفاوت في المستوى ألمعاشي،وما تعانيه الأسر الفقيرة من شظف العيش ومرارة البؤس والحرمان،وهذه الأرض البكر صالحة لنماء البذور الماركسية،وزراعة الفكر الشيوعي الأصيل وتقبله،فتفتحت آفاق تفكيره على أن الشيوعية تهدف لإزالة الفوارق الطبقية ،وتناضل من أجل الطبقة العاملة بما يؤمن لها العيش الكريم والحياة السعيدة،وبعيدا عن التنظير الماركسي في توصيفه للبروليتاريا الرثة،فأن أصالته تكمن في وعيه الباطن بأنه (أبن هذي الشغيلة)فكان لهذا البروليتير موقفه الشامخ المعروف،فقد تأثر بالفكر الماركسي الواقعي البعيد عن التنظير،وشعر في سن مبكرة بعمق ارتباطه بطبقته وحجم معاناتها،فرأى أن النضال من أجلها هو طريقه السليم لإسعادها،وانتمى للحزب الشيوعي أوائل الخمسينيات،وأسهم بشكل فاعل في توزيع المنشورات ولصق البيانات والمشاركة في النشاطات والفعاليات التي كانت سمة الشيوعيين العراقيين أيام نضالهم التليد،والميسم البارز لهم في الدفاع عن حقوق الكادحين،والذود عن المسحوقين،وعمل بمثابرة في النشاط السياسي رغم ظروفه المعاشية الصعبة،فكان في أوائل المشاركين في الدعاية الانتخابية لمرشحي الجبهة الوطنية عام 1954،وفي مقدمة المتظاهرين في انتفاضة الشعب العراقي في كانون 1956 ،والإسهام في لجان صيانة الجمهورية بعد نجاح ثورة الشعب في 14 تموز الخالد.
وكان له بعد الثورة نشاطه المتميز’ودوره الفعال في تأسيس نقابة(الكيل والحمالة) التي أخذت على عاتقها الدفاع عن حقوق هذه الشريحة المغدورة،التي عانت من الظلم والاضطهاد الشيء الكثير بسبب التعامل ألا أنساني لتجار الحبوب والمواد الغذائية،وسعى لتحديد ساعات العمل وزيادة الأجور ومنع الطرد الكيفي أو التعطيل المقصود وشمولهم بقانون العمل،وصندوق الضمان الاجتماعي للعمال وعدم تشغيل العمال الأجانب في الموانئ العراقية وإلزام أصحاب المتاجر والعلاوي بتحسن ظروف العمل ،فالتف حوله آلاف العمال بعد أن لمسوا فيه الجدية والعمل النضالي المثابر، ،فأثار هذا النشاط المحموم ثائرة القوى الرجعية والتجار الموتورين الذين كانوا يعاملون هؤلاء بمنتهى الاحتقار،وينظرون إليهم نظرهم الى العبيد الأرقاء،فيما أخذ الموتورين الأذلاء من أيتام العهد المباد وأتباعه المتضررين من التغيير الجديد،التآمر على المنجزات التي تحققت لهذه الطبقة المضطهدة،وحاولوا النيل من صموده البطولي ونضاله المبدئي من أجل الكادحين،فأخذوا يكيدون له المكائد ويحيكون المؤامرات،ولكن التفاف العمال حول قيادتهم واحتضانهم لقائدهم الأمين جعله في منجى من الكثير من المؤامرات التي حيكت ضده،ولكن بعد انكفاء الثورة وتراجعها أما الضغط المنظم للقوى المعادية، ،وبدأت تقتل أبنائها فأقدمت أدارة البصرة المحلية على اعتقال القائد العمالي الجسور هندال أواخر عام 1959 ،بتهمة التحريض فكان ذلك اليوم المشهود في البصرة،الذي لا زال راسخا في أذهان من عاصره، عندما انطلقت المظاهرات العمالية الكبيرة التي حشد لها الآلاف وهي تردد أهزوجتها المشهورة(حي ميت هندال أنريده)،فيما أقدم أبناء منطقة الخندق على الانتشار في منطقتهم المنيعة ومنع القوى الحكومية من الدخول للمنطقة في حالة لم يسبق لها مثيل،وأضرب العمال عن العمل وعطلت الدوائر الحكومية،فيما أخذت المظاهرات طابعا أرعب السلطة المحلية وجعلها تتنازل وتطلب من المتظاهرين إرسال ممثليهم للتفاوض،وعندما دخل المفاوضون ظل العمال المتظاهرين في أماكنهم أمام مبنى المتصرفية،فاندفع متصرف البصرة آنذاك عبد الرزاق عبد الوهاب مع غروره الصبياني وأوعز الى قائد الشرطة بإطلاق النار على المتظاهرين،إلا أن صمود العمال البطولي جعله يتراجع عن موقفه فأوعز بإطلاق سراح البطل هندال،وعندما علم بأن ممثلي العمال لم يطلق سراحهم،توجه صباح اليوم التالي الى العاصمة بغداد والتقي بالحاكم العسكري العام احمد صالح العبدي وشرح له خطورة الوضع والتصرف النزق لمحافظ البصرة مما سيؤدي الى اضطراب الأوضاع وخروجها عن السيطرة،فأصدر الأمر بإطلاق سراح ممثلي العمال فورا،وعاد الى المدينة في اليوم التالي مرفوع الرأس موفور الكرامة وضاح الجبين لتستقبله الجماهير بمظاهرات صاخبة،وهم يهزجون لقائدهم الفذ وممثلهم الملهم،معاهدينه على مواصلة النضال تحت راية الحزب الشيوعي العراقي وقيادته الباسلة.
ولكن الرجعية التي لم تقلم أظفارها أو تقطع شأفتها بدأت بالتحرك وحياكة المؤامرات الدنيئة،بالتعاون مع دول الجوار والمحيط العربي بقيادة مصر الفرعونية، التي كانت رأس الحربة في محاربة العراق وثورته الظافرة وقواه الوطنية الشريفة،،وبعد أن استعادت الرجعية المحلية مواقعها في أدارة السلطة،وساءهم أن يكون لهذا المناضل الكادح هذه الشعبية والمكانة الكبيرة فحاولوا إذلاله والاعتداء عليه فسخروا أجهزتهم الأمنية لاعتقاله أمام أنظار الناس و(قص شواربه) ليكون محل سخريتهم،ولكنه بما جبل عليه من أنفة وجرأة قاومهم مقاومة ضارية وأفشل خطتهم الدنيئة،وما أسرع ما دوهمت داره من قبل الجهات الأمنية،بغية العثور على ما يدينه،وعثروا على المنشورات الشيوعية فقامت زوجته المناضلة بمقاومتهم مقاومة ضارية،واشتبكت معهم في صراع مرير فالقي القبض عليها إلا أن جماهير البصرة الثائرة أجبرت السلطة على أطلاق سراحها،وحكم عليه بالحبس لمدة أربعة سنوات أرسل على أثرها الى سجن نقرة السلمان ،المدرسة الشيوعية الأولى التي تربى فيها خيرة الكوادر الشيوعية،وهناك وجدها فرصة لتعلم القراءة والكتابة،والاستزادة من المعلومات النظرية التي كانت تدرس من قبل أساتذة مختصين،فدرس الماركسية،والاقتصاد السياسي،وتاريخ الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي،والنظرية المادية وعلم الاجتماع وغير ذلك من الدروس التي كان يقوم بتدريسها الكوادر الحزبية المتخصصة،وقد صدر عليه حكم جديد بالحبس لسنتين أخريين ،وأطلق سراحه لشموله بقانون العفو عن السجناء والمعتقلين السياسيين في عام 1968،ليبدأ مجددا العمل في صفوف حزبه الشيوعي ويتصدر نضاله في تلك الفترة،وقد دعي من قبل اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي للمشاركة في المؤتمر الرابع والعشرين عام 1978،وبعد عودته من هناك القي القبض عليه من قبل السلطة الصدامية بعد ظهور بوادر التراجع عن العمل الجبهوي وتضييق الخناق على الشيوعيين،وأطلق سراحه ليعتقل مرة ثانية عام 1979 ،ولم يعرف مصيره بعد هذا الاعتقال حتى سقوط النظام العفلقي عام 2003 ،وتبين أنه أعدم في مديرية الأمن بعد أن أصدرت عليه محكمة البندر حكمها بالإعدام.
واليوم في ذكرى عيد العمال العالمي يستذكر الشيوعيين وأصدقائهم هذه القامة الشامخة في تاريخ الحركة العمالية العراقية،وأيام النضال المجيد لحزبنا الشيوعي العراقي عندما كان يتصدر الصفوف في النضال الوطني وبناء المستقبل المشرق السعيد.
العودة الى الصفحة الرئيسية
في بنت الرافدينفي الويب