لك فدوى مني سلام .. ارسمه وانحت حروفه على قبرك تشاهدينه .. تتلمسين حروفه، وأنت في مضجعك علكٍ تعلمين أننا في عالم يحيط بك ، ولا تفصله عنك غير مصفوفة حجارة لملمت عظامك تحت التراب ...

كتبت الأديبة فدوى طوقان صفحات عذبة، رطبة، توزعت سطورها ما بين الحب، والحزن، والألم ، والفراق ...

عانقتها الغربة وهي في ربوع دارها .. صارعت ثقافتها البيئية لاسيما أنها عانت صراعا ما بين القهرية وفوق "المحافظة"، ووقعت فريسة ما بين دفقاتها نحو التحرر، وقيود الحاضر ..

عانت جدوب ، وبرودة عاطفة الأبوة، فانعكست بشكل واضح على ملامح ومسيرة حياتها ، شكلت خريطة جسدتها خواطرها النفسية ، وسقطت إمضاءات العديد منها على النصوص .

فدوى طوقان ...

فتشت بعض من ماضيك الدفين ونقبت أطلاله .. فحيرتني سطور ماضيك .. وجدت فيها حالا وصفتيه .. لفته أهوال وأهوال .. وما زاد حزني، ما أخبرتي به  جفوة ، ونضوب من أب غاب عن صدره الحب والحنان .. عكست ملامح حياتك لولا تجذرك بضوء قادم حمل في ثناياه أملا لقضيت مهدك مكبلة على أبواب اللحد سدى ..ولم تثمر أشجارك من بعد .

قضيت أطوار الصبا والشباب رهينة بين محبس محكم جداره، و ظلام ثقافته عزلة اكتوت بوهيج العيب والعار .. دوما قدموها ... تقاليد من وهم ..

ذاك الزمان زمانكم .. قهر وظلم للإناث دون الذكر .. فالمرأة عار يخشون أن تنال من عفتها ذئاب الذكور ، وتوصم بعارها الأسر !! وكأن الرذيلة لا تصنعها سوى النساء ، أما الرجال كأنهم في بروج العفة والعصمة من الزلل !!

كتبت ، وصفت زمانك .. والمكان والغربة والألم .. والحزن .. وغنيت للأمل .. للنور القادم يشق وحشة الظلام ويبدد الظلم .. غنيت للعشق للثورة للغضب ...

 نبوءة العرافة ....

ماذا أخبرك العرافون يا فدوى طوقان ؟!

حين بلغت في حينها طور الشباب والصبا ..أينعت فيك زهرة الربيع.. دلالا وخجلا من خلف الأبواب الموصدة .. أخبرتك الرياح بما أخبرتك بواطن سريرتك، تصارع أعماق اكتوت ما بين الضلوع والفؤاد .. طوت الليالي بزمانه .. كالدهر واكتوت بوهيج عذابات السجين من ذاك السجان.

عزلوا فؤادك عن الدنيا وعمارها .. ونعمة الوصل بدنيا قد لا تكون عامرة في زمانها سوى الألم.. والرعب المحدق بالمكان ..

مضت الأيام بلياليها العجاف .. والزمان والمكان باقٍ .. والخلان قضوا .. ومضى ربيع العمر دون ان يزهر البستان ..

من أغدق عليك بنعم الفؤاد خطفه المنون مبكراً ... من علمك تشكيل الحروف وفك طلاسمها . فاض الأسى صدرك بوداعه .. وبقيت رهينة محبس أب صدره جفت ينابيع حنانه ، وسجن شيد جدرانه الأهل والخلان ..

ثقافة فجة في حاضر زمانهم سطت عقول ، لا ذنب لك فيها ولا قرار ، خاصمت زمانهم وحاضرهم،  ونقشوا على جدران وجدانك غضبا لم تنفض منه سريرتك ..

أخبرتك الرياح ان فارسا قادما إليك يشق الرياح يعبد الرعد له طريقاً !! فأي طريق تلك التي تعبدها الرعود الرياح ؟! فهم حجبوا عنك الرياح وصنعوا من جدارك زنازين هواجسهم .. فعزلوك عن الدنيا كمن شوارعها تعج بالكلاب والذئاب !! فذاك زمان عجيب ، أن تجد من لا تحبه ولا تبغضه ، ولا يربطك به سوى فريضة الاحترام .. سمعت أن هذا كثر من أهل زمانكم ... من نسوة اكتوين بظلمة عقول الأهل ، وكانوا كعبده الأوثان ...

فهل الأنثى عارا يكسر هيبتنا ، فلو كان هذا فلم أنجبت النسوة نساء !!

اسألوا أنبياء الأرض كلهم عليهم السلام ،ألم تنجبهم رحم النساء ؟ فهل المرأة عار وهي أنجبت أنبياء ؟!

وجدت في سقف مبيتك تصدعا لم يكن أبلغ أثرا ، مما صنعه جور الأحبة. فعند شرفتك المخلوعة كخلع القلب الذي تهدمت منظومة نبضاته..   

  أقحموا بنان عقلك في حيرة .. تسألين فيها عن جدوى الخلق لأنثى ، جاروا عليها بتسلط الوضاعة .. ليس هذا حالك فحسبك ؛ بل كحال حواء في ذاك الزمان !!

أرض خصبة أصابها قحط لولا مفاتيح وصيتها ، في معصم من أساء لصيرورتها ا

حين جاءك الفارس من وسط الرياح ، نفض الغبار والحطام من حولك ، دق جرس الباب ، طمأنك ووصلك بهمسات العاشق الولهان ، فالعاشق لا يخشى الليل ، وإلا لما تغنى العشاق بالليل ونجومها وقمرها ، ولما نظم الشعر الشعراء لليل وما خبروا عشق الليالي والسهر ..

مضيت في ليلة بعد مطي ظهر خيل فارس تجسدت معالمه ، في النص وغنيت برفقته وغرست الصحاري بالأزهار ، ورصعت ثوب الليل بالكهرمان .

وصفت ضفاف الليل ، وقد أثمر الشجر بعد جدب ، ووصفت أغصانها بعد ان كستها أوراق الشجر.. كما حولت أغصانها التي يبسها الخريف ، وتبدل الحال من خريف جفت أغصان أشجاره،وسقطت أوراقه إلى ربيع فرد حلته وتباهى يانعا بخضرته .. وأغصان أبت النجوم ان تمضى سدى ، فرصعت ثوب الليالي كالماس النقي البراق في ليلة زفاف عروسة شهدها البدر ..

امتطيت ظهر الخيل كغير عادتك .. وعانقت الشمس وفارسك ، وأخبرتنا كيف تزين المكان بزهر الأرض بعد الجدب ..زينت الواد والسهل .. وأطفالا يغردون في حديقة رحبة ، مشهد سطرته مهج الفؤاد . مشهد جسدته لوحات كلماتك  ..

 صوت خفي ارق مضجعك وقطع السكينة على نفسك ... هو صوت خفي داخلي،  يشدك إلى أعماق،  لن يترك أمرك من بعدها ، حتى لو قفزت جوف بئر أو تلاشيت في سرداب .

هام بوجدك أمان ٍ قد لا تحققينها في محياك ، فهربت إلى حلم أخذك إلى جنة تطوفين بها بين لوحاتها تحققين الأماني .. أروت عطش ظمأك .. ولم تنفض الرؤى إلا بعد ان فتحت أجفانك .

تواريت خلف السياج في الوادي ، في بطن الكهوف، في الجبال، حتى تلفك حلة الظلام .. ولكن .. سيلاحقك نور الضحى بعد ان تداهم عتمة الظلام .

ولم لا تتواري خلف السياج بعيدا .. وراء السحب والضباب .. وأنت ثائرة .. غاضبة من الصمت وقهر المكان ، ومن ظلم السجان . تواريت خلف ستارة أحلامك ، ولم تستسلمي لوطأة الأقدار .

ذاك "قبيل" الذي داهم المكان ، بحلته الحمراء كعادته .. يقرع الأبواب ، ينصل ألواحها الخشبية ، يتسلق الشرفات ، يهدم الجدران وينفح شحيح فمه ويجوب بلسانه .. أنيابه تبحث عن خلايا جسد العاشقين ، ليبث سمومه ، ولينتزع ما نأى به جوف الجبل في خيمة الظلام .

قابيل كعادته يسدد مسالك الريح .. يجوب الساحات .. فهو قرار قدر ان يصنع الموت .. ينشره ، هو شيطان بحلته ، غريزته نشر الظلم والطغيان ..

هناك رابض في مهجعه .. على عتبات سجنه .. يلف موطنك .. طرقاتك بجنده ، انتشر في المكان يطارد أهل الحياة .. أنفاسه مازالت تجوب المكان ، تشعل الطرقات لهيبا .. حتى أصبح الموت حنة لونت المكان .. ومازال يجوب مسارات المكان .

صرخت من جوفك .. استجديت بلا نفع ، وذهبت أمانيك سدى .. فقد سبق قرار الموت كل الكلمات .. اعدموا أحلامك على مقصلته ، ففصلوا رأس فارس أحلامك في غفلة ، لن تعودي من بعدها على ظهر جواد فارس ، شقت له الرياح وعبدت له الرعد والبرق طرقا ولم يبق سوى النحيب يلازم مهجك .. فصناعة الموت ديمومة في دم قابيل .. ولا يحسن صنعا سوى الخراب والدمار ..هكذا الأشرار بطباعهم تغلبهم الغرائز حتى لو تحلوا بأزهى حلة من رحاب الكون .. فلا مأمن لشرير حتى لو بدا في حلة كملاك .

     سكن المكان صمتا وحل الأسى ،وغطيت الأغصان بنحيبك ، وصورة المشهد لفته رهبة .. مريبة .. تصدعت من بعدها غصون الشجر ، وتساقطت أوراق الربيع ، وعصفت بالمكان زوبعة ، بددت كل ألوان لوحة رسمها فارس الريح من وسط الرعد والمطر .

مزقوا ضلوع فارسك .. مزقوا الفؤاد الدفين خلف العظام .. وبعثروا دماءه في المكان ..لملمت أشلاءه الممزقة .. المبللة ..المختلة بالتراب .. بالحصى ورائحة الدم تفوح مسكا في المكان ..

صرخت جراح الحبيب الذي نال منه صناع الموت .. بكيت، نحبت .. على أمل أن تستشرفيه وبددته سواعدهم .. وقضى .. وتبعثرت أحلام أطفالكم الذين سيغردون في المكان .. ضحكاتهم باتت حلما ومضت فلم تتوجه الأيام المقبلة .. أصبحت كمن مسه الجن .. أطبق العقل عن تمييز الحلم ، وواقعة تجلت رهيبة فمزقت الوجدان .. وصنعت غضبا .. ولكن كان واضحا ضعف حيلتك بعد ان خارت قواك في رهبة الموت الآثم ..

خيم المكان صمت رهيب .. ولم يعد يقطع السكينة ، والصمت، سوى نباح كلاب البرية الضالة وعواء الذئاب ..

حملت بين راحتيك زهورا ، أوراقها ناعمة ندية.. رائحتها تفوح .. ورششتها على صدر الحبيب .. بعثرت منها على السهل، على الوادي ، تقدمت بخطى مثقلة وبين راحتيك  باقة لبعض من زهور معطرة  وأهديتها للنهر .. قدمت وصيتك للرياح .. للمكان..للأشجار .. إذا مضى وانقضى أيار وأنت رهينة شقوق غرفتك وزلزلت الرياح نوافذك وعادت أصوات قابيل تجوب المكان ان تخبرك الرياح عند دورة الفصول القادمة .. بأمطار الشتاء .. وفي الربيع .. ان تنشر ورود وزهر بستان السهل على قبر الحبيب فارس شق الرياح وعبّد البرق والرعد له طريقا لم يعد من بعده..  ملحمة لفارس شقت الرياح له طريقا فغدا قربانا لمحبوبة حبيسة لن تبرح من بعدها .. ولن تزور قبره إلا في هيام وجدها فهي مازالت رهينة قابيل صانع الموت في كل مكان .. ويا ليت العرافة ما تنبأت !!!       

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com