هل أجهض آل الحكيم مشروع انقلاب عسكري وطني في الستينات؟
د. حامد العطية
hsatiyyah@hotmail.com
كان "أبو محمد" راوية أخبار، من الطراز الأول، ومثله نوادر في جنوب العراق، لو كان معاصراً لبني العباس، لاصطفاه أحد الخلفاء ليكون نديما له، ولو لم يكن ساكناً بغداد لأصر رئيس قبيلته على مجالسته في المضيف يومياً، التقيته في ثمانينات القرن الماضي، كنا زميلين عمل لزمن قصير، قبل نفاذ صبري على طغيان البعث ومغادرتي العراق إلى المنفى الاختياري، كان أبو محمد موظفاً صغيراً، خصني بصداقته نكاية بالبعثيين الغاضبين علي لرفضي الانتماء إلى عصابتهم والتطوع في حربهم العدوانية والتصويت في انتخاباتهم الصورية، واخترته صديقاً ليس لقدراته الفذة في حفظ ورواية الأخبار والقصص الواقعية، ولا لأنه من قبيلة "آل إبراهيم"، الجارة الأبية، بل لطيبة قلبه وحسن أخلاقه ورفضه للطغيان البعثي.
جلسة واحدة كافية لتدمن على طرائف أبي محمد، كنت ولا أزال أهوي الأدب، وصرفت سنين من عمري منمياً هذا الولع، أما أبو محمد فهو أديب بالسليقة، قادر ببيانه الساحر على تحويل واقعة عادية صغيرة إلى رواية مشوقة، أضحكني كثيراً وأبكاني أحياناً، وأفضل وصلاته الكوميدية عن حياة القبليين، تمنيت لو يدونها في مقامات، على شاكلة مقامات الهمذاني، وهو أيضاً أبكاني، كما بكيت أعز الناس لي، عندما روى لي وقائع استشهاد الإمام محمد باقر الصدر وأخته الشهيدة بنت الهدى، نقلاً عما أسماه مصدر موثوق.
لعل البعض يتساءل عن أسباب تصديقي لروايات أبي محمد، الذي لم يبرز وثائق رسمية مؤيدة لصحتها، واسوق لهؤلاء المشككين وغيرهم رواية واحدة، صدقتها الوقائع المادية، جاءني أبو محمد يوماً وعلامات الاضطراب بادية عليه، فلما سألته عن السبب، أجابني بصوت مفعم بالتأثر بأن العراق يخطط لشن الحرب على إيران بعد ستة شهور، وبأنه يتمنى لو يستطيع الوصول إلى قادة إيران الإسلامية لتحذيرهم، قلت له: لا تصدق الخبر! لأن أي قاريء للتاريخ يعرف جيداً بأن إيران منيعة على الغزاة، وشعبها الذي نجح بالاطاحة بحكم الشاه سيهب قبل حكومتها للدفاع عن أرضه، وستكون نهاية النظام البعثي وشيكة لو أقدم على هذه المغامرة الحمقاء، لكن أبي محمد لم يقتنع باستنتاجي العقلاني بضعف احتمال حدوث الحرب، بعد حوالي ستة شهور اقترف صدام حسين أكبر حماقة في حياته بعدوانه على إيران الإسلامية، وصدق أبو محمد، لذا لم أظنه مدعياً عندما أكد لي بأنه لم يكن ليتردد في إطلاق الرصاص على الطاغية صدام، قبلها بقليل كان الطاغية قد غادر مكان عملنا بعد زيارة مفاجئة، كان أبو محمد يعض أصابعه ندماً وحسرة، وهو يردد: هذا هو اليوم الوحيد الذي لم أحمل فيه مسدسي الشخصي، والله لو كان بحوزتي لرميت صدام بالرصاص، ولا أبالي بما يحدث لي بعد ذلك، ولم يخامرني أدنى شك بأنه صادق، فسلام على أبي محمد أينما كان.
أطلت في التقديم لموضوع المقالة، لكي أبين أسباب اعتقادي بأن أبي محمد ثقة في نقل الأخبار، لذا أميل لتصديق ما رواه لي يوماً عن مشروع انقلاب عسكري، خطط له ضباط وطنيون مخلصون، آبان حكم عبد الرحمن عارف، عندما بلغ حماس الشارع ذروته، كما شهدت على ذلك المواكب الحسينية الحاشدة، التي كانت تنطلق من بغداد وغيرها من مدن العراق الوسطى والجنوبية، وقبل سرد الخبر لا بد من التنويه بأنه لم يكن منقولاً من مصادر ثانوية، بل من مخططي الإنقلاب أنفسهم، وهم ليسوا بغرباء على أبي محمد، فهم أخواله، لذا فقد كانت أشبه بشهادة شاهد من أهلها، تفاصيل الخبر هي كما يلي: اتفقت ثلة من ضباط الجيش العراقي على القيام بانقلاب على نظام عبد الرحمن عارف، مستغلين ضعف النظام، وترأس المجموعة ثلة من السادة الياسرية، أخوال أبي محمد كما كان يسميهم، ولعل أولاد هؤلاء الأخوال كانوا من ضمن السادة الياسرية الذين اصطحبهم أبو محمد لتعزيتي بوفاة والدتي رحمها الله، وعودة إلى الرواية: ولما كان هؤلاء الضباط غير طامعين بمناصب سياسية بعد الإطاحة بحكومة عارف الثاني فقد صمموا على زيارة المرجع الديني الكبير السيد محسن الحكيم رحمه الله، لكسب تأييده ومباركته للإنقلاب، وللحصول على توجيهاته حول حكومة ما بعد الإنقلاب، وبالفعل فقد قصد الضباط مجلس آل الحكيم، وكان أولاد السيد الحكيم، وهنا لم يحدد أبو محمد أسمائهم، حاضرين، فما أن تعرفوا على الضباط الياسريين حتى بادروهم بالقول: لقد جاءنا اليوم الشيوعيون! وآنذاك أدرك الضباط بأن لا أمل بحصولهم على تأييد آل الحكيم، فقاموا منصرفين، وبعدها بفترة قصيرة حدث الانقلاب البعثي في 1968م، لتبدأ أحلك فترة في تاريخ العراق، كان معظم ضحاياها من الشيعة الأبرياء، ولو انصت آل الحكيم لهؤلاء الضباط، وأعانوهم على تنفيذ الإنقلاب، واستبدال النظام العارفي بحكومة وطنية، تضم كل فئات العراقيين وتحفظ حقوقهم، لما ابتلى العراقيون بالشرور المستطيرة للبعثيين، ولما تعرض آل الحكيم أنفسهم ومئات الألاف من العراقيين للإعدام والقتل والسجن والتشريد، ولما شن الطاغية صدام حربه المجنونة على إيران، ولما احتل الكويت، ولكانت أرض العراق خالية من المقابر الجماعية، ولكان العراق بلداً حراً مستقلاً، لا تحتله قوات أمريكية لإضعافه وسلب ثرواته، ولا يقصده الإرهابيون السلفيون لقتل وتشريد سكانه، ولو نجح انقلاب السادة الياسرية لربما كان العراق قوياً ونامياً وآمناً كما يتمنى كل المخلصين من ابناءه.
العودة الى الصفحة الرئيسية
في بنت الرافدينفي الويب