تشهد الدبلوماسية الفرنسية في الوقت الحاضر أزمة حادة تتفاقم منذ فترة طويلة وأهم ملامح هذه الأزمة هي أن الدبلوماسية الفرنسية لم تستوعب جوهر وأهمية أخطر وأكبر تغيرين حدثا في الربع الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين وهما أولاً سقوط جدار برلين في 9 نوفمبر 1989، والذي أدى إلى انهيار الكتلة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفيتي، وثانياً حدوث هجمات الحادي عشر من أيلول2001 في مركز التجارة العالمية في نيويورك وواشنطن في وزارة الدفاع ، وبالتالي فإن فرنسا لم تكييف سياستها الخارجية مع تحولات العالم الخارجي كما ينبغي لأنها ما تزال أسيرة رؤيتها القديمة النابعة من قيم ومعايير وأعراف وقواعد التعامل مع معطيات الحرب الباردة ، ولأنها ما تزال غارقة في جليد نزاع الكتلتين وما ينطوي عليها من حسابات إستراتيجية.من هنا تعاني فرنسا من صعوبات في فرض نفسها على رقعة الشطرنج الدولية مما جعلها ترتكب أخطاء قاتلة في سياساتها الخارجية في كل مكان في العالم، في أفريقيا حيث منطقة نفوذها القديمة في العهد الكولونيالي، وفي أوروبا ، لاسيما بعد توسيع الاتحاد الأوروبي، وفي الحلف الأطلسي ، وكذلك، وهذا ما يهمنا في المقام الأول، في الشرق الأوسط حتى أن الكثير من الخيارات الدبلوماسية كانت تتعارض وتتناقض مع القيم السامية العليا  التي تستند إليها فرنسا منذ الثورة الفرنسية باعتبارها منشأ حقوق الإنسان والحريات الأساسية . ولكن ومنذ انتخاب نيكولا ساركوزي قبل عام ، تعهد هذا الرئيس الجديد بإحداث قطيعة مع السياسة الخارجية الفرنسية السابقة وتحريك الخطوط الثابتة في تلك الدبلوماسية وكسر الجمود الذي يلفها لاسيما العلاقات مع الولايات المتحدة وإعادة النظر  بالملف العراقي  والتعامل معه بنظرة جديدة في محاولة لاستعادة التأثير الدولي لفرنسا.

وكمدخل لعلاقة بغداد – باريس يتعين علينا تذكر عبارة جاك شيراك الرئيس الفرنسي السابق عندما كان رئيساً لوزراء فرنسا سنة 1974 في عهد الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان مخاطباً صدام حسين :" أنت صديقي الشخصي وأوكد لك بأنني أكن لك كل تقديري واحترامي الشديدين" . كان ذلك قبل خمسة وثلاثون عاماً تقريباً. ومايزال الكثيرون في السلك الدبلوماسي الفرنسي وفي الوسط السياسي  يعتقدون بأن الوضع في العراق كان يمكن أن يكون أفضل بكثير لو أن صدام حسين بقي في السلطة سنة 2003 على غرار ما حدث سنة 1991 في أعقاب حرب تحرير الكويت ، لأن الديكتاتور العراقي المقبور ، الذي حوكم وأعدم في ديسمبر 2006، كان شخصاً يمكن أن تتفاهم معه فرنسا ولأنه يمثل حسب اعتقادهم " الاستقرار" ، على الرغم من كونه استقرار شكلي ووهمي خادع حكم على ملايين الناس من العراقيين بالخوف الدائم والرعب والفقر والعوز والحاجة والحرمان من أبسط الأشياء التي تتوفر لأفقر شعوب الأرض، وفي نفس الوقت كان ذلك " الاستقرار  الوهمي" يضمن للبعض فرصاً  لتوقيع الصفقات والعقود المربحة لتحقيق الإثراء السريع على حساب حقوق ومصالح الشعب العراقي  تستفيد منه عصبة مجرمة  تشكل الحلقات القريبة من الرئيس المخلوع وقادة الحزب الحاكم فقط. ولايهم فرنسا وغيرها من دول الغرب التي ساندت وساعدت ودعمت وسلحت الدكتاتور الدموي المليوني ضحية  من العراقيين الذين يتحمل صدام حسين شخصياً مسؤولية دمائهم الزكية ، وملايين أخرى من المنفيين والمشردين والمهجرين. والكل يعلم وعلى رأسهم الفرنسيون أنفسهم أن صدام حسين كان يمنع وقوع الإنفجار الشعبي  ويحتوي غضب الجماهير بقوة القمع والقسوة والقتل والإعدامات والاعتقالات في سجون رهيبة واتباع سياسة القبضة الحديدة على هذا البلد المكون من عدة قوميات والمتنوع الثقافات .

الصداقة الشخصية بين صدام حسين وجاك شيراك تعود لسنوات بعيدة وهي مدموغة بتداعيات الصدمة النفطية الأولى سنة 1973 . ففرنسا كانت تطمع بالحصول على امتيازات الذهب الأسود العراقي وهي تعلم أن هذا البلد يمتلك ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم فضلاً عن أن نفطه يعتبر الأجود والأفضل والأرخص  والأسهل استخراجاً . إضافة إلى أن فرنسا تعتبر العراق منذ زمن بعيد بمثابة الثقل الموازي للتأثير الإيراني في المنطقة والدرع الواقعي ضد السلطة الثيوقراطية التي أسستها حكومة الملالي في إيران بعد الثورة الإيرانية عام 1979 بقيادة الإمام الخميني. اعتبرت فرنسا آنذاك أن صدام حسين زعيم علماني وعصري منفتح وأكثر قبولاً مقارنة بباقي الزعماء والملوك والأمراء في المنطقة الذين تعتبرهم منغلقين ومتعصبين ورجعيين حتى أنها وصفت بعضهم بالظلاميين.

كان الهدف الخفي لفرنسا منذ نهاية الستينات هو ترسيخ وتثبيت وتوسيع تأثيرها في منطقة خاضعة تاريخياً وتقليدياً للسيطرة والنفوذ الأنجلو – ساكسوني .

قام صدام حسين في مطلع السبعينات وبالتحديد عامي 1972 و 1975 ، عندما كان نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة بزيارتين لفرنسا . وقد أستقبل بحفاوة بالغة تخطت العرف  والإيتيكيت الدبلوماسي المتبع حيث استقبل كأنه رئيس الدولة العراقية الفعلي والرسمي.وفتح له جاك شيراك رئيس وزراء فرنسا آنذاك أبواب مركز الدراسات النووية في كاداراش وهو أحد أكبر وأشهر المراكز النووية تطوراً وتقدماً في العالم . وفي تلك اللحظة اختبرت مفوضية الطاقة الذرية نوايا المسؤول العراقي الحقيقية في هذا المجال.

 

 وبسرعة مدهشة أعلن جاك شيراك التوقيع على بروتوكول أو اتفاق تعاون في المجال النووي بين البلدين، يتم بموجبه تزويد بغداد بمفاعلين نوويين للأبحاث . وكان صدام حسين سعيداً جداً ومنتشياً عندما صرح بحماس وبلا مواربة :" هذه هي الخطوة الأولى نحو صنع القنبلة النووية العربية". قدمت باريس إلى العراق  التكنولوجيا الفرنسية المتطورة والحساسة، وبالأخص المفاعل النووي أوزيراك، الذي دمرته إسرائيل عام 1981 بعملية قصف جوي تمت ربما بتواطؤ فرنسي ، مقابل حصول فرنسا على حصة من السوق العراقية الواعدة آنذاك. فكان أن قامت بغداد بطلب شراء طائرات ميراج ف 1 الفرنسية التي تصنعها شركة داسو الشهيرة وكذلك شراء مستشفى عسكري جاهز ومتطور جداً . وفي نهاية سنوات السبعينات أصبحت فرنسا ثاني مورد للتجهيزات العسكرية والمدنية للعراقيين بعد الاتحاد السوفيتي . وعندما كانت تواجه بغداد بعض الصعوبات في تسديد الديون المترتبة عليها لصالح فرنسا تقوم باريس بإعادة جدولة تلك الديون. أما الطيارون العراقيون الذين خدموا في القوة الجوية في الجيش العراقي وشاركوا في الحرب على إيران وقصفوا مدنها بين 1980 و 1988 وضربوها بالمواد الكيمياوية أحياناً ، فقد تدربوا في فرنسا على فنون القتال الجوي المتطورة في القاعدة الفرنسية سولينزارا في جزيرة كورسيكا . وقد اعترف أحد الطيارين العراقيين في مقابلة مع إحدى الصحف الفرنسية بعد سقوط النظام الصدامي، أن كل ما تعلمه من خبرة كان في فرنسا وبفضل جهود مدربيه الفرنسيين.

المعادلة العراقية تنطوي على تناقض ومفارقة تترك المتعمن بها حائراً خاصة من الفرنسيين. فلقد ساعد الغرب وسلح العراق بأحدث الأسلحة ثم بات على هذا الغرب  أن يقصف ويحارب  العراق الذي سلحه ويحارب ضد أسلحة من صنعه أصبحت موجودة بين أيدي العراقيين وذلك خلال حرب الخليج الأولى التي اندلعت إثر غزو العراق للكويت سنة 1990 وشن قوات التحالف الدولية ، ومن ضمنها فرنسا، حرباً ضده سنة 1991. فبعد الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي تأتي فرنسا في المرتبة الثالثة في تسلسل مبيعات الأسلحة في العالم. وقد باعت  وزودت العراق لفترة طويلة بمختلف  المعدات والتجهيزات العسكرية. وقد اعترف السفير الفرنسي بيرنارد دوران بأن طائرات الميراج الفرنسية المطلية باللون الأبيض هي التي شاركت في قصف مدينة حلبجة بالغازات السامة وضربتها بالسلاح الكيمياوي  سنة 1985 وأدت إلى مقتل واستشهاد 5000 ضحية في ثواني معدودات  جلهم من النساء والأطفال والشيوخ والعجائز، فضلاً عن مشاركة طائرات السوبر إيتندارد الفرنسية في قصف المنشآت النفطية الإيرانية ونقلات النفط إبان تلك الحرب.

في ذلك الوقت كانت الصداقة الفرنسية – العراقية تدار وتغذى وتدعم من قبل لوبي فرنسي موالي لصدام حسين وكان يشكل قوة ضغط قوية ويضم اللوبي الصدامي في فرنسا شخصيات حكومية ووزراء ونواب برلمان وإعلاميين ورؤوساء شركات ورجال أعمال  وعسكريين وسياسيين ورؤوساء وقادة وكوادر عليا لأحزاب سياسية متنفذة أغلبها من اليمين واليمين المتطرف . وكانت السفارة العراقية تنظم في كل عام في 17 تموز حفل استقبال  باذخ في حدائق بيت السفير العراقي في باريس بمناسبة وصول حزب البعث للسلطة بانقلاب عسكري  أسماه ثورة  وجعله يوماً وطنياً. وعلى الرغم من الحرب المشتعلة مع إيران ، وكان العراق فيها هو المعتدي، وعلى الرغم من تجاوزات وانتهاكات النظام الصدامي  لحقوق الإنسان وبطشه بمعارضيه وقسوته ووحشيته ضد شعبه ، لم ينطق أحد من المسؤولين الفرنسيين في ذلك الوقت بتعبير الدكتاتور العراقي أو النظام الدكتاتوري في العراق عندما يتطرق الحديث لذكر صدام حسين ونظامه في جميع المناسبات وحفلات الاستقبال والمحافل السياسية والإعلامية. كان فندق الرشيد في قلب العاصمة العراقية يعج ويزدحم في صالاته وممراته بالدبلوماسيين والسياسيين ورجال الأعمال والكثير منهم من مساعدي وزير الداخلية الفرنسي الأسبق شارل باسكوا الذي تلقى أمولاً نقدية هائلة من صدام حسين في حقائب  لتمويل  حملاته الانتخابية وكذلك كان يتواجد باستمرار في العاصمة العراقية أتباع وأنصار الزعيم الفرنسي اليميني العنصري المتطرف جان ماري لوبن وأعضاء حزبه الجبهة الوطنية  الذين يختلطون ويترددون على الأشخاص المحيطين أو المقربين  من صدام حسين تحت ذريعة فضح وإدانة الحصار الدولي المفروض على العراق منذ غزو الكويت.

لقد ذهبت الجمهورية الفرنسية الخامسة بدعمها للدكتاتور العراقي بعيداً وبالغت في تأييدها ومساعدتها له. ولقد كشف سفير فرنسا الأسبق لدى الأمم المتحدة بيير لوي بلان عن حقيقة تقول أن فرنسا ، في نهاية سنوات الثمانينات، عندما كان جاك شيراك رئيساً للوزراء للمرة الثانية ولكن هذه المرة في عهد الرئيس الاشتراكي الراحل فرانسوا ميتران، كانت قد تبنت موقفاً دبلوماسياً مسانداً لصدام حسين وكان شيراك قد أعطى أوامره وتوجيهاته لسفير بلاده في الأمم المتحدة بمنع إدانة صدام حسين في هذا المحفل الدولي بعد استخدامه للأسلحة الكيمياوية المحرمة دولياً ضد الأكراد. وقال السفير الفرنسي في الأمم المتحدة بالحرف الواحد :" إتصل بي جاك شيراك من كتبه في مقر رئاسة الوزارة في ماتنيون  بصفته رئيساً للوزراء وطلب مني التدخل بكل قوة في صياغة نص القرار الدولي الذي كان ينوي توجيه تهمة وإدانة لرئيس الدولة العراقي شخصياً وبالإسم لاستخدامه الأسلحة الكيمياوية ومنع ورود نص بالإدانة الصريحة ".

مازال الغموض يلف تلك العلاقة الخاصة بين المسؤولين العراقي والفرنسي وتحيط الأسرار بالعلاقات الخاصة التي تربط بين فرنسا وعراق صدام حسين خلال السنوات الثلاثين المنصرمة . وعندما طرحت فكرة إزاحة صدام حسين عن السلطة وإطاحة نظامه عام 1991  كان  جاك شيراك يعتقد وبقوة أن الأنظمة العلمانية والتقدمية ، والتي وضع نظام صدام حسين على رأسها، في المنطقة ستنتصر على الأنظمة الرجعية والقبلية الموالية والتابعة لأمريكا ، كما أورد ذلك بيير لوي بلان في كتابه " حقيبة دبلوماسية – ذكريات وشخصيات وتأملات" الصادر عام 2004، وكان جاك شيراك يريد ويرغب بأن يجعل فرنسا الحليف الأساسي في الغرب للعرب حسب تقدير هذا الدبلوماسي المخضرم. وقبل شن حرب عام 2003 خاطرت فرنسا وراهنت بعلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية وتحدتها في الأمم المتحدة باستخدام حق النقض الفيتو كل ذلك بغية منع إنهيار نظام الطاغية صدام حسين بأي ثمن  ولكن ماهو المقابل الذي كانت تأمله فرنسا من ذلك الموقف؟ لو كانت فرنسا قد نجحت في إنقاذ نظام صدام حسين من السقوط  وبقائه في السلطة حتى لو وقعت الحرب كان يمكن لها إنقاذ الكثير جداً من امتيازاتها وليس أقلها عقود الشراكة النفطية في الكثير من الحقول الغنية التي أبرمها صدام مع الشركات الفرنسية النفطية العملاقة قبل الحرب بالرغم من الحصار والمقاطعة الدولية ولدي تفاصيل وأسرار كثيرة ومدهشة عن هذا الملف ليس هنا مجال ذكرها سأخصص لها بحث خاص لاحقاً. وفي المحصلة النهائية  خسرت فرنسا رهانها ولم تحصل حتى على الحد الأدنى من العقود والصفقات التي كان يفترض أن توقعها في ظل حالة الفوضى والدمار والخراب التي تعرض لها العراق من جراء الحرب وحاجته لإعادة البناء والإعمار في كل المجالات والإنطلاق من الصفر تقريباً.

الدبلوماسية الفرنسية لم تنس بعد ردة الفعل الأمريكية حيال فرنسا بسبب موقفها المناويء لأمريكا حيث صرحت كونداليزا رايس في ذلك الوقت بعبارة تحمل الكثير من الدلالات والمغزى العميق حين قالت بغضب:" يجب الصفح عن الروس  وتجاهل الألمان ومعاقبة الفرنسيين" بسبب موقف هذا الثلاثي الدولي من الحرب التي كانت تعد لها الولايات المتحدة الأمريكية . ولقد اعتبرت أغلب القوى السياسية العراقية ، التي كانت بالأمس في المعارضة وأصبحت اليوم في السلطة، فرنسا كأحد الدعائم الرئيسية داخل المجموعة الدولية التي دعمت وساعدت النظام الصدامي في البقاء في السلطة قبل انهياره الأخير، لاسيما القوى الشيعية والكردية  التي تتقاسم السلطة اليوم بعد سقوط صدام حسين ورميه في مزبلة التاريخ. علماً أن أمريكا ليست بريئة تماماً من دعم ومساندة صدام حسين وبقائه كل هذه العقود الطويلة في السلطة كما تقول الدبلوماسية الفرنسية في دفاعها عن نفسها لأن أمريكا هي المسؤولة الأولى في المجتمع الدولي عن وصول حزب البعث إلى السلطة سنة 1963 وعودته عام 1968 وكانت على اتصال بصدام حسين عندما كان لاجئاً في القاهرة حيث التقت به المخابرات الأمريكية ونسقت معه فكرة الانقلاب العسكري على الزعيم عبد الكريم قاسم وهذا موجود في الملفات السرية للدبلوماسية الفرنسية.كما أن أمريكا هي المسؤولة الوحيدة عن بقاء صدام حسين في السلطة بعد حرب الخليج الأولى عام 1991 والسماح له بارتكاب أفظع الجرائم وأنهار الدماء  والإعدامات والقبور الجماعية التي تعرض لها الأكراد والشيعية إبان الانتفاضة الشعبانية التي دعت أمريكا نفسها إلى اندلاعها  لإسقاط صدام حسين ثم تخلت عنها ومنعت عنها الدعم والمساعدة والتأييد تاركة صدام ينفرد بالمنتفضين العزل ويذبحهم تحت أنظار الأمريكيين والفرنسيين الذين كانوا مشاركين ومتواطئين في تلك المذبحة الدامية لأنهم طرف مشارك في الحرب  وكانوا أول من عارض إسقاط النظام الصدامي ودخول قوات التحالف الدولي إلى بغداد الأمر الذي كان ممكناً وسهلاً آنذاك باعتراف صدام حسين نفسه الذي كان يستعد للهرب ومغادرة العراق  والمعروف أن فرنسا كانت أحد الأطراف المهمة التي أقنعت إدارة بوش الأب بوقف إطلاق النار وترك صدام حسين في السلطة  إلى جانب تدخلات من بعض دول الخليج كالسعودية والإمارات بل حتى الكويت نفسها لأنهم كانوا يخشون من سلطة شيعية بديلة لصدام حسين قد تكون أشد عليهم  من سلطة صدام وكان هذا هو ذاته الطرح الفرنسي الذي تبنته الدبلوماسية الفرنسية آنذاك وبالتالي فإن صدام حسين مدين في بقائه إثنتي عشر عاماً إضافية في السلطة في العراق لفرنسا أولاً ولأمريكا أيضاً.

في سياق تلك الصداقة الطويلة الأمد بين فرنسا وصدام حسين ، التي اصطبغت  بكثير من الأموال والعقود والصفقات والعمولات المشبوهة  خلال سنوات الحرب الرهيبة بين العراق وإيران ومابعدها، حيث تمخضت تلك الصداقة المريبة خلال سنوات الحصار الطويلة  عن فضيحة " البونات النفطية" في إطار قرار النفط مقابل الغذاء وخارجه ايضاً في عمليات تهريب النفط العراقي، والتي نجم عنها فضائح عن رشاوي وشراء ذمم استفاد منها رجال أعمال وسياسيين ومسؤولين فرنسيين كبار  وأشخاص من جنسيات أخرى وصلت إلى إبن كوفي أنان  وعدد آخر من النخب الفرنسية ولدينا الكثير من الوثائق والتفاصيل عن هذا الملف أيضاً سننشرها لاحقاً لاسيما عن بذخ وتبذير الأمم المتحدة لأموال وثروة العراق على حساب الشعب العراقي الذي أبقي جائعاً ومحروماً لأكثر من عقد ونصف من الزمن. لم تنكشف بعد جميع أسرار هذه القضية  وما ظهر منها وهو فقط السطح العائم من جبل الجليد كما يقول المثل، ويثير الاشمئزاز بخصوص منح بونات نفطية لبعض المسؤولين الفرنسيين فضحت بعضهم جريدة المدى العراقية مؤخراً ، مقابل سعيهم واستغلال مناصبهم  لرفع الحظر عن النظام الصدامي وإعادة الاعتبار له وإدماجه في المجموعة الدولية  ودفاعهم عن ذلك النظام الإجرامي في المحافل الدولية والإقليمية والفرنسية المحلية  وكذلك لوقوفهم بعد ذلك ضد الحرب ومحاولات إسقاط النظام الصدامي وتحشيد الرأي العام ضد المشروع الأمريكي الرامي لإسقاط صدام وطرده من السلطة، وبالمقابل يمنحهم صدام حسين حصص نفطية بأسعار مخفضة أو مجاناً لكي تباع بالسعر  السائد في الأسواق الدولية أو في السوق السوداء . وقد وجهت تهم لإثنتي عشر شخصية فرنسية معروفة بتهمة تلقي رشاوي  وقدموا للمحاكمة في فرنسا كذلك بتهم استغلال النفوذ والمناصب الرسمية لأغراض ومنافع شخصية ورشوة موظفين في الدولة من قبل أجانب . ومن بين هؤلاء المتهمين شارل باسكوا  وزير الداخلية الفرنسية الأسبق في حكومة جاك شيراك وسيرج بودافيكس  رئيس غرفة التجارة الفرنسية – العربية السابق منذ عام 2002 وسفير فرنسي سابق  والذي كان مستشاراً دبلوماسياً لجاك شيراك في سنوات السبعينات، وجان بيرنارد ميريميه  وهو سفير فرنسي سابق في إيطاليا والمغرب  وممثل فرنسا الأسبق في الأمم المتحدة بين 1991 و 1995 ، ومعهم كثيرون  متهمين بمساعدة صدام حسين وأركان نظامه للالتفاف على آليات الأمم المتحدة بغية التقليل من فعالية وتأثيرات العقوبات الدولية وفك الخناق الدولي المضروب على رقبة النظام الدكتاتوري.

كان طارق عزيز، الذي يقدم للمحاكمة اليوم لكونه أحد أقطاب النظام السابق كنائب لرئيس الوزراء ووزير خارجية سابق والمسؤول السابق عن الملف الدبلوماسي، هو المحاور المفضل لدى الفرنسيين في شبكة الدعم والتأييد الفرنسية للعراق المعروفة باسم اللوبي الصدامي خاصة وأن طارق عزيز يسافر كثيراً ومطلع على العالم الخارجي  ويجيد اللغة الانجليزية وهو من الأقلية المسيحية ذات الحظوة لدى النظام السابق . وعندما سؤل يوماً عن أي بلد يرغب أن يعيش في حالة حصوله على التقاعد أو خروجه من السلطة قال سأختار مدينة النور باريس.

كان العراق هو الأنموذج الأنصع للإنحراف النفعوي الذي سلكته السياسة العربية لفرنسا الموسومة بالعديد من الأخطاء في التقويمات والحسابات السياسية والاستراتيجية والتي تكررت في ملفات عديدة أخرى سنتطرق إليها لاحقاً في دراسات مماثلة ، في أفريقيا والبلقان والعالم العربي وأوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية . قال بيرنارد دوران الدبلوماسي الفرنسي العريق في كتابه" سمني سعادة السفير" :" عرفنا كيف نقول لا للحرب على العراق ولم نحسب جيداً نتائج وعواقب وتبعات هذا الموقف الخطير. لكننا لانعرف لحد الآن كيف نجيب على الحرب ضد الإرهاب الإسلاموي المتطرف أو  الاعتداءات المتكررة التي يشنها الإرهابيون ولم تعي الدبلوماسية الفرنسية أو تستوعب حقاً بعد أن  الإرهاب والتطرف والتعصب شنوا حرباً ضد الديموقراطية وقيمها . ويعتقد القائمون على الكي دور سيه " أي وزارة الخارجية الفرنسية" كما لو أن الإرهاب والقاعدة ولدوا سنة 2003 مع الغزو الأمريكي للعراق وهذا عماء دبلوماسي وسياسي لاعلاقة له بالواقع".

أما جاك موريزيه سفير فرنسا الأسبق في العراق بين 1975 و 1980 ، أي في العهد الذهبي  للعلاقات الفرنسية العراقية فقد صرح قائلاً :" التقيت أكثر من 50 مرة بصدام حسين وهو يحب أن يضفي الطابع الشخصي على علاقاته مثلما كان شيراك . وعندما يستقبلني كان يعطي انطباعاً بأنه يتحاور مع الممثل الخاص لرئيس الجمهورية الفرنسية في حين لم أكن آنذاك سوى سفير بسيط لفرنسا في بلد عربي " ومع ذلك كان الرئيس العراقي سجيناً في برجه العاجي معزولاً عن العالم الخارجي الذي لايعرف منه سوى القليل الذي تنقله وسائل الإعلام العربية  لأنه لايجيد أية لغة أجنبية ولم يخرج من بلاده إلا نادراً واقتصرت زياراته للدول الأجنبية على رومانيا وروسيا وفرنسا.

غباء القيادة العراقية وجمود الدبلوماسية الفرنسية :

لدى المسؤولين  العراقيين ، وعلى رأسهم صدام حسين نفسه، مفهوم ضيق ومختزل ومركز حول علاقاتهم مع بقية العالم الخارجي ، حتى مع أصدقائهم القليلين في العالم ومنهم الفرنسيين. وهم يميلون إلى تركيز تلك العلاقات وفق مصالحهم الضيقة . ويتخيلوا أن سياسة فرنسا العربية لاتدور سوى حول العراق . وأعتقدوا أن فرنسا مستعدة لتدمير علاقاتها والتضحية بتحالفاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية من أجل العراق وهم مخطئون رغم غباء الدبلوماسية الفرنسية في هذا الموضوع بالذات". جاء هذا التشخيص على لسان دبلوماسي فرنسي لم يشأن ذكر إسمه  سنة 2002 ". رغم أن التجارب تنفي مثل هذا التصور فقبل سنوات  وتحديداً في الأول من نوفمبر سنة 1998 رن جرس الهاتف في بيت السفير الفرنسي في العراق آنذاك إيف أوبان دو لا ميسوزييه بعد  منتصف الليل وأيقظه من نومه  في مقر سكنه في منطقة المسبح في بغداد  وكان على الطرف الآخر من الهاتف  طارق عزيز وكان الإحراج بادياً عليه من خلال صوته عبر الهاتف. وكان موضوع المكالمة محرجاً. والرجلان يعرفان بعضهما جيداً وهناك تفاهم بين ممثل صدام للشؤون الدبلوماسية وممثل فرنسا الرسمي في بغداد  وغالباً ما يتم اللقاء بينهما في مبنى وزارة الخارجية العراقية عندما يرغب أحدهما تبليغ الثاني رسالة موجهة لرئيسه . وقبل هذه المكالمة بأيام، وعند عودة طارق عزيز من جولة نقاشات مهمة جرت في الأمم المتحدة في نيويورك ، هبط في باريس قبل مواصلته رحلة العودة إلى العراق وألمح للفرنسيين الذين رحبوا بزيارته  أن بلده مستعد لإبداء بعض المرونة والتنازلات بشأن ملف العقوبات والمقاطعة الدولية . وقبل هذه الزيارة القصيرة كانت الدبلوماسية الفرنسية ، وبتشجيع من الأمين العام للأمم المتحدة السابق كوفي أنان، تسعى  جاهدة وتعمل بجدية منقطعة النظير حول مسألة رئيسية وهي كيفية إخراج العراق من عنق الزجاجة والعثور على مفتاح الخروج من الأزمة العراقية التي دخلت في طريق مسدودة بسبب التعنت الأمريكي والعراقي على السواء، ألا وهي مسألة المراجعة الشاملة  لموضوع نزع الأسلحة العراقية المحظورة مرة وإلى الأبد. فبعد سنوات طويلة من عمليات التفتيش الدولية وما تخللها من عقبات وصعوبات وأزمات عديدة ، بعضها كان خطيراً جداً، أرادت باريس ، عبر دبلوماسية المجاملة ، إقناع صدام حسين أن من مصلحته الموافقة  على إجراء مراجعة شاملة وتفصيلية دقيقة لما تبقى من ترسانته من الأسلحة " الممنوعة" التي يتعين على العراق التخلص منها وتدميرها علنا مع البراهين على عمليات التدمير والتخلص من تلك الأسلحة والتي لاتقبل الدحض أو الطعن. وبالمقابل تتعهد فرنسا وبكل ثقلها الدولي بالحصول على موافقة أمريكية من الرئيس بيل كلينتون آنذاك لكي يقبل مقابل التنازلات العراقية وعلى مدى زمني قصير ، بإنهاء  العقوبات الدولية التي تشل العراق منذ أكثر من ثمان سنوات وأن يظهر أخيراً بصيص من النور في نفق العقوبات المظلم وألا تبقى العقوبات قائمة إلى الأبد ووضع حد لمعاناة العراق والعراقيين. وقد ترجم التعهد الفرنسي بالفعل في 30 أكتوبر 1998 برسالة من السفير البريطاني في الأمم المتحدة ، عندما كانت بريطانيا ترأس مجلس الأمن، موجهة لمجلس الأمن الدولي بهذا الصدد وإن كانت غامضة وفيها الكثير من اللبس والمواربة إلا أنها كانت تحمل بعض الأمل للعراق. حينها أعتقد الفرنسيون بأن جهودهم الدبلوماسية أثمرت أخيراً وسوف تعطى أكلها بعد أن نجحوا في إحداث شرخ في جدار العقوبات. زج جاك شيراك بنفسه في هذه القضية  وبلل قميصه كما يقول المثل الفرنسي . فلقد تعهد لدى بيل كلينتون ، وكان يسميه العزيز بيل، عندما كان هذا الأخير رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية ، بحمل العراق على التعاون الإيجابي ووعده بالحصول على موافقة وتأييد صدام حسين بشأن المقترح الفرنسي  للمراجعة الشاملة والدقيقة والتفصيلية لمسألة الأسلحة الممنوعة أي أسلحة التدمير الشامل التي كان يفترض أن صدام حسين يمتلكها ويخفيها عن المفتشين. ولكن لسوء حظ الجميع انفجرت حينذاك أزمة المواقع الرئاسية في شهر شباط 1998 ، وسرعان ما حثت باريس كوفي أنان لكي يتدخل بنفسه شخصياً لحل الأزمة  حتى أن الرئيس الفرنسي جاك شيراك عرض عليه توفير طائرة خاصة تقله إلى أرض الأزمة بغداد،  ليتفاوض مع صدام حسين على تسوية مرضية للجميع تمثلت بالسماح لدبلوماسيين أجانب مقيمين في العراق بمرافقة المفتشين الدوليين في المواقع العراقية الحساسة. وبعد أشهر قليلة استقبلت باريس بضجة إعلامية وبحفاوة بالغة رئيس الدبلوماسية العراقية الأسبق وممثل صدام الخاص للعلاقات الدولية طارق عزيز. وباريس متمكنة من الملف العراقي بكافة حذافيره ومطلعة على كافة تفاصيله وحيثياته إذ أن العراق هو المكان الوحيد في الشرق الأوسط الذي مازال لديها فيه مكانة وتأثير وصوت مسموع. وكان طارق عزيز يردد أمام محاوريه في وزارة الخارجية الفرنسية وأصدقاؤه في مجموعة النفوذ والضغط الفرنسية أو اللوبي الفرنسي الموالي للعراق ، نفس الخطاب  الدبلوماسي :" إن الدراسة التفصيلية والمراجعة الشاملة هي الحل الوحيد للخروج من المأزق وإنهاء الأزمة. وهذه المرة لدي أمل كبير بأن الحظر والحصار المفروضين على العراق سيرفعان خلال بضعة أشهر قليلة". وإزاء إصرار المفتشين الدوليين عن أسلحة التدمير الشامل المحظورة حتى داخل المواقع والقصور الرئاسية للتأكد من عدم إخفاء النظام العراقي لتلك الأسلحة في تلك الأماكن، ورفض الرئيس العراقي القاطع الإمعان في إهانته واستفزازه والمس بسيادته ، توصل كوفي أنان وبمساعدة باريس  وتدخل فرنسي فاعل إلى تسوية  واتفاق مبدئي وسطي يتضمن إيجاد نظام جديد للتفتيش قاد إلى تهدئة الأزمة  وبذلك نجحت الوساطة الفرنسية نسبياً وكان طارق عزيز فرحاً بتلك النتيجة حسب تصريح الدبلوماسي الفرنسي المخضرم سيرج بوادوفيكس سكرتير عام سابق لوزارة الخارجية الفرنسية لنا في عام 2002.

لنعد إلى المكالمة الهاتفية الشهيرة التي وضعت حجر الأساس لسوء التفاهم الدبلوماسي الفرنسي العراقي الأول . كان طارق عزيز على الطرف الآخر من الهاتف محرجاً وهو يبلغ السفير الفرنسي مسيو أوبان دولا ميسوزييه في تلك المكالمة الليلية المتأخرة جداً " رفض العراق ، أو بالأحرى رفض سيده صدام حسين ، الذي لايمكن مناقشة قراره ، للمقترح الفرنسي  الدولي بشأن المراجعة الشاملة  لموضوع أسلحة العراق المحظورة كخطوة نهائية وضرورية  لرفع الحصار وإعادة العراق إلى أحضان المجموعة الدولية. أصيب السفير الفرنسي بصدمة ولم يجد الكلمات المناسبة للرد على هذا القرار الصاعق. عندها حصل شرخ في صرح البنيان الدبلوماسي العراقي – الفرنسي وحدث تصدع في جدار الثقة بين بغداد وباريس . عند ذلك صرح جاك شيراك للمقربين منه وأمام مستشاريه :" لقد خسرني العراق. لقد أضاع العراق فرصة تاريخيه لن تعوض أبداً ووضعنا في موقف محرج جداً  وليتحملوا نتائج ما قرروه". وصار الجميع في باريس وفي كل مناسبة يردد هذه العبارة أمام العراقيين، عندها ساد شعور  الأمل المحبط بشأن العلاقات بين البلدين. وفي نفس الليلة التي تلقى فيها السفير الفرنسي في العراق رفض صدام حسين للمسعى الفرنسي الذي تطلب جهوداً ومساعي كثيرة لإقناع الآخرين بجديته وفاعليته، أرسل وزير الخارجية الفرنسي آنذاك هيوبير فيدرين رسالة غاضبة إلى طارق عزيز أطلعت على فحواها وكانت شديدة اللهجة . وقد ذكر الدبلوماسي الفرنسي سيرج بوادفكيس  سكرتير عام وزارة الخارجية أنها كانت رسالة نادرة في عنفها وشدتها جاءت تعبيراً عن غضب وإحباط وزير الخارجية الفرنسي الذي أوصله للعراقيين وقال فيها بما معناه:" لقد خنتم ثقتنا بكم " وكان خطأً دبلوماسياً كبيراً في سلوكه غير الدبلوماسي هذا كأنه المعلم الذي يوبخ تلاميذه . ولقد تركت تلك الرسالة آثاراً سلبية لاتمحى على طبيعة العلاقات بين باريس وبغداد  بما عرف عن العراقيين من عزة نفس وعدم تقبلهم مثل هذه المعاملة الفوقية  التي تفتقد للياقة الدبلوماسية . وقد كانت ردة فعل العراقيين عنيفة وغاضبة وتفتقد للحكمة والتأني  على تلك الرسالة الفرنسية وكانت بداية لتدهور العلاقات الفرنسية  - العراقية . والأخطر من ذلك أن الرفض العراقي للمقترح الفرنسي أعطى الذريعة للأمريكيين لإطلاق العد التنازلي لعملية عسكرية ضخمة عرفت بإسم "ثعلب الصحراء" بعد شهر ونصف من تلك المكالمة الهاتفية المشؤومة . وكان طارق عزيز يردد أمام سامعيه أنه يحترم الحنكة الفرنسية ويقدر الاحترام الفرنسي للعراق ولرئيسه ولشخصه هو خاصة عندما كان هيوبير فيدرين يرافقه مودعاً حتى باب المصعد في وزارة الخارجية الفرنسية. ويأسف لما وصلت إليه الأمور من سوء فهم وتوتر لامبرر له.

مالذي حدث بالفعل في تلك الساعات العصيبة وغاب عن أذهان القائمين على الدبلوماسية العراقية آنذاك؟ الذي لايعرفه العراقيون هو أن باقي أعضاء مجلس الأمن الدولي الدائمي العضوية  كانوا يتربصون بالدبلوماسية الفرنسية ويخططون لإفشال مساعيها معتمدين بذلك على غباء القيادة العراقية وطيشها وافتقادها للحكمة وللحسابات السياسية والاستراتيجية الدقيقة والصحيحة لكي يثبتوا للفرنسيين عبث جهودهم مع مثل هذا النظام الأرعن. كانت الرسالة البريطانية لمجلس الأمن، في آخر يوم للرئاسة البريطانية لهذا المجلس حبلى بالتناقضات التي أرادت فرنسا استثمارها لتمرير مقترحها والتصويت عليه دولياً . وكانت بريطانيا كما هو معروف ثاني عدو وخصم لدود للعراق بعد الأمريكيين وكانت رسالة قاصمة . فقد أشارت الرسالة إلى المراجعة الشاملة والدقيقة كما أراد الفرنسيون لكنها لم تشر صراحة إلى البند 22 من القرار رقم 687 الصادر عن مجلس الأمن المتعلق بشروط رفع العقوبات عن العراق. أخضعت الرسالة البريطانية التي وافق عليها كافة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن إلى نقاشات معمقة داخل القيادة العراقية لكن العراقيين لم يقرأوا ما بين السطور فيها كما كان يأمل الفرنسيون. وعند عودة طارق عزيز إلى العراق بعد مروره بباريس اجتمع ما كان يسمى بمجلس قيادة الثورة في ثلاث جلسات مطولة لسبر  نواياها  قبل إصدار بيان برفضها. وقد علق السفير الفرنسي في العراق أوبان دو لا ميسوزييه بأسى:" لقد انتصر الصقور المحيطون بصدام حسين كما كان يأمل الأمريكيون" وأضاف قائلاً:" التقيت بطارق عزيز ووجدته متجهماً بعد إبعاده عن الملف دبوماسياً وتجريده من صلاحياته في هذا الملف. لقد قرأ المتشددون والملاقون في النظام العراقي تلك الرسالة قراءة سطحية وحرفية ولم يكن أي منهم من يمتلك كفاءة دبلوماسية أو ثقافية تعينه على فهم ما تخفيه بين السطور، مركزين على  الثغرات دون الالتفات للضمانات التي تحتويها تلك الرسالة. وكانت القيادة العراقية التي أصابها الصمم وغشاوة الرؤية الصحيحة ، كمن يطلق النار على قدميه بسبب فقدانهم للثقة بالغرب  الذي نكث وعوده الكثيرة في رفع العقوبات ". وكان الرد العراقي غبياً كما وصفه الدبلوماسي الفرنسي فخصوم النظام العراقي عاتبوا فرنسا على موقفها الداعم لصدام حسين إذ أنهم يعتقدون بعدم جدوى مثل هذا الجهد وأنه لاشيء ينفع مع مثل هذا النظام المتعنت المارق والخارج عن التوافق الدولي. منذ تلك الفترة سحبت فرنسا نفسها من الملف العراقي وقررت عدم تحمل أية مسؤولية دولية فيه لكنها مابرحت تردد أنه يجب أن يبقى داخل إطار الأمم المتحدة ومجلس الأمن وأن يعالج الملف من قبل المجموعة الدولية برمتها وليس من قبل أطراف فيها خارج الأمم المتحدة. إلى أن حدثت عمليات التصعيد الأمريكية وخلقت أزمة صيف سنة 2002 وقادت إلى حرب الخليج الثانية وإطاحة نظام صدام حسين واحتلال العراق وتدميره بالكامل دولة ومؤسسات وبنى تحتية حتى أواسط 2008 . وبعد أن قلصت باريس اتصالاتها السياسية والدبلوماسية مع بغداد قبل السقوط  صرح دبلوماسي فرنسي بأسى قائلاً:" لم يعد لدينا ما نقوله للعراقيين أكثر مما قلناه  لكنهم أصيبوا بالصمم  وكأنهم يتبنون خياراً انتحارياً" ، كان ذلك في ربيع 2002وكان آخر لقاء جمع بين مسؤولين فرنسيين بصدام حسين يعود إلى آذار / مارس 1998 عندما ضيع العراق فرصته التاريخية وأنهى قصة العشق المحرمة مع باريس.

كان طارق عزيز قد اتصل هاتفياً،و بأمر مباشر من صدام حسين في أكتوبر 2002 بالرئيس الجزائري عبد العزيز بو تفليقة طالباً منه التوسط والاتصال بالرئيس الفرنسي جاك شيراك لكي يستقبل في باريس مبعوث الرئيس العراقي الخاص صدام حسين إلا أن الرئيس الفرنسي أعتذر ولم يكن مستعداً للمغامرة مجدداً مع العراقيين متذرعاً أن الوقت غير مناسب مع أنه لايعارض مبدأ الزيارة  لكنه يعترض على التوقيت وكانت المناقشات بشأن الأزمة العراقية في مجلس الأمن الدولي على أشدها . وقد طرق صدام حسين باباً أخرى بعد يأسه من التدخل الفرنسي لإنقاذه  فطلب من الرئيس اللبناني الأسبق أمين جميل الذهاب إلى أمريكا على نفقة العراق وبطائرة خاصة يستأجرها له العراق من إحدى الشركات للتفاوض بإسمه مع الإدارة الأمريكية وتقديم أية تنازلات مطلوبة والموافقة على جميع الشروط التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية على النظام العراق عدا التخلي عن السلطة وبالفعل قام أمين جميل بمهمته ولم يفلح فيها أمام إصرار الأمريكيين على طرد صدام حسين من السلطة بلا أي قيد أو شرط.

تمثل غباء القيادة العراقية في أنها كانت عاجزة عن استيعاب  المتغيرات والتطورات الدولية على كل الصعد. فمشاعر  صدام حسين تجاه جاك شيراك ظلت كما هي عليها سنة 1972 – 1975  عندما كانت هناك لقاءات شخصية وزيارات بين الرجلين.  فحتى لومرت ثلاث عقود  يبقى شيراك صديقاً شخصياً  لصدام حسين حسب اعتقاد هذا الأخير وهو لايعرف أنه في السياسة لاتوجد صداقات دائمة بلا مصالح دائمة. لذلك لم ينطق صدام حسين بكلمة سوء واحدة ضد جاك شيراك قط. بل أنه أرسل في أيلول سنة 1996  بباقة ورد ضخمة جداً للسفارة الفرنسية في عمان بمناسبة جولة الرئيس الفرنسي في الشرق الأوسط أثناء محطته الأردنية . وكان جاك شيراك يرى في صدام حسين قائداً عصرياً وعلمانياً لذلك يتعين على فرنسا دعمه ومساعدته في مشاريعه التنموية . وكان جاك شيراك يعرف أن العراق بلد مهم وعليه أن يقتنص الفرصة المتاحة أمامه لكسب العراق إلى جانب فرنسا وإخراجه من دائرة النفوذ الأنجلو-ساكسونية. وكانت فرنسا تحتاج لكميات كبيرة من النفط مضمونة ومستمرة وبأسعار مناسبة وهي متوفرة في العراق  الذي أعتبر في فترة السبعينات أحد أفضل مصادر النفط في العالم وبالتالي يمكن أن يكون بالنسبة لفرنسا أفضل مصدر للتزود بالنفط . في حين وجد العراق في فرنسا مصدراً غربياً متقدماً للتكنولوجيا المتطورة . ومع ذلك كان هناك اختلاف وتباين وانقسام داخل مختلف الأقطاب المتعاقبة على السلطة في فرنسا  فيما يتعلق بصدقية وأهمية التعاون الفرنسي العراقي . فكان رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك فاليري جيسكار ديستان يكبح تطور العلاقات الفرنسية العراقية  ويعرقل فكرة مجيء صدام حسين وزيارته لفرنسا سنة 1975 كما كشف عن ذلك الدبلوماسي الفرنسي جاك موريزيه حين ذكر أن جيسكار ديستان لم يكن يرغب بتحمل تبعات الملف العراقي  لاسيما في المجال النووي. واضاف الدبلوماسي الفرنسي المعروف  أن الرئيس جيسكار ديستان استقبله مرتين فقط في قصر الإيليزيه أثناء خدمته كسفير لفرنسا في العراق بين 1975 و 1980 . وقد تكفل السياسي ميشيل دورنانو صديق جيسكار ديستان ووزير الصناعة في حكومته آنذاك وأندريه جيرو مدير المفوضية الفرنسية العليا للطاقة النووية بإقناع الرئيس الفرنسي بالموافقة على صفقة شيراك – صدام  ببيع مفاعل أوزيراك النووي للعراق  وبذلك تم توقيع اتفاق التعاون النووي الفرنسي – العراقي رسمياً في 18 نوفمبر 1975 ونشر في الجريدة الرسمية بعد سبعة أشهر من تاريخ التوقيع . وكانت الخارجية الفرنسية في ذلك الوقت مستبعدة عن هذا الملف عمداً من قبل شيراك ولم تشرك في جلسات المفاوضات التي قادها صدام حسين من الجانب العراقي وجاك شيراك من الجانب الفرنسي لذلك أبدت الوزارة بعض التحفظ والتردد على تلك الصفقة ، لاسيما إثر تصريح صدام حسين في سبتمبر/ أيلول 1975 عند خروجه من الإيليزيه أن الاتفاق يشكل الخطوة الأولى نحو صنع السلاح النووي العربي. وكان الدبلوماسيون الفرنسيون في العراق يزودون دولتهم بالتقارير  الدقيقة عما يجري داخل العراق سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. وقد جلب الاتفاق النووي المبرم بين العراق وباريس لفرنسا 1،5 مليار دولار  وكان صدام قد خصص ثلث عائدات النفط لكي تصرف لتكوين جماعات ضغط وتأثير موالية للنظام العراقي أي لوبيات  سواء داخل العالمين العربي والإسلامي أو داخل العالم الخارجي في أوروبا الغربية لاسيما في فرنسا التي حصلت على حصة الأسد، والكتلة الشرقية لاسيما الاتحاد السوفيتي ورومانيا،وتخصيص ثلث العائدات لاستثماره في التنمية الداخلية  في العراق  والثلث الباقي يودع في البنوك الفرنسية والسويسرية كما ذكر ذلك السفير الفرنسي جاك موريزيه  بحكم قربه من القيادة العراقية وزياراته المتكررة لصدام حسين. وأخيراً جاءت الانعطافة الدبلوماسية الكبرى بين فرنسا والعراق قبل غزو العراق ونشاط باريس المحموم في الأمم المتحدة ومجلس الأمن لصالح النظام العراقي ومحاولة انقاذه من السقوط ومنع وقوع الحرب بأي ثمن والتي قادها دومينيك دوفيلبان وزير خارجية فرنسا آنذاك بتوجيه مباشر من جاك شيراك وتنسيق معه في كل دقيقة . ومن ثم حدوث الانطلاقة الجديدة بعد سقوط النظام الصدامي عام 2003 عندما تم اختيار بيرنارد كوشنير وزيراً للخارجية الفرنسية وهو صاحب فكرة وأطروحة حق التدخل الإنساني  الدولي ولو بقوة السلاح لإنقاذ الشعوب المقموعة من جلاديها وأحد الشخصيات الفرنسية النادرة التي كانت تؤيد الحرب على العراق . وأول وزير فرنسي يزور العراق بعد الحرب لكنه ارتكب هفوة دبلوماسية خطيرة هي بمثابة خطيئة أكثر منها خطأ او مجرد زلة لسان  عفوية عندما صرح أنه ينبغي تغيير نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي كخطوة ضرورية لتحقيق المصالحة الوطنية في العراق ورغم تراجعه عن موقفه واعتذاره رسمياً وتنصل الحكومة الفرنسية من هذا التصريح واعتباره موقفاً شخصياً لايمثل موقف الحكومة الفرنسية الرسمي ومحاولة الوزير الفرنسي توضيح موقفه أنه نقل رغبات عدد من الزعماء السياسيين العراقيين الذين التقوه وابلغوه ذلك إلا أن ردة فعل العراق كانت قوية وغاضبة قد يحاول ترميم ما نجم عنها من تداعيات وقد قام بالفعل بالمشاركة في جميع مؤتمرات دول الجوار العراقي والتقرب من القادة العراقيين ومحاولة إعادة بناء الجسور بين البلدين  ففرنسا بحاجة للعراق  أكثر من حاجة العراق لفرنسا في الوقت الحاضر ولكن من مصلحة العراق تنويع مصادر دعمه الدبلوماسي والدولي وعدم اقتصاره على الجانب الأمريكي  وهذه فرصة أمام الدبلوماسية العراقية يجب اقتناصها وتطوير علاقات ثنائية فرنسية – عراقية  متطورة مبنية على مبدأ الاحترام المتبادل والمنفعة المتبادلة .

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com