كانت المفارقة جلية عند مقتدى الصدر عندما نفى أن يكون سبباً في أذى مسلمين  أو سبباً لانقسام الأمة . وذلك عندما أعلن في 22 شباط الماضي 2008 تمديد الهدنة لستة أشهر إضافية بعد تردد ومراوغة ومماطلة استمرت أياماً طويلة كانت مليئة بالخوف والتوتر والترقب، ولكنه وفي نفس الوقت طالب أتباعه بعدم إلقاء أو تسليم السلاح للدولة ومواصلة " المقاومة" ( ولكن مقاومة من؟ طبعاً سيدعي هو وأتباعه مقاومة الاحتلال الأمريكي)تاركاً الأوضاع على ماهي عليه من شلل وتوتر دائم ووضع متفجر ومهيأ لتجدد المواجهات المسلحة في أية لحظة وهو ما حصل بالفعل  بعد أقل من شهر من ذلك التاريخ . فلقد أوحى إليه مستشارو السوء من العناصر المتطرفة والمتشددة الملتفة حوله، أن الأمريكيين والقوى السياسية المؤتلفة في السلطة قد فسروا وترجموا موقفه المهادن بأنه ضعف . ثم أقنعوه فيما بعد بأن ديك شيني ، نائب الرئيس الأمريكي  جاء في زيارة خاصة ومفاجئة إلى العراق  ليأمر قواته وحلفائه في 17 آذار 2008 بضرورة تصفية  واستئصال ميليشيا جيش المهدي بالقوة العسكرية أو على الأقل تجريدها من أسلحتها، إذ حان الوقت للتخلص من هذا المشاغب المزعج والمنافس الديماغوجي  القوي للحلفاء الشيعة المتمثلين بالمجلس الأعلى الإسلامي وحزب الدعوة ، الأمر الذي كان سيتيح للقائد العام للقوات الأمريكية في العراق الجنرال بيترايوس  والسفير الأمريكي في العراق رايان كروكر ، الدفاع عن إنجازاتهما في العراق أمام الكونغرس الأمريكي  يومي 8 و 9 نيسان الماضي  ويتحدثان من موقع القوة والثقة بالنفس لإقناع الكونغرس بصواب إستراتيجية البيت الأبيض الجديدة في العراق والمتمثلة بزيادة عديد القوات الأمريكية هناك للحد من الهجمات الإرهابية وخفض وتيرة عمليات العنف الطائفي التي كانت تلوح بخطر اندلاع حرب أهلية ـ طائفية كارثية تضرب المجتمع العراقي في صميمه وتكاد  أن تؤدي إلى تفكيك مؤسساته الشرعية ، إضافة إلى وقف نزيف الخسائر البشرية في صفوف القوات الأمريكية المحتلة.

لم يتمتع العراقيون، أو بالكاد ، بفترة من الهدوء الأمني النسبي الذي نجم عن تطبيق خطة فرض القانون في بغداد ، حتى اندلعت واحتدمت المواجهات المسلحة من جديد مما أرغم الحكومة على فرض حالة طوارئ ومنع التجول في العاصمة بغداد وفي العديد من المدن والمحافظات والمناطق العراقية الأخرى مما شل حركة المجتمع وحياته الطبيعية مرة أخرى . ففي 24 آذار  الماضي 2008 إضطر رئيس الوزراء العراقي السيد نوري المالكي لإصدار أوامره للقوات المسلحة التي يرأسها بحكم الدستور لشن حملة " صولة الفرسان" في البصرة من أجل فرض الأمن فيها وتجريد الميليشيات الشيعية بكافة ألوانها ، والعناصر الخارجة على القانون، من أسلحتها وطردها من المدينة الحزينة الكالحة، ووقف عمليات القمع والسطوة المتوحشة والخطف في الشوارع والاغتيالات السياسية والاستهانة بالسلطة الشرعية ومنع عمليات تهريب النفط والمخدرات التي أصبحت تجارة مربحة لصالح تلك الميليشيات والعصابات، وكان لابد من استعادة هيبة الدولة وسلطة الحكومة المركزية . بيد أن الحملة واجهت مقاومة عنيدة وشرسة وعنيفة جداً كان ضحيتها الأولى هو المجتمع المدني العراقي برمته. فلقد استنفر وحشد جيش المهدي أعوانه في كل مكان في العراق وشل حركة المجتمع ومنع المواطنين تحت التهديد بالقتل من ممارسة نشاطاتهم اليومية والمهنية أو التوجه لأعمالهم أو الالتحاق بوظائفهم فارضاً على الجميع الانصياع لأوامر قيادة التيار الصدري وجيش المهدي وتنفيذ الاعتصام والعصيان المدني  مدعياً أن هذا التوقف عن النشاط والعمل جاء طوعياً.وقد تصرف أتباع جيش المهدي مع المواطنين بعنجهية وغطرسة وسوء معاملة وبفظاظة أثارت حفيظة المواطنين وفي بعض الأحيان كانوا أشدة قسوة وبطشاً واستبداداً من عناصر تنظيم القاعدة الإرهابي ولقد لمست بنفسي هذه الحالة وتعرضت للتهديد بالقتل إذا لم أعد أدراجي إلى مقر إقامتي ،كما شعرت عن قرب بآلام ومعاناة الطبقات المسحوقة في المجتمع التي تحصل على قوتها يوماً بيوم وإذا تعطلت عن العمل يوماً واحداً أصابتها المجاعة، وهي تعيش حياة مزرية ازدادت سوءاً جراء تلك الأوضاع المأساوية التي تعرضوا لها رغماً عنهم دون أن يكون لديهم حق الخيار، لاسيما الأرامل اللواتي يقمن بتربية أطفالهن الأيتام ولا يمتلكن شيئاً ويحاربن يومياً من أجل تأمين لقمة العيش المرة والصعبة للأيتام الأبرياء المحرومين من حماية ورعاية الآباء . ولاتوجد لديهن أية احتياطات أو مساعدات خارجية وقد تجاوز عددهن المليون أرملة دون أن يلتفت أحد لهن ولحالتهن المأساوية ولايفكر جيش المهدي وأمثاله بأوضاعهن واحتياجاتهن.

كان رئيس الوزراء العراقي الأستاذ نوري المالكي محقاً في صرامته وعزمة الذي لايلين في محاربة هذه الآفة المستشرية ألا وهي آفة الميليشيات المارقة والخارجة على القانون المؤلفة من الجهلة وقاطعي الطرق واللصوص والمهربين وحثالة المجتمع، وفرضه شروطه الأربعة على كل من يحمل السلاح خارج إطار الدولة ومنحهم مهلة زمنية لتسليم أسلحتهم أو التعرض للعقاب الشديد، فالتفاوض لاينفع في شيء مع مثل هؤلاء المتوحشين. المشكلة التي تعاني منها السلطة الشرعية هي أنهم ليسوا وحدهم بل تقف خلفهم قوة إقليمية جبارة وذات إمكانات هائلة هي إيران التي تلعب دوراً تخريبياً ملموساً ومؤكداً لايقبل الجدل وليس مجرد إحتمال وفرضية وتخمين كما ادعى علي الدباغ الناطق باسم الحكومة. وكانت إيران حاضرة في جميع المفاوضات التي أجريت مع مقتدى الصدر في قم ممثلة بشخص قاسم سليماني قائد قوات جيش القدس التابع للحرس الثوري الإيراني المكلف برعاية وحماية وتمويل وتسليح وتدريب جيش المهدي وباقي الميليشيات الشيعية والسنية على السواء  خاصة تلك المتمردة على العملية السياسية أو الخارجة على القانون، بالرغم من أن واشنطن وضعت جيش القدس على لائحة المنظمات الإرهابية .

وقد تصرف رئيس الوزراء العراقي بحكمة بدعوته المجلس السياسي للأمن الوطني للاجتماع لتقديم المشورة والبت بأمر جيش المهدي والمأزق السياسي والأمني الذي أدخل البلاد في أتونه . وحصل رئيس الحكومة على تأييد ودعم المجلس السياسي وموافقته بالإجماع على قراره بمطالبة التيار الصدري بحل جيش المهدي كشرط أساسي وأولي  لمشاركته بالانتخابات المحلية القادمة المزمع تنظيمها في أكتوبر القادم وكذلك في دخوله معترك الانتخابات البرلمانية القادمة في عام 2009 . وهذا الشرط ينطبق على الجميع بدون استثناء ووافق الجميع عليه عدا التيار الصدري.

وقد أتاحت حملة"صولة الفرسان" توجيه ضربات موجعة لميليشيات شيعية متطرفة أخرى تدور في فلك طهران وتخدم الإستراتيجية الإيرانية في العراق وتحصل على الدعم والتسليح من الجمهورية الإسلامية كما تمول نفسها من عمليات البلطجة وأعمال اللصوصية والتهريب وخطف المواطنين والمطالبة بفدية لإطلاق سراحهم أو قتلهم وما شابه من نشاطات إجرامية، ومن بين تلك التنظيمات المسلحة  الخارجة على القانون ثأر الله  وجند السماء وحزب الله العراقي  وحركة سيد الشهداء  والحركات المهدوية الخ.. من الجانب الشيعي ولها نظيراتها وأكثر من الجانب السني السلفي والتكفيري ، وهذه الأمور يعرفها أبناء العراق ويتداولون الحديث عنها فيما بينهم في جلساتهم الخاصة ويسردون  بشأنها تفاصيل مذهلة خارجة عن التصور.

مما لاريب فيه أن هناك حرباً بالوكالة بين طهران وواشنطن على أرض العراق وبأدوات عراقية هي تلك الميليشيات المنفلتة كجيش المهدي والقاعدة  والتنظيمات التكفيرية المتشددة والصداميين وبعض الصحوات التي كانت بالأمس تنظيمات إرهابية وحولت بنادقها من كتف لآخر مقابل أموال وأسلحة أمريكية ومناطق نفوذ تستفرد بها. وكلها لاتعدو كونها دمى تحركها الأيادي الخبيثة والمخططون الاستراتيجيون داخل استخبارت البلدين أي إيران وأمريكا. وكانت المخابرات الأمريكية قد أعدت تقريراً بغية التعامل مع " ظاهرة مقتدى الصدر" كما ورد في التقرير" وهو الزعيم الشيعي الشاب الذي تزايدت شعبيته مع مرور الوقت وبسرعة هائلة بسبب رفعه شعار " مقاومة الاحتلال" كما جاء في التقرير ، مما أثار قلق الإدارة الأمريكية لاسيما بعد اغتيال منافسه الأول على الزعامة الشيعية ذو الكاريزما القيادية والموقف المعتدل آية الله محمد باقر الحكيم زعيم المجلس الأعلى الإسلامي . حيث توجهت الأنظار إلى مقتدى الصدر والارتياب بكونه وراء حادثة التفجير واستشهاد كبير عائلة الحكيم وزعيمها قبل أن توجه أصابع الإتهام إلى تنظيم القاعدة وأبو مصعب الزرقاوي الذي أعلن مسؤوليته عن تلك العملية ، وكان سبب الشكوك في مقتدى الصدر في بادئ الأمر نظراً لما لدى مقتدى الصدر من سوابق خطيرة ارتبطت بإسمه كحادثة اغتيال رجل الدين الشاب عبد المجيد الخوئي سنة 2003 بعد أيام من عودته من منفاه في لندن في أعقاب سقوط النظام الصدامي . وقد حاولت حكومة أياد علاوي وبتحريض من الأمريكيين في نيسان 2004 إلقاء القبض على مقتدى الصدر بموجب مذكرة اعتقال قانونية صادرة عن المحكمة الجنائية  لتقديمه للمحاكمة بتهمة القتل العمد لإبن المرجع الأعلى للعالم الشيعي بين 1970 و 1992 وهو آية الله العظمى أبو القاسم الخوئي.

لقد أشاع التيار الصدري وبعض خصوم المغدور السيد عبد المجيد الخوئي أن لهذا الأخير صلات وعلاقات مريبة مع المخابرات البريطانية أم آي 6 ، وأنه تلقى دعماً مالياً بقيمة 13 مليون دولار من المخابرات المركزية الأمريكية السي آي أ استناداً إلى معلومات نشرتها صحيفة نيويورك تايمز لم يتسن لأحد إثبات صحتها  لتبرير عدائهم وتصفيتهم له. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد أعدت خطة استخباراتية تحت إسم " عملية ستيوارت" للقبض على مقتدى الصدر أو حتى قتله وتصفيته بأية طريقة كما كشف عن ذلك الصحافي الأمريكي الشهير سيمور هيرش لكنها جمدت تنفيذ الخطة في آخر لحظة بعد أن تسرب سرها ووصل إلى أسماع مقتدى الصدر الذى توارى عن الأنظار فجأة آنذاك وقيل أنه هرب إلى إيران واختفى فيها . وبعد أن شارك جيش المهدي في معارك الفلوجة والنجف وكربلاء والديوانية خلال السنوات الثلاثة المنصرمة، أعيد تفعيل تلك الخطة الخفية وأوعز الجانب الأمريكي إلى أيدي عراقية بتنفيذها رغم مخاوف تفجر الأوضاع في العراق والانزلاق إلى حرب أهلية لاتحمد عقباها لذلك هرب مقتدى الصدر مرة أخرى خوفاً على حياته لاجئاً إلى إيران تاركاً العراق نهباً للمواجهات المسلحة الدامية وعمليات التصفية الوحشية دون أن يهتم بما سيسببه إصراره على المواجهة مع القوات الحكومية والأمريكية من معاناة وخسائر للمواطنين، سواء المادية منها أوالمعنوية، ودون أن يحسب جيداً تداعيات موقفه في ظل احتدام وتفاقم الظروف السياسية والأمنية في المحيط الإقليمي المحاذي للعراق والمتداخل في شؤونه لاسيما في لبنان  المقبل على حرب أهلية وطائفية خطيرة بين معسكرين ومشروعين ورؤيتين متصارعتين ، هما: المشروع الأمريكي ـ الإسرائيلي ـ السعودي وامتداداته اللبنانية  في جبهة المولاة من جهة، والمشروع الإيراني ـ السورية،وحزب الله وحلفاؤهم اللبنانيون في جبهة المعارضة من الجهة الأخرى. فهو ملف واحد متعدد الأبعاد والتفرعات والأطراف المتصارعة تمسك به الولايات المتحدة الأمريكية وتعيد توزيع الأوراق فيه متى شاءت حسب مصالحها . المخابرات الإيرانية  بدورها براغماتية وتتصرف بعقلانية وبوحي من مصالحها الآنية والبعيدة المدى وفق حسابات مدروسة لاتأخذ الخسائر البشرية بنظر الاعتبار خاصة إذا كانت غير إيرانية . وهي تتلاعب بكل القوى الموالية لها والمعتمدة عليها في وجودها فتقدم الدعم للميليشيات الشيعية والسنية السلفية في آن واحد رغم ما بينها من تباين وتناقض وعداء، إذا كان ذلك يخدم مخططاتها ويخلق الفوضى الشاملة بغية تقويض المشروع والمخطط الأمريكي في العراق أولاً وفي المنطقة برمتها  وبالذات في لبنان حيث لديها اليد الطولى المتمثلة بحزب الله .

وأخيراً تجدر الإشارة إلى أن هناك شائعة انتشرت تتعلق بمحاولة وقعت مؤخراً لتصفية مقتدى الصدر جسدياً من خلال تسميمه بمادة سامة أو مشعة أدخلته في غيبوبة لفترة قصيرة وكان مصدر الإشاعة كما يقول المقربون من مقتدى الصدر هو " الثلاثي الشيطاني أي: الشيطان الأكبر أمريكا  والشيطان الأصغر بريطانيا و الكيان الصهيوني إسرائيل" . حسب ما جاء في شبكة النهرين المقربة من الصدريين . وقد علق أحد القياديين في التيار الصدري قائلاً ": أن من بث هذه الإشاعة ينوي فعلاً قتل وإغتيال زعيم التيار الصدري ولو حصل ذلك أو سيحصل في المستقبل لاسمح الله  فإننا نحذر  من أن العراقيين سيسبحون في حمامات من الدماء. " حسب تعبير هذا القيادي الصدري وكأن الشعب العراقي هو المسؤول عن هذه المناورات وبالتالي سيتعين عليه دفع دم أبنائه ثمن رعونة هذا الزعيم النزق ومخططات المحتل الإجرامية مثلما سيدفع الشعب اللبناني عنتريات حزب الله وخنوع وتبعية معسكر 14 آذار في المولاة للإملاءات الأمريكية التي تشجعهم على التمادي في استفزاز إيران وسورية وحزب الله وتصعيد المواجهات السياسية وترجمتها ميدانياً على الأرض على شكل اشتباكات دامية بدأت شرارتهااليوم وقد لاتنطفيء إلا بعد فوات الأوان.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com