د-مراد الصوادقي

alsawadiqi@maktoob.com

عندما يتحول البلد إلى موطنٍ للصور فأنه يرتقي بحاله إلى قاع التأخر, ويلقي بنفسه في يم المأساة. وموضوع الصورة عاهة سياسية واجتماعية, نشترك فيها جميعا في بلداننا العربية وبدرجات متفاوتة. فالصورة تطغى على مظاهر حياتنا, ونراها أمامنا  في الصف والمدرسة والدائرة والشارع وأمام العديد من البنايات, وكأننا مأسورين بها ومقيدين بوجودها ونريد أن نكون ظلها.

وقد احتدم الصراع على رفع الصور في بلادنا, حتى ليبدو أن أكبر الإنجازات التي تحققت هو تثمير الصور وزيادة عددها الجنوني , الذي استحوذ على جميع معالم الحياة وغطى كل الجدران.  ومن الصعب أن يُفهم مبررات رفع صور رجال الدين في الأرجاء , وهل هذا من خلق الدين وتقاليده والتعبير عن معانيه , أم أنه حالة لا نعلم بفتواها وفحواها.

وفي البلدان العربية , نجد الصور تلاحقنا أنى توجهنا , فنراها أمام بوابات الكليات والجامعات والوزارات والدوائر الأخرى المتعددة وفي الشوارع ومداخل البلدان وعلى أي مكان يمكنها أن تحط عليه , وكأنها الغربان.

صور تتكاثر والناس تجهد وتشقى من أجل أن تنجز صورة لأحدهم وأن تساهم في رفعها أمام الأيام, وكأنها تريد أن تذل نفسها وتعاقب وجودها وتحرق أركان حياتها , باسم الصورة وفرد الطغيان. ومَن يزور بلادا مجاورة لنا كتركيا, سيرى الأعلام منتشرة فوق البنايات وأمام الدوائر والمؤسسات , ويندر أن يرى صورة هنا أو هناك.

ومَن يتجول في الدول المتقدمة , لا يمكنه أن يرى صورة لهذا أو ذاك , مهما كان منصبه السياسي , ولا تجد صورة للرئيس إلا في الدوائر الحكومية وبأماكن متواضعة وحجم معقول. ومن الصعب  أن تجد صورةً كبيرة للرئيس في شوارعها لعدم توفر الحق القانوني والمسوغات الموضوعية لهذا السلوك.

ويبدو أن للصورة دور كبير في تحقيق التأخر وتدمير الحياة وإخراجها من نشاطاتها الإبداعية البناءة , واغتصاب تطلعاتها وأمانيها , وتحويلها إلى مقبرة للحشود البشرية التي تم مصادرة عقولها والعبث بمشاعرها وعواطفها  , وتوظيفها لأغراض سلبية وضارة لها دون وعيها وقدرتها على التبصر والتقدير.

فالصورة تسرق الحكمة وتقتل الطموح , وعندما يرتضي المجتمع أن يرى صورة الفرد في كل الأماكن , فذلك يعني أنه اختار طريق الرق والعبودية , وقرر أن يكون عبدا مطيعا لسواه , الذي جرده من حريته ووضع قيود الأسر والامتلاك في نفسه وروحه وعقله. فالشعوب التي تعيش ثقافة الصورة , ما هي إلا شعوب مقهورة مستعبدة لا يمكنها أن تصنع التقدم وتبني معالم الحياة , أو تعرف طعم القوة والاقتدار والإبداع والصيرورة المعاصرة ,  التي تتلذذ بها الشعوب المتحررة من سجن الصورة. فالصورة تصيب البشر بالاختناق واليأس , وتبعث فيه أحاسيس القهر والغصب , وتجذب إليه أسباب الأحزان والكآبة السوداء.

ومن المرجح  أن أحد مقاييس التقدم المهمة انتفاء منهج الصورة وإعلاء ثقافة الوطن والعلم والحرية , وقيمة الإنسان واحترام رأيه وتقدير مشاعره. وكذلك الإيمان بالدستور والقانون وأن يكون العلم والوطن أكبر من أي فرد وصورة. فهل سنقضي على جرثومة الصورة وأمراضها السارية والمعدية التي فتكت بالملايين من الأجيال , على مدى القرن العشرين ولا زالت تمعن بالدمار وخراب الشعب والبنيان. 

فالبلدان مواطن شعوب وليست مواطن صور وظلم ومآسي وطغيان, وممارسات قهر وإمعان في إذلال الإنسان. فعندما تكون البلدان موطنا للشعوب تتقدم . وحينما تكون  موطنا للصور تتأخر . ويوم تتفوق الأعلام في ظهورها على الصور في بلداننا سنكون من الدول المتقدمة. ولكي يتحقق التقدم, علينا أن ننقي الحياة ونطهرها من صور الأفراد , وأن نحرر شوارعنا ومحلاتنا ودوائرنا من الصور التي تصيبنا بالإحباط وتجلب علينا بواعث الأحزان والخسران.

فالقيمة الكبرى للوطن والعلم والشعب . وما عدا ذلك يكون اكتسابا لمهارات التأخر والانحدار إلى حضيض الضياع واللهو بعناصر البهتان.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com