أ. د. محمد الربيعي

alrubeai@gmail.com

صادق مجلس الرئاسة في جلسته المنعقدة بتاريخ 4-5 -2008، على قانون الخدمة الجامعية وجاء في الأسباب الموجبة لإصدار القانون انه لأجل الارتقاء بمستوى الكادر التدريسي والأكاديمي لتطوير العمل الجامعي على نحو ينسجم مع المعطيات والمتغيرات الإقليمية في مضمار التعليم العالي والبحث العلمي ، ولتحصين الملاك التدريسي، ورفع مستواه التدريسي والمعيشي والحفاظ عليه. وبالرغم من أهمية صدور قانون جديد لتنظيم الخدمة الجامعية في العراق، إلا إنه من الغريب أن يصدر هذا القانون قبل صدور قانون لتنظيم الجامعات، وهو الذي يتعلق بهيكلية الجامعات، وقبل إعادة النظر في قانون وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، خصوصا وأن الأسباب الموجبة لقانون الخدمة الجامعية تؤكد على أن تشريعه هو لغرض وضع إستراتيجية جديدة وشاملة للتعليم العالي في العراق. فكيف يوضع قانون تحدد فيه مراتب الوزارة والجامعات وهيئات التدريس وواجبات المسؤولين والمدرسين قبل وضع الاستراتيجية؟

المستغرب أيضاً أن القانون شُّرِعَ من دون إجراء استشارات كافية أو عرضه على خبراء أو متخصصين من خارج الوزارة. إذ كان من الممكن مناقشته والاستفادة من آراء الخبراء العراقيين وغيرهم المتواجدين في أربيل مثلاً خلال انعقاد المؤتمر العالمي للتعليم العالي في الفترة من 11 إلى 13 كانون الأول 2007 ، علما أن المتعارف علية في الدول المتطورة أن يتم عرض مشاريع القوانين مثل هذه على أعضاء هيئة التدريس في الجامعات ذات العلاقة وتناقش على مختلف المستويات من الأقسام العلمية والكليات ويشارك فيها أعضاء المجالس الأكاديمية والإدارية للجامعات. نحن نسمع كثيرا عن الشفافية في العمل الأكاديمي والجامعي وعن التحولات الديمقراطية والحضارية في العراق ونلمسها عن كثب، إلا إنها ومع الأسف الشديد، لم تنجز، وتتكرس الممارسة من خلال عملية إعداد وتشريع هذا القانون.

هذا لا يعني ان القانون يفتقد إلى نقاط إيجابية وتعديلات في صالح الأستاذ الجامعي وعملية التعليم العالي وفي سبيل خدمة المجتمع والاتقاء به حضاريا، فكل ما يرفع المستوى المعيشي للأستاذ الجامعي يساهم في رقي الفكر وتقدم العلم وتنمية القيم الإنسانية، ويزود البلاد بالمختصين والفنيين والخبراء ويصنع مستقبل الوطن. فمن الأمور الإيجابية في القانون الجديد هو منح رئيس الجامعة صلاحية تعيين أو إعادة تعيين من تتوفر فيه شروط التعيين في الخدمة الجامعية، بينما كانت هذه وكثير من الصلاحيات الأخرى تعود للوزير أو من يخوله. وقد جاءت هذه التغيرات في ضوء الدعوة الى استقلالية الجامعة ولضرورة المرونة التنظيمية والهيكلية لمختلف مؤسساتها وكنتيجة لإبراز مساوئ هيمنة الإدارة المركزية في الوقت الذي كان يعاني التنظيم الجامعي من الخلل والضعف فكان لابد من إعادة النظر بأسلوب التنظيم اللامتوازن في طريقة توزيع المسؤوليات وممارسة السلطات لصالح الإدارة المركزية .

إن إحالة العديد من صلاحيات الوزارة والوزير الى الجامعة ورئيسها سيساعد في تقليل الإجراءات البيروقراطية، وفي تمتع الجامعات العراقية باستقلالية مؤسساتية، وأكاديمية ومرونة تنظيمية اكثر، ولكن ذلك ليس بالضرورة أن يساعدها على التخلص من مشكلاتها التي تعيق تطورها وتكبل حركتها وتمنعها من أداء رسالتها بحيث تساير الجامعات الأخرى بسبب عدم توفر الاستقلالية المالية. وكما ذكرت في مقالة سابقة ستكون ناقصة " إذا لم يرافقها تطوير نوعي في إدارة الجامعات، بمعنى إن استقلالية الجامعة ستكون وبالاً على الجامعة إذا لم يتوفر لها جهاز إداري كفء يتولى قيادتها له من الخبرة والمعرفة بأساليب الإدارة العلمية للجامعات من وضع الخطط الاستراتيجية للتدريس والبحوث والأنظمة الأكاديمية والهياكل واستغلال القابليات والكفاءات، والسيطرة النوعية وتحسينها، والإدارة المالية الحسنة، ومعالجة المشاكل وسن القوانين والأنظمة المتعلقة بالعمل الأكاديمي داخل الجامعة، وطرق التقييم الأكاديمي، وفرض الرقابة على ممارسات أعضاء الهيئة التدريسية والطلاب، ورسم السياسات حول دور الجامعة في مجتمعها الخاص والعام ".

ومن التغيرات الأخرى التي شملها القانون الجديد هو إلغاء العقوبات الإنضباطية العديدة التي كان يزخر بها القانون السابق، وعلى سبيل المثال لا الحصر، معاقبة موظف الخدمة الجامـعية بإحدى العقوبات الانضباطية ، أو بإحالته إلى لجنة الانضباط ، إذا ظهر انه ارتكب ما يخل بواجبات وظيفته العلمية أو التربوية أو الإدارية ، أو بما يجب ان يتحلى به موظف الخدمة الجامعية من صفات خلقية، وهو ما يمكن أن يعرض الأستاذ الجامعي إلى الفصل أو الطعن بعمله العلمي وبشخصيته من دون حق. ومن جهة أخرى فأن القانون الجديد لم ينتبه إلى أن سلب الجامعات من عناصرها الكفوءة للعمل في الوزارة يؤثر سلبا على العمل الأكاديمي من تدريس وبحوث، حيث اعطى الحق كما هو في القانون السابق للوزير في تعيين أساتذة الجامعات في مركز الوزارة من دون جعل ذلك مشروطا بموافقة الجامعة ومن دون التأكيد على أن يكون هذا التعيين مقصورا على الكفاءات المتخصصة في التسيير الإداري والتربوي والمالي.

وكما هو عليه في القانون السابق، أكد القانون الجديد وأسهب في التأكيد على مهام الأستاذ الجامعي فكانت كثيرة ومفصلة من "رعاية الطلبة فكريا وتربويا، بما يحقق مصلحة الوطن والأمة" إلى "أداء الواجبات الإدارية التي تكلفه الوزارة بها أو المؤسسة التعليمية التي يعمل فيها". فبدلا من أن تحدد باختصار وظائف الأستاذ في العمل التدريسي والبحثي والإداري وترك تحديد هذه المهمات للقسم والكلية والجامعة على ضوء احتياجاتها وهو ما جرت عليه العادة في كل جامعات العالم المتطور، يرهق القانون الأستاذ الجامعي بكثير من المهمات والنشاطات التي ليس من الضروري تأديتها أو تعتبر جزءا لا يتجزأ من عمله العلمي والأكاديمي، فلا حاجة لذكرها، منها ضرورة الإسهام في المجالس واللجان الدائمة المؤقتة داخل الوزارة وخارجها.

نحن نعرف مدى اعتكاف علماء العالم عن المشاركة في الأعمال الإدارية، لانشغالهم واهتمامهم في البحث والتدريس. فلماذا يصبح الإسهام في لجان الوزارة واجبا بالرغم من أن واجب الوزارة والجامعة هو تشجيع الأستاذ للانشغال في عمله العلمي، ولماذا يجب عليه التواجد في مؤسسته بما لا يقل عن 30 ساعة أسبوعيا؟ هل إن تحديد فترة التواجد ضرورية لعمل الأستاذ الجامعي؟ إن تواجد الاستاذ الجامعي في الجامعة يعتمد على نوعية وحجم عمله فهو ليس كالموظف الإداري، واهتمامه العلمي يؤدي به إلى قضاء كل وقته في التدريس والبحث وواجباته المناطة إليه من قبل القسم والجامعة. إن عمل الأستاذ العلمي وإبداعه يحتاج إلى مرونة كبيرة، لذا فأن التفريق بين الأستاذ المجد والأستاذ المتقاعس يتم على أسس ومعايير أخرى لقياس الإنتاجية والكفاءة، تعتمد على مبدأ المنافسة داخل الجامعة الواحدة وبين الجامعات المختلفة، وعلى درجة طموحات الجامعة لتحقيق الجودة الشاملة وتبوأ مستوى عالمي في سلم الجامعات العالمية، لا على عدد الساعات التي يتواجد فيها الأستاذ في الجامعة.

وبالرغم من أن المادة الثالثة تبدو في مضمونها أسلوبا لتحسين النوعية ورفع الكفاءة التعليمية والتدريبية و"الجودة" وتشجيعا للأستاذ للمساهمة في تطوير المؤسسة التربوية التي يعمل بها وذلك بالطلب من الأستاذ بتقديم تقرير عن نشاطه التدريسي، وما يقترحه من توصيات لتطوير المناهج والمؤسسة التعليمية التي يعمل فيها، إلا إنها سترهق الأستاذ لأنها تطلب منه في نهاية كل فصل دراسي. وهنا أيضا يبدو الاختلاف واضحا عما هو متعارف عليه في الجامعات المتطورة، فهي تطلب بعض او مثل هذه التقارير حسب الحاجة وفي فترات متباعدة وليس من منطلق مراقبة عمل الأستاذ ومحاسبته. كل ما ارجوه أن تكون هذه التقارير مقتصرة على ما يفيد الجامعة لرفع الكفاءة التربوية.

ويبدو أن مشرعي القانون مصرون على بقاء درجة مساعد المدرس ومن حملة الماجستير ضمن الهيئة التدريسية يقوم بممارسة التدريس الجامعي والبحث العلمي والاستشارة العلمية والفنية. هذا علما إن مساعد المدرس لا يحمل شهادة الدكتوراه وبالمقارنة بجامعات الدول المتطورة فهو بمستوى طالب الدكتوراه أو المعيد. وحسب القانون الجديد يحق لحامل شهادة الماجستير إكمال دراسته للحصول على شهادة الدكتوراه مع استمراره في مهامه الوظيفية، ويعد متفرغا جزئيا لإكمال دراسته وتخفض ساعات عمله بما يساعده على الاستمرار بالدراسة، مع احتفاظه بجميع حقوقه وامتيازاته خلال مدة الدراسة بما فيها مخصصات التفرغ الجامعي. وبالرغم مما يظهر من تشجيع لحملة الماجستير على الاستمرار في الدراسة للحصول على الدكتوراه، فأن وجودهم ضمن الهيئة التدريسية لا يساعد في رفع مستوى الكفاءة التعليمية والبحثية للقسم العلمي، بل يكرس بقاء من لا يحمل الدكتوراة كتدريسين وباحثين يشاركون في صنع القرار الأكاديمي. كما إن "التفرغ الجزئي" لا يساعد الطالب في التفرغ الضروري لدراسته او المشاركة الأكاديمية الفاعلة وتعطيه دورا مزدوجا متناقضا. إذ كيف يمكن أن يحصل حامل درجة الماجستير على مثل هذه الامتيازات بينما نجد في الجامعات المتطورة العديد من حملة الدكتوراه يعملون كمساعدي باحثين (postdoctoral researchers) وبالرغم من مشاركتهم في التدريس أحيانا وفي الإشراف على طلبة الدراسات العليا لا يعتبرون جزءا من الهيئة التدريسية. لذا نعتقد أنه فمن الأفضل للجامعات العراقية أن تضع جدولا زمنيا للتخلص من حملة الماجستير ضمن هيئاتها التدريسية وذلك بتوفير فرص الدراسات العليا في الخارج أو الداخل، وفيما عدا ذلك ينقلون إلى وظائف أخرى غير أكاديمية. من المعروف انه لا يمكن أن يكون عضوا في الهيثة التدريسية من لا يستطيع تدريس طلبة الدراسات العليا أو الإشراف عليهم أو من لا يستطيع إجراء البحث العلمي بصورة مستقلة أو إدارة أعماله.

ومن ضمن المفارقات في هذا القانون هو تمديد فترة الخدمة الجامعية إلى عمر الـ 70 سنة، بالرغم من أن فترة الخدمة الجامعية لغرض التقاعد لا تتعدى 25 عاما، وهذه اقصر خدمة لغرض التقاعد وأطول فترة للعمل في العالم، فما هو السبب يا ترى؟ يبدو لي أن الخدمة الجامعية لا تبدأ إلا عند سن الأربعين أو بعدها!

وبالرغم من أن مخصصات الخدمة الجامعية حددت بالنسب المئوية، فإن مخصصات رئاسة ومعاونو رئاسة الأقسام خصصت بالأرقام المطلقة من الدنانير، علما بان سعر الدينار يتغير حسب السوق. فلماذا حددت هذه المخصصات ولم تحدد الرواتب؟ ولماذا تم تأكيد فترة للعطلة السنوية وفترة أخرى للإجازة الاعتيادية؟ ولماذا أعطى المشرِّع حق التفرغ العلمي لسنة واحدة لكل سنتين من الخدمة الفعلية؟ هل هذا يساعد على استمرارية العملية التدريسية والبحثية؟ كيف يمكن ضمان الإشراف المستمر على طلبة الدراسات العليا واستمرارية البحث العلمي عندما يحق للأستاذ أن يترك عمله لسنة كاملة بعد سنتين فقط من العمل؟ ولماذا تمنح مخصصات خدمة جامعية شهرية بنسبة (100%) من الراتب الشهري لكل موظف في الخدمة الجامعية بدلا من منحه راتبا مضاعفا؟ فالمخصصات بطبيعتها تمنح للبعض وليس للكل ولأسباب ليست عامة، فما الذي حمل المشرِّع على منح مخصصات أوتوماتيكية للجميع؟ هل غرض ذلك هو منح راتب تقاعدي بنصف الراتب الحقيقي على عكس ما يذكره القانون؟

وأخيرا، لابد من القول انه بالرغم ما يعترض التطوير والتغيير في جامعاتنا من صعوبات ورواسب الازدواجية أو رسوخ الممارسات النمطية، إلا إن عملية التطوير وتغيير القوانين غدت حتمية لا مناص منها، ونتطلع من خلال هذه العملية لمستقبل باهر للتعليم العالي والبحث العلمي في العراق.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com