لطيف القصاب/ مركز

المستقبل للدراسات والبحوث

annabaa20@gmail.com

من المعلوم ان هناك ثقافة شائعة في أوساط شريحة واسعة من المجتمع العراقي تحمل بين طياتها انطباعا سيئا ضد كلمة (حزب) شكلا ومضمونا, ولاشك ان لهذه الثقافة السلبية عوامل ومسوغات اصّلتها في الذاكرة الجمعية ممارسات الأحزاب السياسية العراقية بخاصة ذات النزعة الشمولية على مدى عقود من التجربة الميدانية العنيفة, سواء على صعيد وجودها في السلطة, أو تحولها الى صف  المعارضة الى حد ما...

 فضلا عن وجود أو بقايا وجود لنظرة دينية مازالت ترى في مسألة إشاعة ثقافة الحزب خروجا عن ثوابت الاعتقاد والسنن الصحيحة الى نوع من أنواع البدع المحرمة، كذلك يمكن أيراد الرؤية القبلية أو العشائرية التي تصنف المؤسسة الحزبية كخطر يهدد وجودها أو نفوذها في الحياة العامة مثالا لتسويغ وتسويق حالة النفور عن فكرة الحزب, هذا كله بالإضافة الى عوامل أخرى  في مقدمتها السلبية واللامبالاة الاجتماعية..., أدى في نهاية الأمر الى أجبار  قوى سياسية عديدة على  تجنب استعمال لفظة الحزب بالذات في رسم وكتابة عنوانها العام ولافتتها الرسمية الأبرز...

 وهكذا فقد اختارت مكرهة ان تطلق على نفسها أسماء من قبيل الحركة والمنظمة والتيار...الخ, ظناً منها ان الأسماء المتقدمة قد تتجاوز عقدة الحزب التي أبت الا ان تستوطن منطقة اللاشعور في سايكولوجية  الجمهور العراقي من جهة, وتوسع من دائرة الأفق الضيق الذي يكتنف معنى التحزب من جهة أخرى, وربما يكون البعض من تلك الأحزاب قد افلح الى حد بعيد  في إمرار عملية التمويه هذه بشكل حقق وما يزال يحقق له مكاسب تكتيكية على صعيد النظرة الواقعية المجردة، ولكن ليس على المدى الطويل بكل تاكيد.

وعلى أية حال فان الأحزاب بصرف النظر عن تلفع قسم منها بتعبيرات تغاير معنى الحزبية الصريح  الا انها تظل باكثر تجلياتها تمثل إحدى الظواهر البارزة والايجابية في الحياة السياسية, سيما لدى الدول التي لا تعترف بنظام الحزب الواحد أو (الحزب الحاكم أو القائد..) وتعتمد مفهوم نظام الحزبين أو نظام تعدد الأحزاب وتجرى فيها انتخابات دورية على قدر محترم  من حيث النزاهة والشفافية.

ولعل من العسير على الباحث ان يحدد مفهوما واضحا لا لبس فيه لماهية الحزب من حيث دلالته الاصطلاحية وحصر جميع عناصره الأساسية تحت أطار جامع مانع في ظل وجود اتجاهات عديدة أخذت على عاتقها مسؤولية البت النهائي في تحديد هذا المعنى الشائك على أسس طبقية أو أثنية أو دينية أو طائفية...الخ, فمما لا يخفى ان تفسير أصحاب كل اتجاه من الاتجاهات أنفة الذكر سيفضي الى إلغاء تفاسير أصحاب الاتجاهات المغايرة  بل انه سيلغي عمليا حتى تفسير الحزب الآخر الذي يسير معه في ذات الاتجاه ويفترض ان يتقاسم وإياه سائر القيم والمبادئ لأنهما أي الحزبين الشقيقين أو المنشق احدهما عن الأخر سيختلفان ببساطة شديدة  من ناحية المصالح.

اذن لا غنى عن الاتكاء في هذه المرحلة على تعريف (هارولود لاسويل) الذي حدد مفهوم الحزب بكونه " تنظيم يقدم مرشحين باسمه من اجل خوض الانتخابات", وهو بهذا المعنى مشروع سلطة يحمل برنامجا محددا يشرح من خلاله متبنياته في الفكر والاقتصاد والسياسة والاجتماع  تجاه قضايا مجتمعه المصيرية سواء تمكن من تحقيق مشروع الفوز بالسلطة أو جزء منها فعلا في ما مضى من انتخابات. أو ما يزال يسعى الى تحقيق ذلك الهدف الاستراتيجي في جولة أو (معركة) انتخابية مقبلة. وسواء أكان يعمل منفردا ذلك الحزب أو متحدا بشكل أو بأخر مع حزب أو أحزاب أخرى, وسواء سقط من اعتبار جمهوره أو ما يزال على قيد الاعتبار....

وبقدر ما يتعلق الأمر في عراق ما بعد عام 2003 م فان مبدأ تعدد الأحزاب أصبح أمراً واقعا في الحياة السياسية, وقد نصت المادة (39) من الدستور العراقي الدائم على ان "حرية تأسيس الجمعيات والأحزاب السياسية أو الانضمام اليها مكفولة وينظم ذلك بقانون ولا يجوز اجبار احد على الانضمام الى اي حزب أو جمعية أوجهة سياسية أو إجباره على الاستمرار في العضوية فيها", ما دعا ويدعو بإلحاح الى ضرورة التعجيل بتبني استراتيجية تطوير للعمل الحزبي ترتكز على مفاهيم وقواعد الديمقراطية الحقة.

وقد يكون احد أسباب دعوة اصلاحية من هذا القبيل يتمثل في  تدارك الفشل في التجربة الحزبية بخصوص واقع البلاد السياسي الراهن أو بعض مفاصلها على اقل تقدير, ذلك ان الاستمرار في هذا الفشل قد يفتح الباب على مصراعيه مجددا أمام وصول حركات سياسية متطرفة  الى سدة الحكم، هذا من جهة, ومن جهة أخرى فان الأحزاب السياسية اذا ما تشكلت على أسس عصرية سليمة فإنها ستؤدي بحسب التجربة الإنسانية المشاهدة في الدول الأكثر تحضرا الى منافع اجتماعية جمة ذات بعدين.

 اما البعد الاول فيمكن رصده من خلال ملاحظة انعكاسات تجربة الحزب الميدانية على المجتمع  وهذه يمكن اجمال عناصرها الايجابية  بالاتي :

** ممارسة الحزب لدور الوسيط أو همزة الوصل بين الرأي العام والحكومة, ومراقبة أعمال السلطة التنفيذية بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني, مع ملاحظة ان الأحزاب والهيئات السياسية اقدر على تحقيق الغايات المذكورة نظرا لحداثة وضعف تجربة المجتمع المدني في العراق وتحول قسم كبير منها -رهبة او رغبة- الى واجهات سياسية باسماء مدنية  مستعارة.

** تحويل مطالب الجماهير إلى واقع عملي نظرا لقدرة الأحزاب على تحشيد التأييد والدعم المطلوبين لتحقيق مصالح المجتمع أو فئة منه على الأقل وبالتالي سيادة مفهوم حكم الشعب لنفسه أو مشاركته في الحكم.

** اثراء الحياة السياسية وعدم السماح باحتكار السلطة من قبل البعض من المواطنين دون البعض الأخر طالما ان الجميع بحسب الدستور يملك القدرة على الانتساب أو الترشح - بغية تولي المناصب العامة - تحت راية حزب أو كيان سياسي ما.

** للأحزاب بما تمتلكه من وسائل إعلام أو اقناع أعمق الأثر في بلورة رؤية واضحة المعالم حول المجتمع والسياسة يستفيد منها المواطن بشكل عام  في موارد المقارنة ومعرفة الخطأ والصواب واختيار البديل الأنسب. حينما تتحول الاحزاب غير الحاكمة بدور المعارضة فتساهم بشكل فعال بالمراقبة والمحاسبة والضغط على الاحزاب الحاكمة، حيث تتحول المعارضة الى منافس يطرح مشروعا بديلا يحرج ويجبر احزاب السلطة على القيام بدور فعال لتحقيق طموحات الشعب.

 ** تشخيص وتحديد القضايا والحاجات الأكثر مساسا بحياة المجتمع  وإثارة وعي وانتباه الرأي العام الى المشكلات والحلول وفضح وتعرية العيوب وأوجه الفساد في البلاد بخاصة في مواسم الحملات الانتخابية وما بعدها...

** ممارسة الأحزاب لعملية تنظيم اجتماعية مكثفة من خلال السعي الى كسب اكبر جمهور ممكن  وبذلك فان الأحزاب بموقفها هذا تساهم في القضاء على الموقف السلبي أو الانعزالي لقسم كبير من افراد الشعب.

** مشاركة الأحزاب السياسية في العمل السياسي خصوصا في عملية الانتخابات تقدم شرعية للنظام السياسي الفائز وتجبر الخاسر على الانصياع الى الأمر الواقع وإرادة الجماهير وبالتالي تزيد من تلاحم أركان الدولة وتمنع حدوث انفجارات سياسية.

اما البعد الثاني الضروري لاتمام المنافع الاجتماعية ووصولها الى غاياتها الرشيدة فيتمثل في اعادة صياغة فكرة الحزب السياسي بالنسبة الى اتباعه ومريديه على اسس ومباديء مدنية حديثة، وياتي على راس اولويات مشروع تلك الصياغة اعتماد الية الانتخابات الحقيقية..., هذه الانتخابات التي لم يكن لها في تاريخ الحركة الحزبية العراقية حضور فعلي يمكن الاستدلال عليه فضلا عن الاستشهاد به  بغض النظر عن خداع الصورة البراقة، فقد جرت العادة في سلوك  تلك الاحزاب ان يكون الزعيم او الامين العام او الرئيس قدرا مقدورا لهرم السلطة في الحزب ما بقي على قيد الحياة  الا ان يُطاح به  نتيجة لتغيير في توازنات القوى الداخلية او الخارجية، وهنا يمكن توقع حالة من حالات الانشقاق ان عاجلا او اجلا، ذلك ان صياغة انظمة الاحزاب الداخلية  في بلدان العالم الثالث ومنها العراق  غالبا ما كانت تستوحي ان لم تكن تحاكي نظام الحزب الحاكم، الامر الذي يوفر بيئة خصبة  لاحتضان الدكتاتور حتى الموت او اعادة تفريخه من جديد.   

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com