|
" وفي أموالهم حق للسائل والمحروم " الذاريات 19 "إذا كنت ثريا فعليك أن تعطي المجتمع تعبيرا عن مسئوليتك الوطنية والمدنية والأخلاقية تجاه الحياة" الثراء : كثرة المال. والثروة : كثرة العدد. ويقال إنه لذو ثروة وذو ثراء أي أنه ذو عدد وكثرة مال. وأثرى الرجل :كثرت أمواله. ونقول الأغنياء من غنيّ أي ميسور الحال . والثراء مسؤولية أمام الله والنفس والناس، ومن ظلم الأثرياء أن يكون حولهم فقراء ويبخلون عليهم بما وسعت أيديهم. وفي ثقافتنا وتراثنا الحضاري والديني أن الأثرياء يعطون مما عندهم من النعمة للذين بحاجة إليها. وقد جاءت في هذا الخصوص آيات وأحاديث وأمثلة كثيرة، بل أن أحد أركان الإسلام الخمسة الزكاة، فيكون من واجب الأغنياء والأثرياء أن يعطوا للفقراء جزءا من أموالهم لكي يعبروا عن إسلامهم ومعاني إيمانهم. ولو نظر كل منا في بلدته ومحلته إلى الأثرياء من حوله ومن بني جلدته، وتأمل سلوكهم وتساءل مع نفسه عن ماذا قدموا لأنفسهم ولمجتمعهم, لتبين له بأنهم في غاية الأنانية والبخل وعدم القدرة على الخروج من قوقعة الذات التي تزداد سمكا كلما ازدادوا ثروةً. واذكر أن أحد الأثرياء في مدينتنا والذي ملك الكثير وتفوق في ثرائه وانهمك بالتمتع بأمواله، لكنه مات فجأة وما ترك شيئا يستحق ذكره ويساهم في تحقيق بعض المعاني الطيبة. فلم يبني مستوصفا أو مدرسة أو نادي رياضي أو بيتا للأيتام والمعوزين، ولم يتصدق من ماله على الفقراء والمساكين ولم يساهم في تقدم الحياة الاجتماعية وتطويرها . ومن أمثاله العديد من الذين أتخموا ثراءا وبنوا قصورا وأمعنوا في إسرافهم, وما تركوا شيئا مهما بعدهم، سوى التبجح والغرق في الأنانية وحب الذات وتضخيمها والمباهاة الزائفة. وهذه الظاهرة قائمة في كل مدننا من أقصى البلد إلى أقصاه وعلى مدى عقود وربما قرون متواصلة، وما تصدى لها أحد منا ولا نظر إليها بعين أخرى ذات منفعة جماعية وقيمة وطنية. فما قيمة الثراء عندما يكون مجردا من معاني التفاعل الجماعي الخلاق؟ وما قيمة أن يسعى البشر في دنياه ويتناسى قيم دينه وأصول ثقافته ومسئوليته تجاه الآخرين من أبناء شعبه؟ هذا ما يحصل في عالمنا المتأخر. أما في العالم المتقدم فأن المدن تفخر بأثريائها وتعتز بهم لأنهم يساهمون بشكل فعال في تنمية اقتصادها ، وبناء المنشآت ذات القيمة الاجتماعية والعمرانية التي تؤكد دورهم في تحقيق أماني مجتمعهم وتخلد ذكرهم. فترى الثري يتبرع للمدرسة والمستشفى ولإقامة النوادي والدور التي يستفيد منها المجتمع . فهذا يبني مكتبة وهذا يطور المدرسة وذاك يشيد ردهة في المستشفى والآخر يبني نادي ثقافي أو يهتم بجمال ساحات المدينة ويساعد المحتاجين والمعوزين . وهو ليس بمسلم ولا عرف شيئا عن الإسلام، لكنه يعبر عن كل الخصال الحميدة في ديننا فيعطي من ماله للفقراء ويساهم في رفاهية مجتمع مدينته. ولهذا فأن المدن التي فيها عدد أكبر من الأثرياء تراها قد تحولت إلى شعلة منيرة من الثقافة والرفاهية والسعادة، لأن الأثرياء لا يحتكرون أسباب السعادة لأنفسهم ، وإنما يشاركون الآخرين بما أعطاهم رب العالمين من النعمة, وبهذا السلوك فأنهم يقدمون شكرهم وامتنانهم لخالقهم الكريم ذو الفضل عليهم. فالثري في العالم المتقدم يتبرع ويساهم بجدية في تطوير مدينته وإسعاد أبنائها، والثري في العالم المتأخر يمعن في بخله وأنانيته ولا يساهم بشيء، سوى أنه قد يبني جامعا هنا أو هناك وما فكر أحد منهم بغير هذا، ويا ليتهم قد بنوا جوامع ذات معاني فنية وقيمة عمرانية كما يحصل في الجارة تركيا، التي يتم بناء الجوامع فيها وكأنها تحف فنية خالدة تضفي على المدن جمالا وسحرا, لكنهم يبنونها بأسلوب بدائي رخيص. ولو قارنا بين مدينة من مدنهم بحجم قضاء من أقضيتنا وعاينا كم فيها من المعالم الخدمية والثقافية والترفيهية، التي شيدها أثرياؤها عبر الأجيال لحارت ألبابنا ولشعرنا بالخجل. وأنظروا بلدانا بكاملها في أوطاننا وهيهات هيهات أن تجدوا مَعلما واحدا قد شيده ثريي من أثريائها، إلا فيما قل وندر, مع أن عدد الأثرياء العرب الذين تبلغ ثروتهم أكثر من ثمانية بليون دولار يشكلون نسبة 8% من أثرياء العالم، وقس على ذلك عدد أصحاب مئات الملايين وعشراتها. يا ثريّا في بلاد العرب كن كريما ورحيم الجانب وامنح الأيام معنى الطلب واملأ الدنيا بحسن الواجب وابتغي فيها عظيم النسب واسكب المال بفخر العاقب إن هذا الموضوع يشير إلى مدى التناقض ما بين الموروث والواقع الذي يعبر عنه, ويكشف مدى الجهل الثقافي والديني الفاعل في كيان المجتمعات الإسلامية والعربية خصوصا. فلو أن أثرياءنا يعرفون معاني الثقافة الإسلامية ومبادئ حضارتها، لتفاعلوا مع مجتمعاتهم بأسلوب آخر كما فعل أجدادهم من قبل، ولأضافوا معالم جديد لحياة الناس ولسخروا أموالهم لما ينفع الآخرين ويحقق السعادة في قلوبهم. فلو ساهم كل ثري في بلادنا بقليل مما عنده لتيسير الخدمات وتقليل المعاناة، لأصبح مجتمعنا بخير وعافية ولتحقق التفاعل الاجتماعي الإيجابي، ولتغير مزاج الناس وطريقة تعاملهم مع بعضهم، ولفاض الحب وسادت الرحمة والشفقة بين الناس. لكن هذا السلوك السلبي من أثريائنا، هو الذي يساهم في بناء ما يضرنا جميعا ويضرهم أيضا، لأنه يوفر عوامل النقمة والكراهية ضدهم ويخلق لهم الأعداء . وكثيرا ما سمعنا مَن يقول عن ثري بعد وفاته: " ذهب إلى دار حقه، وهل نفعه ما كان عنده من مال وما تمتع به من بخل وأنانية" إن سلوك الأثرياء في مجتمعنا يساهم في خلق الاقتراب السلبي ويؤسس دعائم النقمة الاجتماعية ويحقق الكثير من المواقف السيئة. ولو فعل أثرياؤنا كما يفعل الأثرياء في العالم المتقدم لكانوا بخير وكنا جميعا بخير. لكننا لا نفخر بأثريائنا لأنهم بخلاء وقساة وأنانيون وسلبيون، وهم يفخرون بأثريائهم لأنهم كرماء رحماء وإنسا نيون و إيجابيون. وذاك منطقهم وهذا منطقنا، فبأيهما تهتدون؟ وكيف يحصل هذا في مجتمعاتهم ولا يحصل في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؟! وقد وصف الجواهري أحد أثريائنا في بداية الخمسينيات من القرن العشرين بقصيدة عنوانها "عصامي" وما جاء فيها يتفق مع ما ذكرناه وهذه مقاطع منها. "وقد كان المجلي في احتكارٍ وقد كان المعلي في اختزان وقد ظل الربا يربو لديه وينمو في الدقائق والثواني ....... فقد كان الغني بما لديه بفضل الله – عن علم مُهان وعن أدبٍ يجوع المرء فيه وعن فضلٍ تضيق به اليدان ... وقد أجرى من الذهب المصفى ينابيعا تسيل مع الزمان وقد عصر الدموع من اليتامى فقاقيعا تفر من البنان وحوّلها سبيكا من نُضارٍ بمعجزةٍ، وعقدا من جمان" ومن المؤلم والمحزن أن لا يترك لنا أثرياء أمتنا شيئا نذكرهم فيه ونتخذه مثلا طيبا في سلوكنا عبر الأجيال، كما يحصل لأثرياء دول العلم المتقدم من حولنا.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |