كانت المجتمعات الإنسانية تنقسم إلى نوعين ثقافيين، الأول هو: المجتمع الزراعي، والثاني هو المجتمع الرعوي وكان المجتمع الزراعي هو المجتمع الأكثر ثقافة وكانت عواصم الإمبراطوريات تنشأ في وسط المجتمع الزراعي، ولهذا فإن المثقفين من المجتمع الرعوي كانوا يرحلون بقلوبهم وعقولهم وأقلامهم لعرض ما لديهم للسلاطين والقضاة الذين يشغلون مراكز إدارية في العواصم والمدن القديمة، وكانوا يأخذون بيد المنافقين ويطاردون المبدعين الحقيقيين.

لذلك كان المجتمع الرعوي يخسر المثقفين ليكتسب من خبرتهم المجتمع الزراعي.

وبهذا كان الإنتخاب الطبيعي يعمل على ترحيل المثقفين من مواقعهم الباردة ثقافيا إلى المواقع الساخنة ثقافية وكانت هذه الظاهرة أيضا تعمل على إبقاء المواقع الباردة ثقافيا باردة بسبب هجرة المثقفين الذين من المحتمل لو بقوا في مواقعهم أن يرفعوا درجة الحرارة الثقافية في مواطنهم .

 لهذا ظل الرعاة قروناً عديدة وهم يعانون من نقص عام في المثقفين والمبدعين ولهذه الأسباب بقيت مواصفاتهم تتسم بالخشونة والصلابة وقلة الوعي وهذه الظاهرة بقيت آثارها واضحة حتى بدأت وسائل الإعلام بالوصول إليهم من خلال الإعلام المرئي والمسموع.

ومنذ نهاية القرون الوسطى وبداية عصر البخار ظهرت أساليب جديدة بدأ الإنسان بها يطور حياته بفعل الآلة وليست بفعل اليد كما كان سابقاً في المجتمعات الزراعية ولهذه الأسباب ظهرت لأول مرة في التاريخ مجتمعات رأسمالية، من خلال بناء المصانع وتحسين الإنتاج وزيادة الأرباح وانتشرت مع هذه الظاهرة مؤسسات المجتمع المدني الحديث ووضعت القوانين من أجل حماية العمال والشغيلة من جشع الانتهازيين فما هي أوجه الشبه بين المجتمع الرأسمالي القديم أبان عصر بدايته وبين المجتمع الزراعي القديم؟

لا شك أن طبائع الاستبداد والظلم والطغيان والديكتاتورية، كانت هي الغالب على النظام العائلي القديم في المجتمع الزراعي، وهذا يعود لضعف إرادة المزارعين في كسب لقمة الخبز وهذا أدى بالطبع إلى زيادة الفقراء والتفافهم في شكل مشاعات قروية يحكمها (شيخ العشيرة) وهي العائلة الممتدة ولم يكن بوسع الفقراء أن يتعلموا أو يتثقفوا بسبب قلة إمكانياتهم وكان الفقراء يحرمون أبنائهم من التعليم ونادراً ما يحظى أحد الأفراد بالثقافة على حساب إخوته، وكانت المرأة مستبعدة من كافة المواقع العلمية، لذلك فإن أي نظام إجتماعي زراعي أو رعوي قديم تكثر فيه عوامل التخلف بسبب زيادة الطغيان نتيجة لديكتاتورية العائلة الممتدة ولضعف انتشار الآلة التي تتحكم بزيادة الإنتاج وتحسين ظروف المعيشة وكان الأغنياء يعيشون بكد العامل.

وإذا أتيحت الفرصة لكاتب أن يكتب، فإن عليه أن يلتزم بقواعد وشروط مجتمع الاستبداد وذلك يعود إلى عدم قدرة المثقف على الإنفاق المهني بحكم وظيفته كمبدع أو أي مثقف، أما المثقفون الأحرار والمتمردون فقد كانوا يطاردون ويقهرون وتتقطع بهم السبل، ويبقى المتسلقون والمنافقون يصورون الأخطاء على أنها حقيقة لذلك ولهذه الأسباب كانت الثقافة هزيلة وهشة على قدر هزالة المثقفين وهشاشتهم وإن مجتمع الاستبداد القديم، تتبنى أجهزته الحكومية مطاردة المتمردين من أجل حماية مصالحهم قبل مصالح السلاطين، وذلك كي يتمكنوا من الأعمال الليلية مثل السرقات والفساد الكبير بعكس النظام الديموقراطي الذي يدعم المثقفين ويطارد اللصوص.

أما الفارق بين النظام الثقافي القديم والحديث فإن له تناسب عكسي، فمع ظهور المصانع الإنتاجية، أرتاح الناس والعمال والشغيلة من الكد والإرهاق، وأصبح لديهم أوقات فراغ كافية لشرب القهوة وتبادل الأحاديث الثقافية مع ما رافق ذلك من تحسين ظروف الكتابة بسبب تحسن الصناعات الورقية التي أدت إلى انتشار مؤسسات قانونية تدافع عن الحقوق المدنية، وبدأت الاتجاهات السياسية بالظهور مما أدى بالنهاية لوضع الدساتير الديمقراطية واحترام الرأي والرأي الأخر، فما كانت النتائج؟

- لقد تراجعت المجتمعات الإستبدادية بسبب ظهور مجتمعات ديمقراطية، وانتهى زمن الذين يدفعون للمنافقين والمتملقين والمتسلقين وبدأ زمن الذين يحترمون الرأي والرأي الآخر، وتصالح المثقفون مع السلطة من خلال فسح مجال من الحرية في التعبير عن أرائهم ووفر الحكام والسلاطين على أنفسهم إضاعة الوقت في إخماد الثورات السياسية والعصيان المدني، ولهذا كله فإننا نلاحظ اليوم أن السرعة في التطور تعود أصلاً إلى سرعة انتشار البحث العلمي وإلى إزدهار الثقافة وقد تزدهر الثقافة في المجتمعات الديمقراطية التي تعترف ضمناً بوجود الآخر ولا تنفيه ولا تضطهده ولا تطارد لقمة خبزه.

- وبسبب الاستقرار السياسي وقلة الحروب تتوفر مناخات مناسبة للمثقفين للإبداع، بدل إضاعة الوقت بتبادل التهم والشتائم بين الدول المتصارعة بين المثقفين والسلطة، وهذا يعود إلى تراجع كلفة الإنفاق العسكري وتحويل هذه الأموال إلى ميدان البحث العلمي وبناء الأكاديميات والصروح الثقافية، وتعزيز مفهوم دولة القانون والمؤسسات.
- وانتشار الحرية بالتعبير يؤدي إلى الاستقرار الثقافي والتفاف المثقفين حول مؤسسات المجتمع المدني الحديث، بدل اضافة الوقت في الهجرة من أوطانهم إلى دول مجاورة غالبا ما تكون معادية وليس لها نوايا حسنة، وبذلك توفر الدول الديمقراطية على نفسها إضاعة الوقت في مراقبتهم والتشكك في نواياهم.

إلا نلاحظ أن المواقع الساخنة تزداد حين يزداد قهر المثقفين وإن المواقع الباردة تنتشر في المواقع التي يحترم بها الرأي والرأي الآخر تحت شعار التعددية والوحدة وتوسيع قاعدة الحوار وتوسيع قاعدة المشاركة وفي المجتمع الديمقراطي الصحيح تتوفر مناخات مناسبة للثقافات وللإنتاج ويطارد اللصوص ويضعف الفساد الإداري نزولاً عند- رغبة الجماهير والمستثمرين بحماية مصالحها المدنية وهذا يؤدي إلى الحفاظ التام على سلالة المبدعون الحقيقون ويتوفر جيل جديد بل المنافقين والمتسلقين ففي مثل حالة مجتمع الاستبداد يموت المبدعين الحقيقيين ويطارد الأقوياء ويبقى الضعفاء وهذا على مبدأ الانتخاب الطبيعي الذي يموت به الأقوياء ويبقى به الضعفاء كنتيجة طبيعية لمطاردتهم وتضييق الحصار عليهم لأنهم يتحولون إلى ضعفاء بسبب عوامل القهر والاستبداد ويتحول الضعفاء إلى أقوياء بسبب دعم المجتمع الاستبدادي لهم وإعطائهم فرص كبيرة للظهور.

ولا شك أن القارئ يعرف عن الإمبراطوريات الاستبدادية القديمة فقد كانت تطارد العائلات المالكة بسبب زيادة الضرائب على الفلاحين وكانوا يهاجرون ويتركون أرضهم وبهذا يبقى الضعفاء ويتناسلون وتتشر سلالات ضعيفة ومهترئة عملت هذه السلالات قروناً طويلة من التاريخ على انتشار مجتمعات ضعيفة بدنياً وعقلياً ولهذا كانت تتراجع الثقافة والتقدم العلمي، بسبب هجرة الأقوياء اقتصادياً وثقافياً أما في المجتمع الديمقراطي الصحيح فإن زيادة لإنتاج عمل على زيادة الأرباح وبسبب ظهور القوانين المدنية والرعاية الصحية وبسبب احتماء المثقفين بالديمقراطية توفرت لديهم فرص النجاح واستقرار سلالاتهم مما أدى اليوم إلى تقدم الثقافة .

- ولقد نعمت بلاد الشرق الأدنى بالشمس الدافئة والمناخ المستقر منذ ١٢.٠٠٠ سنة قبل الميلاد، ولهذا كان هناك مناخاً مناسباً لنشوء الزراعة والرعي، مما أدى إلى استقرار الإنسان به والحضارة، ولكن تطور الحياة الاجتماعية والصناعية في أوروبا وانتشار المصانع المدنية عمل هناك منذ بداية عصر البخار على انتشار الحقوق المدنية، وبذلك خسرنا نحن بعض مقومات الإصلاح المدني بسبب ضعف الصناعة والحقوق المدنية لأن بعض أسواقنا التجارية ما زالت تحمل طبائع القرون الوسطى ولان غالبية مثقفينا ما زالت تحيا حياة سلفية في تلك الأسواق القديمة، وهذا يؤدي إلى استمرار الأنماط القديمة في طرائق التفكير.

- وتعود أسباب ضعف الثقافة وقلة الإنتاج الثقافي ورداءته إلى ضعف انتشار المصانع والآلات العصرية، فما زالت غالبية سكان الوطن العربي يعيشون مع الماضي إلى ما قبل القرون الوسطى لذلك ولعدم التطور الصناعي يعجز التطور الاجتماعي على مد روحه في الأحياء السكنية وإن الشرق الأدنى- على حسب تعبير آرنل نوينبي يستسلم لقبول التكنولوجيا الغربية ولا يستسلم لقبول التطور الاجتماعي، ونلاحظ أن امتداد سلطة العشيرة ما زالت قوية والحفاظ عليها ظاهرة مقدسة، رغم أن تغير أساليب الإنتاج قد أحدث بع الثغرات في صلب العائلة الممتدة، حيث عملت الوظائف الحكومية على نقل ولاء الفرد من العائلة إلى السلطة وكذلك توسع أساليب التجارة قد خلق وراءه أقوياء مادياً مما أدى إلى عدم اعتبار القوة للعائلة، وهذا عمل على تفسخ قاعدة العائلة الممتدة، وبالتالي فإن المجتمعات العربية ما زالت في حالة دعم ومناهضة للتطور الثقاقي، والغالب هو المناهضة وذلك حتى يبقى الوضع على ما هو عليه لصالح المستفيدين اجتماعياً واقتصاديا من النظام القديم وإن عمل أي تغيير سوف يهدد مصالحهم:... الخ لذلك فإن الكاتب والكتاب العربي يواجهون طغيان الماضي بوسائل اجتماعية وأخيراً كان الفكر السلفي أداة حقيقية لقهر الروح العصرية.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com