|
تتناول الحلقة: مستقبل علاقتي الحزبية. السفر الى بولونية لمقابلة استاذي في خضم التغيرات السياسية، صعوبات الحصول على عمل بعد انهاء كورس اللغة الاساسية في السويد وسوء الحظ يطاردني فأخسر فرصة العمل في شركة هندسية. منذ الاسبوع الاول من وصولي للسويد كنت على اتصال بالرفيق والصديق الطيب الذكر شاكر الدجيلي، وقد بادر لزيارتي الى معسكر اللاجئين القريب من ستوكهولم كارلسلوند (Carlslund)، وبناء على دعوته زرناه مرتين وأقمنا في بيته لعدة ايام، وكانت هذه الفرصة الوحيدة لنا للأطلاع على بعض معالم ستوكهولم. وبحكم علاقتنا السابقة والجيدة سألني عن رغبتي في الأرتباط تنظيمياً. شرحت له تصرفات سكرتير المنظمة والاهمال الذي عانيته في معالجة إقامة زوجتي ولا أبالية لتخ في متابعاتها وآخرها مسألة ترحيلي المفبرك، وكان متفهما لموقفي لأنه هو الآخر عانى لحد ما من ذلك، وأشترطت في عودتي للتنظيم ان يرسل الترحيل الذي أعده (ك) سكرتير منظمة بولونية للأطلاع عليه ولمناقشة مايحويه من ملاحظات واتبين أخطائي كي أتجاوزها أن وجدت، وأوعدني بانه سيكتب عن ذلك الى لتخ لتبعث لهم الترحيل. بعد أنتقالي وأستقراري في مدينة كارلسهامن تواصلت مع الطيب الذكر شاكر تلفونياً، وفي كل تلفون كنت أسأله عن الترحيل ويعتذر لعدم أستلامهم أي جواب، وكنت في كل تلفون أناقشه بأهمية الترحيل وأخبرته أستغرابي كيف أن لتخ وحسب إدعاء (ك) طلبت أجراء ترحيلي الى ليبيا وبسرعة بالرغم من أنني أخبرتهم بأستحالة حصولي على عمل وأني عائد الى بولونية، ورغم كل هذا فأن ترحيلي تم خلال ثلاثة أسابيع، أما الان وبعد أستقراري في السويد يطلب مني الأنتظام من غير ترحيل بالرغم من مرور مايقارب السنة على أقامتي في السويد! وتكررت أتصالات الرفيق شاكر، وفي كل مرة كنت أسأله عن الترحيل وطبعاً جوابه بالنفي، وأخيراً وبعد أكثر من سنة من الأتصالات وجزعي من الأهمال وعدم الأهتمام بمصير الرفاق ومتابعة أوضاعهم وتنظيم ومراقبة تنقلهم بالاسلوب التنظيمي الذي تربينا عليه وبالأرتباط لما عانيته في بولونية أخبرته بقراري بعدم رغبتي بالأرتباط تنظيمياً، لأني للأسف وأقولها بألم أني أرى بوضوح ومن خلال تجربتي ألأخيرة في بولونية وحتى اليوم أستخفاف بمصير الرفاق!. وهكذا أنهيت نشاطي التنظيمي بعد ستة وعشرون عاما من العمل المنظم داخل صفوف الحزب وعانيت فيها ماعانيت من تعذيب وأعتقال وسجون، وأنا فخور بمسيرتي رغم ماواجهته من سلبيات. سافرت الى بولونية في صيف 1989 لأصطحاب أثاثي المتبقي في بيت أستاذي، ولمقابلة أستاذي المشرف البروفيسور دنبروفسكي. كانت الأوضاع في بولونية سريعة التغيير، فقد فازت القوى المعارضة للنظام الأشتراكي وفي مقدمتها منظمة التضامن فوزراً ساحقاً في أنتخابات البرلمان التي أجريت في حزيران 1989. وكانت نتائج التغيير واضحة ومريعة، فقد عانت من الفشل الكثير من الأجهزة الأدارية في إدارة مؤسسات الدولة بسبب التغييرات في إدارتها، وعانى البولون من الإنفلات الأمني وكثرة السرقات والنهب والأعتداءات بصورة لم يعهدوها من قبل. وآلمني ماشاهدته في مركز العاصمة وارشو من أهمال لنظافتها وتغيرات وتشويه مقرف لوجهها العمراني، حيث أقيمت دكاكين تجارية صغيرة لمختلف الباعة في مركز العاصمة وأمام قصر الثقافة، وتحول هذا المركز السياحي الجميل الى سوق هرج ينتشر فيه باعة الخضروات واللحوم بدكاكينهم الصغيرة التي لاتتوفر فيها أبسط الشروط الصحية والجمالية، وكان التشويه والتجاوز واضحاً على معالم مركز العاصمة، والتجاوزات شملت حتى البيوت والشقق السكنية. في أجواء التغيرات الجديدة في بولونية وأنعكاساتها على عموم حياة الشعب، التقيت بأصدقاء وزملاء بولون قدامى بعضهم من كان مؤيداً للتغيير والآخر كان معارضاً. وحدثني بعضهم عن المشاكل التي تعانيها الجامعة بسبب فشل العناصر الجديدة التي أستلمت إدارة شؤون الجامعة الأدارية والعلمية، ومعظمها من المؤيدين للتضامن. التقيت بأستاذي المشرف البروفيسور دنبروفسكي وكان محبطاً ومريضاً، وقدمت له مقترحاً حول برنامج بحثي في الموضوع الذي أخترته مع بعض التفصيلات لخطوطه الرئيسية، وبسبب مرضه طلب أن أتركه لدراسته وأعلامي بملاحظاته ومقترحاته برسالة. كلفت زميلتي السابقة ألزبيتا المعيدة في قسم الهندسة المدنية لتتصل من حين لآخر بالبروفيسور دنبروفسكي ليبت في مقترحي حول برنامج البحث. كما بذلت جهوداً مستمرة بالأتصال تلفونيا باليروفيسور دنبروفسكي، لكن حالته الصحية كانت في تدهور حتى كنت أحس بالحرج في الأتصال به ومتابعة موضوعي. أخيراً وصلتني رسالة من أستاذي بعد أشهر وكانت ملاحظات أستاذي غنية وساعدتني كثيراً في رسم خطوط بحثي والتركيز على المشكلة الرئيسية فيه دون التشعب في متاهات لآ تخدم الموضوع كثيراً، كما أقترح علي بعض المصادر والدراسات للأستعانة بها. في سفرتي الثانية صيف 1990 أعددت دراسة تأريخية حول تطور مواد البناء ومنها الخراسانة والخراسانة المسلحة وتصنيعها ومجالات أستعمالاتها. للأسف صدمت بوفاة أستاذي بعد صراعه المرير مع المرض، وأصبح لزاماً علي البحث عن مشرف جديد، وقد يطلب تغيير موضوع البحث أو في أحسن الأحول يطلب تغيير خطة البحث. تحدثت مع البروفيسور آبروموفيج (Abromowić) . أوعدني بأنه سيفكر بالموضوع، فهو يشرف على مجموعة غير قليلة من طلبة الدكتوراة والماجستير وحالياً غير قادر على تبني المزيد من طلبة الدكتوراة، وقد يخف الحمل عنه خلال الأشهر القادمة. عدت من بولونية وأنا متردداً في مواصلة مشروع دراستي. لأن أمكانيات العمل والأستفادة من شهادتي في السويد شبه مستحيلة، وهذا سبب أساسي غير مشجع على المواصلة. أضف الى ذلك سقوط النظام الأشتراكي في بولونية وصعود منظمة التضامن للسلطة، والتغيرات الهائلة في الحياة الأقتصادية والسياسية، مما أدى الى أرتفاع هائل ومتسارع في الأسعار وتدهور في الحياة الأجتماعية، كل ذلك سبب لي عوائق جدية في مواصلة دراستي لما تكلفه من موارد مالية عالية غير قادر على تحملها. وكان لأضطراري للمشاركة ببعض الدورات الدراسية في السويد أستجابة لضغوطات دائرة الشؤون الأجتماعية بالتنسيق مع مكتب العمل سبباً آخر في أتخاذي قرار التخلي عن مواصلة الدكتوراة. حولت كل جهودي للبحث عن عمل والتخلي عن مشروع مواصلة دراسة الدكتوراة. بدأت رحلة البحث عن عمل، وكانت رحلة متعبة في مدينة صغيرة أمكانيات العمل فيها جداً محدودة. كانت مجالات العمل أمامي مسدودة، وطرقت أبواباً متعددة ومتنوعة باحثاً عن عمل يناسب أمكانياتي ولكن كل جهودي باءت بالفشل. دخلت دورات عديدة على أمل أن تساعدني على العمل، منها دورة لستة أشهر لتعلم الرسم الهندسي المبرمج بالكومبيوتر (ألآوتوكات). وبعد أنهاء هذه الدورة لم أفلح حتى في الحصول على التطبيق المجاني في أي مؤسسة هندسية! مع العلم كنت أبدي أستعدادي للعمل دون تحفظ في كل المجالات الهندسية وفي أي بلد ومكان يرونه مناسباً. وأضطررت للمشاركة في دورة لمدة سنتين لدراسة مادة الأقتصاد بالأرتباط مع التحولات الجديدة التي رافقت تشكيل الوحدة الأوربية. كان من ضمن برنامجي في الدورة الدراسية القيام ببحث حول حاجة السوق البولونية لتحديث مصانع الطابوق، وأمكانية تقديم عروض سويدية للتحديث. وقد قمت بهذا البحث لصالح صاحب مصنع سترو (Strå) في منطقة سكونه (Skåne) جنوب السويد. وفر لي هذا البحث الأطلاع على واحد من أحدث مصانع الطابوق في اوربا، وأكتشفت حينها أن السويد تعتمد على الطابوق المستورد وأن عدد مصانع الطابوق فيها لايتجاوز الخمسة، بينما عددها في بولونية يزيد على المئة. بعد أن قدمت الدراسة قررت إدارة المدرسة إرسالي الى بولونية للأطلاع على بعض مصانع الطابوق ومقابلة أصحابها وتقديم عروض صاحب مصنع الطابوق السويدي السيد يان بترسون (Jan Petersson) لتحديث مصانع بولونية. ولأن تمركز مصانع الطابوق في بولونية كان في المنطقة المجاورة والمحيطة بمدينة كراكوف، لذلك أقترحت ان تكون سفرتي الى مدينة كراكوف مع زيارة لبعض المصانع في العاصمة وارشو. وافقت أدارة المدرسة على برنامج زيارتي ولمدة اسبوعين. كانت هذه فرصة لي للسفر الى بولونية، وبالتحديد الى مدينة كراكوف للأطلاع على مصانع الطابوق وطرق صناعته، أضافة لفرصة اللقاء بأصدقاء قدماء. نتائج سفرتي كانت جداً إيجابية، فقد أبدى معظم أصحاب المصانع البولونية رغبة في تجديد مصانعهم لكن العقبة كانت هي ضعف أمكانياتهم المالية وأقترحوا أن تتم مشاركتهم من قبل مستثمر سويدي، لكن صاحب المصنع كان حذراً ولم يواصل مشروعه. وهكذا أنهيت الكورس الذي كلف الدولة السويدية مئات الآلآف من الكرونات دون أن يحقق لي ولبيقة زملائي في الكورس أية فرصة عمل بالرغم من الجهود التي بذلتها في البحث. وعلى القاريء ان يخمن تكاليف هذا الكورس ولسنتين لخمسة وعشرين طالبا أجنبياً، نجح أقل من نصفهم في تقديم دراسة مشابهة لدراستي وسافروا للدول الأوربية لأتمام دراستهم وعروضهم على حساب الدورة الدراسية. بعد جهود وكفاح مضني ومطالبات لمكتب العمل بمساعدتي لأيجاد عمل مناسب لي، وفروا لي فرصة العمل كمعلم في ثانوية كارلسهامن في قسم البناء ولمدة شهرين. وقدمت حينها مداخلتين عن الخراسانة المسلحة نالت أستحسان الطلبة وأساتذتهم، ولا أخفي الصعوبات والجهد الذي بذلته للتغلب على المصاعب اللغوية وخاصة مايخص المصطلحات العلمية باللغة السويدية والجديدة عليّ. لكن عملي هذا لم يستمر طويلاً بحجة عدم وجود تخصيصات مالية. وخلال تعلم اللغة السويدية للمهاجرين (sfi) بذلت جهوداً للعمل كمعلم للغة الأم. وكانت الجهات المسؤولة، مكتب العمل مع الشؤون الأجتماعية وأدارة المدارس، تنسق فيما بينها لأختيار المعلم. وللأسف كانت أختياراتهم خاضعة لمعايير غريبة ولا تراعي الهدف الذي من أجله يتم تدريس لغة الأم. فعمل في هذا المجال طوني اللبناني وأخيه جورج وشابة لبنانية لم تنهي المتوسطة، والأول لم يكن قد أنهى الأبتدائية وكان يقضي وقته مع الطلبة في لعب الكارت، أما الثاني فتحصيله المتوسطة. وبعد أن أثرت هذه المشكلة وطريقة الأختيار على صعيد البلدية، أستدعوا مدرساً من أوبسالا خريج كلية الأداب الدمشقية لمزاحمتي على الشاغل، وبالتأكيد بعد المقابلة مع اللجنة تم أختياره. في مدينة صغيرة مثل كارلسهامن تنتقل الأخبار والمعلومات والشائعات بين المهاجرين العرب بسرعة لأن الكل يعرف الجميع والعلاقات الأجتماعية بين الجميع مفتوحة. فزيارات مسؤولة دائرة الهجرة ماريتا ييل في المدينة لبعض البيوت العربية، ومايدور بينها وبينهم من أحاديث والمساعدات المالية الأستثنائية التي تقدمها لبعض العوائل لا لأستحقاقاتها وأنما لأرتياحاتها وربما ورائها دوافع أخرى، كل هذه الأخبار كانت مدار تداول في البيوت وبين الجالية العربية. حتى وصلت بعلاقاتها مع بعض العرب الى حد أن يعرض عليها أحد اللبنانيين (الروي) أستعداده للوقوف في باب السوسيال (دائرة الشؤون الأجتماعية)، وكأنه مازال يعيش أيام الحرب الأهلية في لبنان، ليمنع ويبعد بالقوة المهاجرين وخاصة العرب من الذين يزعجوها بكثرة زياراتهم ومطالبهم مقابل أجر شهري!. كانت ماريتا ييل تستغل مركزها الوظيفي وأشرافها على وضع المهاجرين (اللآجئين)، للأتصال باللآجئين تلفونياً وأثناء عملها ومطالبتهم بالمشاركة في التظاهرات التي يقوم بها الحزب الأشتراكي السويدي. كان معظم العرب يستجيبون لطلبها لأنهم مازالوا يعيشون عقدة الأنتهازية والخوف من المسؤول الذي يتحكم بوضعهم ومعونتهم الأجتماعية وكأن مايمنحه من خزينته الخاصة وليس من خزينة الدولة، وأن كل مايقوم به تنفيذ لقوانين أجتماعية سنتها الدولة. ففي أحد الصباحات أتصلت بي تلفونياً المترجمة العاملة في دائرة الشؤون الأجتماعية مع ماريتا، وأخبرتني بطلب ماريتا بالخروج في تظاهرة اليوم بالمدينة، ودار بيننا الحوار التالي وكانت تقوم بترجمته الى ماريتا مباشرة. _ ماهو هدف التظاهرة؟ المترجمة: من أجل أستمرار النظام الديمقراطي في رومانية!. طبعاً كان هذا بعد سقوط نظام شاوسيسكو وأعدامه بعد محاكمة صورية، وخلال أحتلال بنما من قبل القوات الأمريكية وأعتقال رئيسها مانويل نوريغا عام 1989. الحقيقة طلبها هذا أثارني، فماريتا كانت تتهرب من الأجابة على تلفونات ومشاكل مهمة وأذا ماعوتبت تجيب بأن أشغالها كثيرة ووقتها لايسع، بينما من أول واجباتها هي العمل على حل مشاكل اللآجئين وهي مهمة وكثيرة كالسكن، ومدارس الأطفال وحضانتهم وتوفير المترجمين المرافقين لللآجئين عند زيارتهم للأطباء وغيرها من مشاكل. لهذا وجدت من الضروري مناقشتها في طلب ماريتا للتظاهر، فأنا لست بيدقاً تستغله موظفة لتسيره حسب رغبتها وكأنه لايحمل أي فكر. سألتها: ومن الذي دعى لهذه التظاهرة؟ المترجمة: الحزب الأشتراكي - وما علاقة دائرة شؤون الأجتماعية بالحزب الأشتراكي؟ وبأرتباك ملحوظ أجابت المترجمة: لا أبو نورس، ماريتا هي التي تطلب منك المشاركة! - هل هذا الطلب من مهمة ماريتا، أم أنه من مهمة الحزب؟ - لا، هي أحبت تبلغك مثلما بلغت الآخرين. - أرجو أخبارها بموقفي، أن النظام في رومانية سقط وأعدم شاوسيكو بمحاكمة صورية (وأنا لست ضد محاكمة عادلة له) ولم يعترض الحزب الأشتراكي، وأحتلت بنما وأعتقل رئيسها ولم يعترض الحزب، ويحكم العراق نظام دموي ولم يقم حزبها بتحرك يتناسب ودموية النظام، أما في رومانية فسقط النظام وتغير الحكم وليست بحاجة الى تظاهرات تضامنية، فالعراق ودول أخرى كثيرة أحوج الى مثل هذه التظاهرات التضامنية. لذلك أبلغيها أعتذاري من المشاركة. لقد أثر هذا الموقف كثيراً على تعامل ماريتا ييل معي، وخاصة في مساعدتي للحصول على عمل، فهي كانت ناشطة وذات كلمة مسموعة وعلاقات جيدة مع إدارة المدارس ومكتب العمل ومنسقة مكتب سوق العمل في البلدية، فكانت تنسق مع الجميع لتوفير بعض الأشغال للعاطلين من اللاجئين. كانت تتفنن في توفير الأشغال وأختراع عناوينها وتفصيلها على قياس من تريد مساعدته. وزاد الطين بلة في تشددها وعدم رغبتها بمساعدتي، عندما شاهدتني مساهما فعالا في تظاهرة مع مجموعة من أحزاب اليسار السويدية. حيث نظمت تظاهرة مع حزب اليسار والحزب الشيوعي والحزب الماركسي اللينيني الثوري أحتجاجاً على القصف العشوائي الأمريكي للعراق أثناء تحرير الكويت، وقد القيت كلمة أثناء التظاهرة باللغة السويدية أدنت فيها النظام الدكتاتوري لإحتلال الكويت وممارسته الأرهاب ضد شعبه وحروبه العبثية، كما أدنت طريقة القصف الأمريكي والتدمير الذي يحدثه القصف للبنى التحتية وازهاق ارواح الأبرياء من ابناء شعبنا وعدم أستهداف رموز النظام بجدية. بعد يومين من هذه التظاهرة بعثت عليّ ماريتا ييل لتتحدث معي حول العمل، وبدأت حديثها معي وهي تضع صحيفة محلية أمامها وفيها صورتي أثناء القاء الكلمة في التظاهرة، قائلة: لم أكن أعرف أن لغتك جيدة لهذه الدرجة بحيث تلقي كلمة! لذلك أرى قد حان الوقت كي تعمل. قلت لها: هذا ما كنت أطالب به، ويمكنني العمل بدل خالد حيث ترك تعليم لغة الأم (المقصود لغة العائلة) وأنا متعلم وخريج جامعة ومارست التدريس في العراق ولا يوجد من هو أفضل من تحصيلي في المدينة. ردّت عليّ مبتسمة: لآ لآ، أنت ماجستير بالهندسة المدنية، ومن الحرام أن تعمل معلم لغة عربية، وسأجد لك خلال أيام عملاً في أختصاصك، وعليك الأنتظار!. في كلامها هذا دغدغت طموحي ورغبتي، ولو أن هذا من حقي وأن عرضي وقبولي للعمل كمعلم لغة الأم هو نتيجة يأسي من أستحالة توفر فرص العمل بأختصاصي بسبب الصعوبات اللغوية والبطالة المتفشية حينها في قطاع البناء. وافقتها على مقترحها بعد أن أكدت لي بأمكانية توفير عمل لي في أحدى المؤسسات الهندسية. بعد اسبوع أتصلت موظفة من مكتب البلدية مسؤولة في مكتب سوق العمل (للأسف لم أعد أتذكر عنوانها الوظيفي ولا أسمها) وأخبرتني بأنهم حصلوا لي على عمل في شركة بناء (NCC) وطلبت أن أترك دورة تعلم أستعمال الكومبيوتر، وهي دورة لمدة ثلاثة أشهر وكنت في بداياتها. عند مقابلتها أخبرتني بتوفر عمل لي في شركة البناء، وأن المسؤولين في الشركة سيأخذون بنظر الأعتبار دراستي وأمكانياتي اللغوية، وطلبت أن أباشر صباح اليوم التالي ومقابلة المسؤول عن الموقع. صباح اليوم التالي ذهبت للموقع، وسألت عن المسؤول وأستقبلني ببرود متوقعا منه أن يحدثني عن عملي لكنه أصطحبني الى مجموعة من الشباب لايتجاوز عمر أكبرهم العقدين وهم يقومون بنقل المصطبات وتنظيف الشبابيك في قاعة كبيرة، وقال أذهب لتشاركهم في العمل! أستغربت وتفاجأت بالمهمة وسألته: أليست هذه شركة بناء؟ نفى ذلك بأبتسامة. أعدت عليه السؤال، معتقداً أنه لم يفهمني. أكد لي أن عملهم ليس له علاقة بشركة البناء (NCC) وأنهم يعملون للبلدية وعملهم متنقل ولا يتعدى التنظيف والتنظيم وتقليم الأشجار!. أعتذرت عن العمل وغادرت لأستوضح الألتباس وعدم الوضوح فيما أخبرتني به مسؤولة مكتب سوق العمل في البلدية. على أثر قراري برفض العمل، وفي نفس اليوم أبلغتني تلفونياً مسؤولة الشؤون الأجتماعية مونيكا (Monika) بقطع المعونة المالية عني! تعرفت على مونيكا قبل أسبوع تقريباً، حيث أصبحت السكرتيرة الأجتماعية الجديدة لرعايتنا، وكانت أنسانة مهذبة وطيبة جداً ومتفهمة. تفاجأت من سرعة قرارها بقطع المساعدة دون أن تسألني عن سبب رفضي العمل. أتصلت بها وناقشتها بقرارها ووضحت لها أسباب رفضي العمل، ومن نقاشي أحسست أنها وقعت ضحية خدعة مثلي. أقترحت عليها أن تعقد لقاءً لي مع ممثلة مكتب العمل ومسؤولة سوق العمل لتتأكد من حقيقة موقفي وأني ضحية خدعة خبيثة. في اللقاء لم تحضر مسؤولة سوق العمل، وكان هذا الغياب بالنسبة لي على الأقل مفضوحا. شرحت لهم كيف أن مسؤولتي السابقة (ماريتا ييل) ضيعت علي فرصة العمل قبل عشرة أيام كمعلم للغة ألأم مستنكرة رغبتي للعمل كمعلم وأنا ماجستير في الهندسة المدنية وأوعدتني بالعمل في شركة بناء. حتى جاء أتصال مسؤولة مكتب سوق العمل وهي تؤكد لي أن العمل في شركة البناء (NCC)، وطلبت أن أترك حالاً دورتي الدراسية في الكومبيوتر، ووافقت على العمل ولكن صدمت عندما أخبرني مسؤول الموقع أنهم يعملون لصالح البلدية وليست لهم علاقة بشركة البناء وكل عملهم التنظيم والتنظيف ومن الشباب الذين يبحثون عن عمل خلال العطلة الصيفية. لكن ممثلة مكتب العمل أكدت أن العمل تابع لشركة بناء كما أخبرتها مسؤولة سوق العمل! أدهشني أصرارها ومحاولة خداعي وخداع الآخرين، طلبت منهم الذهاب الى الموقع والتأكد من صحة ماذكرته. أنتهى الأجتماع على وعد بحجز لقاء مع مسؤول الموقع والتأكد مما قاله لي. ومرت الأسابيع ولم يتصلوا معي، وبذلك خسرت دورة الكومبيوتر ولم أحصل على عمل. بعد شهر أخبروني بأمكانية العمل في شركة البناء (NCC) مجدداً. وفعلاً كان العمل في بناء روضة أطفال، وكانت مهمتي في تدقيق بعض التصاميم ومراقبة طريقة البناء ومطابقتها للتصاميم، وأحيانا كنت أمارس وأتعلم بعض الأشغال التي هي من أختصاص عمال البناء ولم يسبق لي أن مارستها ولكن كنت أحس بلذة العمل وكان يوم العمل يمضي دون أشعر بالوقت. لكن هذا العمل لم يدم طويلاً فالعقد لثلاثة أشهر فقط حيث أنجز بناء الروضة وتم تسليمها، وعدت مجدداً للبطالة والبحث عن عمل. أضطررت للدخول لمعهد التعليم المهني لتعلم مهنة ما تساعدني على العمل، وأثناء الفترة التحضيرية أستدعتني مسؤولة مكتب العمل في المعهد وأخبرتني بأن شركة بناء بحاجة لسبعة طلبة للعمل بعد أنهاء دورة خاصة بهم. أعجبني المقترح والتقينا نحن السبعة مع مسؤولين في الشركة، وكانت الشركة تعتمد في جزء كبير من عملها على الأجزاء الجاهزة، وأثناء التحدث معنا وتعرف مسؤول اللجنة على شهادتي وخبرتي، تحدث مع المهندس المشرف على الدورة وأقترح عليه بأن تكون دورتي التعليمية خاصة وأن تشرف عليّ أحدى المهندسات بعد أنهائي دورة التهيئة. كانت دورتنا تبدأ في السابعة صباحاً وفي مدينة كارلسكرونا التي تبعد عن مدينتي مسافة 60 كلم، لذلك كان علي الأستيقاظ يومياً الساعة الخامسة صباحاً وأعود للبيت الساعة السادسة مساءً. كنا نقضي في الدورة نصف الوقت بالدراسة لكراريس مهنية ومن ثم نمارس ماقرأناه في عمل تطبيقي. كانت مقر دراستنا ضمن منطقة ذات طابع عسكري وأعتقد انها معسكر للجيش ، لذلك زودنا بهويات خاصة لدخولها. بعد شهرين من بدء الدورة حدثني المشرف عليها برغبتهم لنقلي بعد أنتهاء الدورة الى مكتب الشركة والعمل تحت اشراف أحدى المهندسات في المكتب وطلب مني التحدث مع مسؤولة مكتب العمل في معهد التدريب المهني. بعد يومين من حديث المشرف تتصل بي مسؤولة مكتب العمل في مدينتي وتطلب مقابلتي. توقعت أنها ستحدثني عن مقترح المشرف، لكن فاجأتني بطلبها بترك الدورة والعودة للمعهد، لأن دراستي في المعهد أفضل لي!. صدمت بطلبها، وأكدت لها رغبتي بالأستمرار في هذه الدورة لأني أرى فيها مستقبل أفضل وهي من ضمن أختصاصي، ورغم انني مضطر للتنقل يومياً 120كلم فأنا سعيد بهذه الدورة خاصة ان المشرف أخبرني برغبة الشركة في نقلي الى مكتبها. اصرت المسؤولة على موقفها وطلبت مني عدم الذهاب الى المعسكر وستبلغ المشرف على الدورة بهذا القرار!. في اليوم الثاني خالفت رأي المسؤولة وذهبت للمعسكر، ولكن تفاجأت من منع الحارس لدخولي ومصادرته لهويتي، وبعد أن ترجيته وافق على أستدعاء المشرف على الدورة والذي هو الآخر أستغرب من تصرف الحارس، وأوعدني بأنه سيتحدث مع المسؤولين في الشركة. بعد أيام أتصل بي المشرف وأخبرني بأن أنهائي للدورة خارج إرادة الشركة ومسألة سياسية!. فهمت الدوافع، فالدورة كانت بعد حرب الخليج الثانية، وتهديدات المتهور صدام في أعتدائه وشنه الحرب على كل المساهمين في الحرب أو المؤيدين لها، كان هذا ربما السبب في الحذر وتخوفهم من أدخالي للمعسكر ومواصلة دورتي، التي أرتحت لها لأنها تحقق طموحي وتناسب وضعي الصحي وآلآم العمود الفقري بسبب الأنحراف الغضروفي مابين الفقرات، الذي يسبب لي آلآما شديدة.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |