الشرق الاوسط في سلّة امريكية!

 

 د. سّيار الجميل

www.sayyaaljamil.com

لم اكن اصدّق قبل سنين ما كتبه مايلز كوبلاند في "لعبة الامم"، ولم اكن اّصدق أيضا ان السياسة "لعبة قذرة"، ولم اكن اصّدق كذلك ان الشرق الاوسط: مزاد يباع فيه كل شيئ ويشترى منه اي شيئ .. كل ذلك وغيره كثير تعلمته من الغاطس في التاريخ، وادركته من المخفي لما وراء سطور الوثائق، وخلصت اليه من فهم ما الذي يجنيه الاقوياء وما الذي يخسره الضعفاء! نشرت قبل ايام مقالا، وقبل اتفاق اللبنانيين في الدوحة، قرأت فيه ارتباط كل احداث الشرق الاوسط بعضها بالبعض الاخر، وما يكسبه طرف سيخسره طرف آخر .. والخيوط متعددة ولكنها متشابكة تتجمع في يد واحدة، هي التي تحرّك كل المقامرة، وهي التي تجلس في غرفة السيطرة تراقب كل اللعبة، لا يهمها الا ما تجنيه هي في نهاية المطاف، ولا مبادئ ثابتة تحكمها، فربما كانت متغيراتها تتبدّل كل يوم!

دوما اقول لاصدقائي : اذا ما اختلفتم في تقييم حدث او واقعة معاصرة في الشرق الاوسط، ونحن من ابنائه، فابحثوا عن اصحاب المصلحة الحقيقية الذين يترصدون ويظهرون او يغطسون ويختفون، وفي النهاية يكسبون .. واذا ما عالجتم اوضاع لبنان ـ مثلا، فلا تنسوا انها مترابطة مع احداث تجري في العراق، او اخرى في فلسطين او تلك التي في ايران .. ومن يتشبث برأيه وايديولوجيته فهو الخاسر، لا يفهم سياسة ولا يجيد اللعب فيها، سواء على مستوى افراد ام احزاب ام دول.. كما اريد القول بأن مصائبنا نحن العرب، اننا لا نعرف قواعد اللعبة ونخوض في غمار سياسات اقليمية ودولية .. ومن يبقى على مبدأ (يعيش ويسقط) او على شعارات الماضي، واتباع التخوين والعمالة والتكفير.. فهو لا يدرك ان السياسة مصالح ولا علاقة لها لا بالاخوة ولا بالصداقة. وقد علمنا التاريخ ان التحالفات هي شراكة مصالح اولا واخيرا ! واذا ما علمنا ان السياسات هي مجموعة صفقات ومصالح تدار عبر اقنية خفية.. وان اللاعب الحقيقي هو فنان الممكن الصعب، ادركنا قذارة التاريخ السياسي بين الامم، وخصوصا الكبيرة في تسيير دفة حركة الصغيرة .

انظروا الى الشرق الاوسط والى اللاعبين عليه، فلا يختلف اثنان سواء كانا زعيمَين ام مواطنَين   ان مقاديره السياسية غدت امريكية، وانه كان ولم يزل في رعاية امريكية، وان كل احداثه تتحرك في سلة امريكية، حتى ذاك الذي وصف امريكا بـ " الشيطان الاكبر " فلقد كان جزءا من صفقة " ايران غيت " ! بل ان الذي اشعل حرب 1973 ضد اسرائيل، وقّع معاهدة امريكية معها في كامب ديفيد عام 1979 ! وان من اراد ان يحّل شرطيا للخليج بعد الشاه جعلته امريكا ينزف ثماني سنوات عجاف في حرب اسموها عن عمد وسبق اصرار بـ " الحرب المنسية " ! وان اضواء خضراء خافتة توزع الادوار في غزو هذا والانسحاب من هناك ! قولوا ما تشاؤون بوصفها " فكرة مؤامرة " والبسوها ما شئتم، ولكن من السذاجة والغباء ان تتخيل نفسك وحيدا في الميدان، وميدانك مجال حيوي استراتيجي لا يمكنك السيطرة عليه ازاء من هو اقوى منك !

ربما فرح الفرقاء في لبنان انهم وقعوا اتفاقا، ولكن علينا ادراك حركة الاحداث، ومن هو الاقوى لبنانيا اليوم ؟ من فرض ارادته ضمن الثلث المعطّل وعدم نزع سلاحه ؟ وبمن يرتبط ؟ وما الدولة الاقليمية الوحيدة التي فاوضها الامريكيون ؟ اين تجدون مصالح امريكا الحقيقية ؟ في العراق ام لبنان ؟ ما سّر بدء المفاوضات السورية ـ الاسرائيلية وبرعاية تركية هذه المرة ؟ لماذا فشل العّراب الذي يقود الجامعة العربية لأشهر طوال بايجاد أي حل على ارض لبنان .. وفجأة يأتي الحل من بعيد ؟ ما علاقة الاحداث في العراق بكل الصفقة التي تجري في عدة دول شرق اوسطية ؟ ما الذي ساومت عليه ايران ضمن هذه اللعبة، وهي التي كانت ولم تزل تلعب الكرة لوحدها  بحرية على الساحة ازاء آخرين ظهروا مقيديّن ومصفدين بالاغلال!

لقد بدا لي تماما ان خمسين سنة مضت بكل احداث المنطقة، وانهار دماء ابنائها، وحروبها الباردة والوهمية والكارثية، وانقلاباتها العسكرية، وجيوب احزابها وجماعاتها وانعقاد مؤتمراتها،وصفقات العديد من زعمائها، وقتل بعضهم .. كلها تصبّ في سلة امريكية واحدة ومنذ ايام الحرب الباردة، وانتقالا الى عهد الوفاق، ووصولا الى ارادة القطب الواحد . وكنت اعتب على الزعماء قراءتهم كتاب "الامير" لميكافيللي، ولكن اذا كانت تجربة الاخير محكية قبل خمسة قرون، فكيف بنا اليوم ونحن نعيش في عالم تتفاقم فيه المصالح والشركات بشكل لا يصدّق ؟

هنا اقول، ان السياسة ليست هي دوما فن الممكن الصعب، ولكنها في (دولنا) فن اجادة اللعب مع الكبار، والمناورة واداء الادوار سواء كان صاحبها يظهر بنياشينه وصولجاناته العسكرية، او يبدو بعمامته الدينية، او ببدلته، او بعباءته، او قلنسوته، او سرواله وزنّاره .. المهم، هل لك القدرة على ان تحافظ على مصالح بلدك العليا وخدمات شعبك الدنيا، وانت على قاربك في بحر متلاطم الامواج وتواجه اكبر حوت في الوجود؟؟

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com