|
|
|
"الدولة ذات الرأسين"..!!؟ (*)
باقر الفضلي قد يبدو العنوان أعلاه مربكاً بعض الشيء، وهو في الحقيقة لا يُعبر عن مفهوم دستوري أو عرفي، بل ولا يمت بصلة الى أي ميثاق دولي أو تشريع قانوني، ولم يعتد الأدب السياسي والقانوني على إستخدامه ضمن مصطلحاته المعروفة..! الغرابة في الأمر؛ أن هذا المصطلح \"إفتراضاً\"، بات واقعاً قائماً بذاته في الحياة السياسية وفي عدد من البلدان، وخاصة في الشرق الأوسط، وفي عُرف مَنْ يلجأون اليه تطبيقياً في الحياة اليومية ، بل وأكثر من ذلك، حينما يحاولون تكريسه في الحياة السياسية كأمرٍ واقع، وعلى المجتمع أن ينصاعَ لإرادة القائلين به، كحقيقةٍ قائمة لابد منها، والإعترافَ به كأمرٍ لا يقبل المناقشةَ، ولا يتحمل حتى التساؤل والإِيضاح.!؟ لو عاد المرء الى كافة دساتير الدول في العالم، والى ميثاق الأمم المتحدة والنظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، الموقع عليه في 26 حزيران من عام 1945، فإنه سوف لن يُواجَهه بمصطلحٍ مثل هذا، بل وعلى العكس، فإنه سيجد أن مصطلحَ (الدولة) هو المصطلحُ الوحيد المستخدم في جميع هذه المجالات..! الدولة؛ وهي المفهوم الوحيد للتعبير عن وجودها، بإعتبارها كيان جغرافي بحدود موثقة ومعترف بها من قبل الدول الأخرى، وبالذات منها، الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وطبقاً لميثاقها، وبما فيها أيضاً الدول غير الأعضاء فيها، ولها كامل السيادة على أراضيها وأجواءها ومياهها الإقليمية وما في باطن أراضيها..الخ، ولا تمتلك أي قوة أخرى، بما فيها منظمة الأمم المتحدة نفسها، حقَ التدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي للدولة، وإن كان ذلك لا يخل بتطبيق تدابير القمع الواردة في الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة..! الدولة إذن كل متكامل أمام نفسها وأمام الدول الأخرى، ويجري التعامل معها وفقاً لهذا الأساس، وطبقاً لمبدأ السيادة التامة لكل دولة، وهذا ما قامت عليه المنظمة الدولية، حين أقرت أن الهيئة تقوم على \"مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها\"..! الهدف من كل ذلك هو للتأكيد على وحدة الكيانِ الشرعيةِ للدولة، بإعتبارها كل واحد موحد في التعامل مع الآخرين على الصعيد الدولي، وبغض النظر عن الأشكال التي تَبني عليها نظمها السياسية داخلياً؛ ولغرض أن تعبر أي دولة ما، عن وجودها الموحد كدولةٍ تمتلك كاملَ السيادةِ والإستقلال، أزاء الآخرين، فإنها تجد هذا التعبير من خلال التمثيل الشرعي الحقيقي لها، عن طريق سلطة الحكومة القائمة شرعياً، والتي تمتلك هذا الحق بموجب دستورٍ يمتلك نفسه، الشرعيةَ المعترف بها وطنياً، ويدخل ضمن ذلك حقُها المطلقُ في إحتكار سلاح الدولة، وحقُها في إدارة والإشراف على مؤسساتِها الدستورية، وضبطِ النظام العام وتأمينِ وضمان الأمن الوطني، وتأمين الدفاع عن سلامة الوطن، وبالتالي فإن هذا التمثيل للدول عن طريق حكوماتها، هو الشكلُ الغالبُُ والمتعارفُ عليه في المجتمع الدولي والذي تأخذ به هيئةُ الأمم المتحدة والمثبت في ميثاقها الأساسي..! وفي المنطوق المعاكس لكل ذلك، هو ما أخذ يتلمسه المرءُ ، بل وما أصبح من الأمور الملموسة لمسَ اليد، في الواقع السياسي الدولي؛ والمقصود به، ذلك الشرخُ الكبير لمبدأ ومفهوم الدولة الممثلة بحكومتها الشرعية كما أشرنا اليه في ما تقدم، حيث بات من الأمورِ المسلم بها أن يواجه المرءُ، حكومةً ب\"رأسين\" وربما في بعض الأحوال \"متعددة الرؤوس\"؛ رأس يمتلك الشرعيةَ والمقصود به الحكومة الشرعية المُنتَخَبة، وآخر أو \"أكثر\" موازٍ له، يَدَعي \"شرعية\" من نوع جديد، رغم إعترافه وإقراره بشرعية الرأس الأول (الحكومة)، بل ومشاركته في مؤسسات الدولة الشرعية مثل البرلمان أو حتى مساهماً في عضوية الحكومة نفسها..!؟؟ وهنا نجد أنفسَنا أمام مفارقةٍ غريبة، وذلك على الصعيد الدستوري أو على صعيد القانون الدولي، حيث يصبح من المتعذر معه، التعامل مع سلطةٍ برأسين أو أكثر، خاصة إذا ما كانت تلك الدولة، أمام إلتزاماتٍ ذات طابعٍ دولي، في وقت هي فيه مجبرة على التقيد بشروط \"الرأس الآخر\" والإعتراف به كواقعٍ قائم، رغم عدم شرعيته الدستورية، وإن إمتلك شرعيةً وطنيةً ضمن حدود الدولة..!؟ وما يميز هذه الإزدواجية في التحكم بالسلطة، وبشكل خاص؛ هو تمتع \"الرأس الثاني\" اللاشرعي، بالكثير من مواصفاتِ السلطةِ الحقيقية المُنتَخَبة ومهماتها المختلفة؛ وذلك بما يمتلكه من آليات الحركة، وما يضفيه على وجوده من سماتٍ ذات طابعٍ وطني، تتمثل في الأعم الغالب؛ بتقريره لنفسه شخصياً؛ \"حق\" الدفاع، و\"حق\" التحرك العسكري، و\"حق\" تقديم الخدمات وإقامة الهياكل الأساسية لمنظومات الطرق والمواصلات، وبناء شبكات الإتصالات السلكية واللاسلكية الخاصة به ولإستعمالاته الشخصية، بل والأهم من ذلك؛ \"حق\" تجنيد وتشكيل المنظمات العسكرية وتسليحها بما يقرره هو شخصياً؛ من نوعية السلاح، وما يحدده من مصادر التمويل، وتمتعه ب \"حق\" عدم كشف حساباته وميزانيته للتمويل، وجهات التمويل والإِستثمار، أو وضعها تحت مراقبة سلطة الدولة (المؤسسات الرقابية الحكومية). وكل هذه \"الحقوق\" يمنحها لنفسه تلقائياً دون إعتبار الى سلطة الدستور والقوانين السائدة رغم إعترافه شكلياً بوجودها..!؟؟؟ هذه الإزدواجية السلطوية، باتت تشكل عبئاً على الدولة نفسها وعلى حكومتها الشرعية، وإذ ما أخذ المرء بالتفسير الدستوري لمثل تلك الحالة، سوف يجد نفسه أمام حالة من الخروج على كل الأسس الدستورية لمفهوم الدولة، في نفس الوقت، خروجاً على الشرعية التي مَنَحَتْ هذه الحكومةَ شرعيةَ وجودِها في السلطة والمقصود به الإنتخابات التي أوصلتها للسلطة من خلال ترشيح البرلمان المُنتَخَب، وهنا تصبح حكومةُُ ُ مثل تلك، في مهب الريح، بعد أن تجد نفسَها أمامَ واقعٍ آخر، لا يقر لها بشرعيتها العملية أو ينازعها عليها ، في نفس الوقت، الذي يمنح نفسه \"شرعيةً\" أخرى، جاءت عن طريق \" التفويض الذاتي\" وبواسائل جبرية مسلحة، وفي ظلِ ظروفٍ طارئةٍ أكسبته توازناً وثقلاً سياسياً و إجتماعياً وحتى عسكرياً أمام سلطةِ الدولة الشرعية، وما فرضته تلك الظروف من دعمٍ ماديٍ ولوجستي، خارج إطار الدولةِ نفسِها، سمحَ لكل ذلك بالتكوين والوجودِ المُكَرَسِ على أرض الواقع..!؟؟ فمهما تبلغ سلطة الدولةِ الشرعيةِ من قوةٍ ازاء وضعٍ مثل هذا، وحتى رغم تحسسها بشرعيتها وطنياً، فإنها تجد نفسَها في حالةٍ من الحَرج الدستوري، أمامَ نفسِها وأمامَ شعبِها وأمامَ الشرعيةِ الدولية مجتمعة، ولا يظل أمامها غير طريقُ التصرفِ العقلاني، في مقدمة السُبلِ التي يمكن سلوكها في طريق حل إشكاليةٍ دستوريةٍ بهذا المستوى المُعَقَد؛ تكونُ في مقدمةِ آلياته؛ الدعوةُ للحوار من جهة، والتمسكُ بالدستورِ كَحَكَمٍ مع الآخرين، والتذرعُ بالشرعية الدولية كداعمٍ معنوي ووسيلةٍ لتقريب وجهاتِ النظرِ من جهةٍ أخرى. كل ذلك بهدف الإبتعاد عن الوقوع في فخ الصدامِ مع الرأس الآخر ، من أجل تجنيب المواطنين الأبرياء من المدنيين، نتائجَ مثل ذلك الصدام غير المحسوبة العواقب..!!؟ شرعيةُ الدولةِ وحكومتها ذات \"الرأسين\" المتعارضين، تظل مهزوزةً داخلياً، وصيداً دسماً للقوى الخارجية، التي تجد في مثل تلك الدولة، مطمعاً لها في تحقيقِ أجنداتها الخاصة في ظلِ أجواء الإحتقان الداخلي، وإحتواء تلك القوى التي سيكون من مصلحتها التوافق معها والمساهمة في إنجاز مراميها القريبة منها والبعيدة، حتى وإن تم ذلك على حساب مصالحِ أوطانِها أو بالضد من مصالحِ شعوبِها..!!؟؟ ولا يتعلق الأمرُ هنا بمجردِ سرد نظرياتٍ أو تكهناتٍ إفتراضيةٍ لواقعٍ غير موجود على سطح الأرض، بل قد أثبتت التجربةُ الميدانية، حقيقةَ كل ما أشرتُ اليه فيما تقدم، وقد منحتنا وقائعُ ما جرى ويجري في الساحة السياسية اللبنانية، وبعضاً مثله في العراق، مع بعض الإختلاف في الجذور والأسباب والظروف المحيطة، وإن تشابه في المظهر، وشبيهاً له في غزة من فلسطين، ما يؤكد مغبةَ التدخلِ الخارجي في الشؤون الداخليةِ للدول، من تمزيقٍ للصفِ الوطني، من خلال إستغلال المشاكلِ الداخليةِ للدولة، ودق الأسافينِِ بين أبنائها، وزرعِ بذور الشقاقِ والتنافرِ بين قواها الوطنية..!؟ ولعل من بؤس الحالِ أن تنبري بعض الأوساط من أبناء الدولة نفسها، الى إعلان إنجرارها وراء تطلعاتِ الدولِ المُتدَخِلة، بل وحتى إندفاعها بإصرار، بإعلانها التمسك بإيديولوجية وعقيدة الدولة المُتدَخِلة، وحتى دون إعتبارٍ للمشاعر الوطنيةِ للفئات الأجتماعيةِ الأخرى في المجتمع، والأمثلةُ الميدانية على ذلك أكثر من أنْ تُحصى، بل وأن الإعلان عنها أصبح مفخرةً لدى البعض، ورحم الله (سيف بن ذي يزن) ..!!؟؟ فالدولةُ ذات \"الرأسين\" المتعارضين أو أكثر، تظل حالةً شاذةً في المجتمع الدولي في ظل ظروف الدولةِ الشرعية، لإنها تشكل عائقاً أمامَ تطورِ الدولة نفسِها، وتجعلها رهينةً لقوى التدخلِ الأجنبي، وتكرس الإنقسامَ الداخلي للمجتمع، وتجعله سبباً أو قنبلةً موقوتةً جاهزة للإنفجار في أيةِ لحظة. أما التذرع بمبرراتٍ أخرى لإدامة حالة الإزدواجيةِ في السلطة، ومهما بلغت درجةُ عاطفيتها، وقربِها من المشاعرِ الوطنية، فإنها تبقى قاصرة أمام الوحدة الوطنية، التي هي السلاح الوحيد أمام الجميع في تحقيق تلك المشاعر. وكل ما يتمناه المرء، أَنْ يُدرِكَ الجميع جسامةَ وخطورةَ ديمومةِ الدولة ذات \"الرأسين\" المتعارضين، مهما بلغت النوايا الحسنة من صدق وبراءة..!! وهكذا هو الحال اليوم في لبنان، وبعد أن خَطى خطوتَه المباركة نحو السلام، فالكل مدعو اليوم، لتعزيز هذا المسار ودعم كل خطوة تسهم في ترسيخ الحياة الديمقراطية في لبنان، \" لان نجاح التجربة الديمقراطية الوطنية المدنية في لبنان ليس انتصاراً تاريخياً للبنان فقط، بل هو انتصار للنضال الديمقراطي الوطني في العالم العربي كله.\" كما يشير الأخ الكاتب محمد موسى مناصره مدير عام مركز الحارس للدراسات والإعلام..! (*) _________________________________________________ (*) ذات الرأسين تعبير إفتراضي (**) http://www.alsbah.net/mynews/modules.php?name=News&file=article&sid=3638
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |