|
أبا عامل طـَريقـُكَ مُكلـَّلٌ بالأورادِ
نبيل يونس دمان يا لهُ من طريقٍ مجيدْ سَلكهُ، ويا لهُ من فِكرٍ رشيدْ اعتنقهُ، رفيقـُنا الذي رَحلَ في غفلةٍ من الزمنِ، غادرنا بطلٌ من ابطال ِالشعبِ، وأحدُ اصلبُ المناضلين في بلادنا، واعزُ وانبلُ من انجبتهُم بلدَتِنا القوش، فيها ابصرَ النورَ، وشقَّ طريقهُ في الحياة، وفيها تشرَّبَ من قيمِ الإباءِ والرجولةْ، واليها عادَ لتحتضِنُه تُربتها الغالية. لو كان للزمانِ لساناً لنطقَ، ولو كان للمكان فماً لتحدّثَ، عن الانسانِ الوديعْ، الهادئُ، البسيطْ، الذي تُحلـِّقُ روحُه الآنَ في سماءِ الرافِدين، عن ذلك الثوريّ المُكافِحُ، لعشراتٍ من السنين، بلْ قـُلِ الحالِمُ بوطنِ الاجدادِ يَبنيه الاحفادُ، ليسابق الاممَ، مُجدِّدا صَرحَ حضارتِه قبل آلاف السنين. عندما يُحلق نِسرٌ في الاعالي، أوقِنُ انَّ فيه قلبَ سليمان بوكا، وعندما يزأرُ أسدٌ في البراري، أخالُ ان فيه قلبَه، وعندما تتحرك كائناتُ البحر برشاقةٍ وجمال ِ، يُخيـّلُ إليَّ انَّ فيها قلبَه ايضاً. ماذا أتحدثُ عن أبي عامل ومن أين ابدأ، هل ابدأ ُ من فترةِ تعيينِهِ مُعلماً في مدرسةِ القوش الاولى ( 1946- 1952) حيث تخَرجَّ على يديهِ اجيالٌ ، ومنهم على سبيل المثال لا الحَصْر : سعيد يوسف اسطيفانا، عمانوئيل موسى شكوانا، وغيرهما، وهل انقلُ ما يَرويه معاصروا تلك الفترة، ما لأبي عامل من شخصية مؤثرة ومُحترمة، من قبل التلاميذِ والاهالي معاً، في ذلك الزمن البعيد نسبياً، كان اغلبُ المعلمين يَستخدمون ايديَهم وعُصيّهم لمعاقبةِ الطلبة، إلا ابا عامل، فكان بهيبتِه واسلوبـِه وطريقتِه الهادِئة، يَفرضُ جَوَّ التدريس المناسب، ويَجعلُ التلاميذ يَنصتون اليه. لم يَكتفِ بتعبِ النهار، فبادرَ مع أقرانهِ في فتح دورةِ محوِ أمية الكبارْ في الأماسي، وقد وَفرّوا فرصَة للكثيرين بان يتعلموا الابجدية َ فتنفعُهم في حياتِهم المقبلة، وبالمناسبة كان والدي وعمي تلامِذتُه في تلك الدورة، وهُما مَدينان بالعرفان له ولزملائه، تلك الجهود المُضنية التي بذلوها. لم يَمنحُ الاهالي لقبَ الأفندي، الا لِمن يُعدّوا على اصابع اليدِ، ومنهم الراحِل الخالد ( سليمان افندي ). في شباط عام 1980 غادرتُ العراقَ في اجازةٍ الى براغ، وفي مقهى ( سلافيا ) الذي يرتادُه العراقيون، ناولني احدُهم جريدة َ " طريق الشعب " السرية ، وفي إحدى صَفحاتِها موضوعٌ ان لم تـَخذلـَني ذاكرتي بعنوان ( بَطلٌ من هذا الحزبِ )، يتحدث عن صمود سليمان يوسف في سجون الفاشِست الذي دخلهُ عام 1978، هناك في زنزانتِه المُظلمة إرتفعتْ بيدِه راية ُ النضال ِِ عاليةٌ. قبلها وفي عام 1963 كان أحدْ نـُزلاءْ قطارَ الموتِ، ومِنهُ سيق الى سجن ( نقرة السلمان ) الرهيب، والذي حولـَّهُ السجناءُ الى مدرسةٍ، تخرجَّ منها مُناضلي شعبنا، من كل قومياته وفئاته السياسية. لم يَنلْ من ابي عامل الحيفُ الذي انزلهُ النظامُ به، في استشهادِ زوجتِه يازي يونس تعينو، في حادِثٍ مُدَبرٍ كان يستهدفُه في اواسطِ السبعينات، بين كركوك وبغداد. لم يَنلْ منه استشهاد اخيه الصغير هرمز ( ابو ايفان ) في عام 1981 في جبال كردستان، ملجأۥ الاحرارِ، وقلعةۥ الثوارِ، من اجلِِ الغدِ الأسعدِ لعراقنا. ولم ينل منه فقدانه كل ما يملك، وتشرُّد اولاده في جهات الدنيا الأربع، بل واصل طريقـَه الشاق مقدِماً المثالَ الذي، ستبقى أجيالٌ تِلو اجيالٍ تتخذۥه دليلاً في حياتِها. تعلقَ ببلدتِه وأحبّها كثيراً، يَزورها باستمرارٍ كلما سَنحتْ له الفرصة َ، وفي الثمانينات عندما كان قائداً للانصار ومقرُّه في جبهةِ سوران، حيث البُعد الجغرافي يحول دون وصولِ اخبارِها اليه، كان دائمَ السؤالِ عنها، من مُراسلاته اللاسلكية، مع قائدِ انصارِ بهدينان البطل توما توماس. في ايلول عام 1995 كتبت قصيدة شعرية بلغتي العريقة اقتطع منها الابيات التالية مع ترجمتها الى العربية : سليمـَن بْوكـَه مْماثـِد أريـِه أثْ أصلايـَــــــه كـْمَه گـَهاثـَه مْخيلْ گـَمـِيـَّة ولا بـِترايَـــــــه حـِبْس ِ خزيلِه دَنْ عاصوتي بـَر ِبْرايـِــــــه كِمدايـِشلِه أث گبارَّه وْپلِطـْلِه پْخايـِـــــــــــه يومَه كفايـِتْ وشاتـَه كْأورَه وآوُ رْحْيقـَــــه خـْواثِد رَبَّنْ أيحيذايَه عَلـْمَه شْويقـَـــــــــــه بآثِه زونـَه بْباهِر أثـْرَه بْيومَه زْريقـَـــــــــه ودِجمِنْ دِيـِّحْ پّايـِشْ مْپيلـَه وبْعاقـَه خْنيقـَه في اكتوبر عام 1996 أعطاني الزمن فرصة َ الجلوسِ معه، في بيت المربي الراحل جورج جبوري خوشو، هناك تبادلَ الإثنان الذكريات القديمة، التي تعود الى اوائل الاربعينات، وتحديدا عام 1943 عندما عرضت مسرحية في القوش بعنوان " يوسف الصديق " لمؤلفها المطران سليمان الصائغ، ومخرجها الاستاذ جورج جبوري، ومثـّل فيها ابو عامل احدَ الادوار، تحدثوا كل ذلك وامورٍ اخرى، جَعلت الفقيد الكبير يلتفِت اليّ قائلاً " منهم تعلمنا وعلى ايديهم تتلمَذنا ". كنت كلما ألتقي ابا عامل او نتكلم في الهاتف، اسألُ عن صحتِه، فكان جوابه المعتاد بانه في صحة جيدة، متجاوزاً آلامهِ ومعاناتِه الطويلة، في صِراعه مع الواقعِ البائسِ، لأجلِ هدفٍ من أربعِ كلِماتْ " وطنٌ حرٌّ وشعبٌ سعيدْ ". وباستمراراطلبُ منه ان يدوِّن مذكراتِه، والآن أجدُها فرصة ً ان اُناشِدَ اولادَه ورفاقـَه لنشرِ ما انجَزهُ في كتابٍ يروي للايامْ سيرة َ هذا الرجل. ولا يفوتني ايضا، ان اُخاطبَ الحكومة العراقية وحكومة اقليم كردستان، بان تتذكـَّر ابطالَ المقاومة ضِدَّ الدكتاتورية المقبورة، فـَتخلدُ اسمائَهم، وتهتم باولادِهم واحفادِهم، كجزءٍ قليلْ من الوفاء، لما قدّموه في حياتِهم، وما اجترحوهُ من مآثرٍ، وفي مُقدمَتِهم الشيوعيُّ المِقدامْ، الضابطُ الباسلْ، المحامِيُّ البارعْ، والمعلِم الفذْ سليمان يوسف بوكا.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |