مواقف لا تنسى للراحل عزيز شريف
محمد علي محيي الدين
abu.zahid@yahoo.com
لست هنا بمعرض التقييم للراحل الكريم عزيز شريف الشخصية الوطنية اليسارية الشيوعية التي تعددت مواقفها،واختلفت توجهاتها تبعا لاختلاف الظروف والأحوال،فهذا حديث يطول يحتاج لدراسة قائمة بذاتها ولكني اليوم بسبيل طرح مواقف إنسانية له اتجاه أسرة شهيد حزبنا الشيوعي العراقي القائد الفلاحي كاظم الجاسم(أبو قيود) بصورة خاصة وبعض أسر شهداء حزبنا أوائل السبعينيات عندما كان وزيرا للعدل بعد انقلاب تموز 1968 ،ومحاولات البعث الالتفاف على القوى الوطنية العراقية ،وعقد التحالفات معها لغايات خطيرة ظهرت نتائجها بعد أعوام،رغم أن قيادة الحزب وقواعده عارف بما يخطط البعث له وسادته الإمبرياليين.
وقد حدثني نجل الشهيد(توفيق كاظم الجاسم) أنهم بعد اعتقال والده قي 14 تموز 1970 بوشاية من أحد الفلاحين،وفشل محاولات إنقاذه سواء بالطرق الرسمية أو غيرها مما أشرنا إليه في مقالاتنا السابقة،اضطرت العائلة لمراجعة الجهات الحكومية لمعرفة مصيره،وعندما توجهت مع والدتي إلى مديرية أمن بابل فوجئنا بإنكارهم لوجوده أو معرفة مصيره،ولكن الحزب علم بطريقة ما أنه مودع في قصر النهاية،فسلكنا الطرق المختلفة للوصول إليه،فكنا نأخذ له الملابس والطعام إلى مقر وزارة الدفاع الكائن في باب المعظم حيث يسلم الى دائرة عسكرية هناك تقوم بإرساله الى مكان اعتقاله وهو قصر النهاية،وذات يوم ذهبت بصحبة والدتي لمراجعة وزير العدل الفقيد عزيز شريف بمكتبه في الوزارة للتحري عن مصيره والسعي لإطلاق سراحه،وبعد أن راجعنا استعلامات الوزارة طلبنا من الموظف المسئول أخباره بطلبنا لمراجعته،وكان على علم مسبق بأمر المراجعة عن طريق قيادة الحزب التي كلفته بوصفه وزيرا للعدل له الحق في التدخل في مثل هذه الأمور،وقد سمح لنا بالدخول بعد أن أخبره الموظف بوصولنا ،ودخلت عليه أنا ووالدتي،فقام الرجل من مكتبه وتقدم خطوات الى الأمام للسلام على والدتي التي فوجئت بهذه الحفاوة ثم صافحني وطلب منا الجلوس،فأخبرناه بالأمر وأنه معتقل حاليا في قصر النهاية لدى المجرم ناظم كزار،فأجرى اتصالات عديدة بجهات لها علاقة بالأمر إلا أن الجميع تنصل عن الأمر وعدم الاتصال بناظم كزار،فما كان منه إلا أن امسك بسماعة التلفون وطلب من عامل البدالة إيصاله بمدير الأمن العام وكنت أسمع الحديث الدائر بينهم ،وبعد عبارات المجاملة المألوفة أستفسر منه عن مصير الوالد والمعتقلين الآخرين، محملا إياه مسئولية عدم الإفصاح عن مصيرهم ،فقال له المجرم ناظم كزار بالحرف الواحدLشنو لكيتني حايط نصيص يوميه مخابرني،ذوله ما موجودين عندي)عندها أغلق الفقيد عزيز شريف سماعة التلفون،وقد أمتعض من هذا التصرف الفج من هذا البعثي القذر،وقد سألته والدتي عن الأمر فأخبرها أنه معتقل في قصر النهاية ولم يحصل عن أي معلومات عن سلامته،فسألته أين هو القصر ،فاخبرها أنه في منطقة الحارثية،وبعد خروجنا من الوزارة ،ركبنا في إحدى سيارات الأجرة طالبين من السائق إيصالنا الى الحارثية قرب قصر النهاية،ولم تكن والدتي تعلم ما هو القصر أو أهميته،وعندما أوصلنا السائق الى مكان قريب من القصر وأشار إليه ،نزلت أنا ووالدتي واجتزنا الجزرة الوسطية التي تفصله عن الشارع الثاني وتوجهنا الى الجهة التي فيها القصر فلم نشعر إلا ومجموعة من حراس القصر يهرولون باتجاهنا وقد صوبا بنادقهم باتجاهنا طالبين منا الوقوف، وبعد أن توقفنا سألنا أحدهم الى أين ذاهبين،فقالت له والدتي الى قصر النهاية!! فقال لها لا يوجد مكان بهذا الاسم وهذه ثكنة عسكرية ،فطلبوا منا مرافقتهم الى الداخل وهناك خضعنا لاستجواب من أحد الضباط الذي سأل والدتي عن غرضها من المجيء الى هنا، فقالت له أني زوجة كاظم الجاسم وهو معتقل لديكم وجئت للاستفسار عن مصيره،فأمر باحتجازنا في أحدى الغرف،ثم أطلق سراحنا بعد ثمانية ساعات.
وكنا نرسل الحاجيات الى وزارة الدفاع لإرسالها من قبلهم إليه،وذات يوم أرسلت له بعض الملابس والطعام،وفي اليوم التالي جئت لاستلام الملابس القديمة وانية الطعام الفارغة فأعاد الحارس الملابس ذاتها وأخبرني أنه جرى إعدامه ولا داعي مستقبلا لجلب أي شيء له،وتوجهت مع والدتي الى مكتب الأستاذ عزيز شريف الذي منحنا بطاقة دخول الى مكتبه في أي وفت(كارت) فأخبرته والدتي بما قاله لها جماعة الدفاع ،فأجرى اتصالا بجهة ما ،ثم التفت الى والدتي وقد بدأت على وجهه علامات التأثر قائلا لها:اهتمي بتربية أبنائك وهذا أفضل ما تستطيعين تقديمه للراحل الكريم،وبعد خروجنا من مكتبه توجهنا الى القرية حيث أقمنا له مجلس الفاتحة لمدة سبعة أيام على عادة الريف في مثل هذه المناسبات،وقد قام رجال الأمن بمراقبة مجلس الفاتحة بشكل علني حيث اتخذوا من دارنا مقر لهم لا يغادرونها ليلا أو نهارا،وقد جاء وفد من الحزب الشيوعي العراقي،وبعد قراءة الفاتحة طلبوا مني الذهاب معهم،وهناك سلموني مواد غذائية مختلفة وما تتطلبه الفاتحة من مواد،وقد وفد الى القرية أناس لا نعرفهم من مختلف الأنحاء،رغم الرقابة الأمنية المكثفة.
وكنت حينها قد أنهيت دراستي الإعدادية،ولانشغالي بالمراجعة حول اعتقال والدي،فاتني التسجيل في أحدى المعاهد أو الكليات،فراجعت الفقيد عزيز شريف وشرحت له الحالة،فأمهلني أياما لإيجاد حل للموضوع وفعلا بعد عدة أيام زودني بكتاب من مجلس قيادة الثورة بتوقيع أمين عام المجلس لقبولي في الكورس الثاني في المعهد الفني في أبو غريب بغض النظر عن شروط وتعليمات القبول.
وبسبب اعتقال والدي فقد امتنعت دوائر الجنسية عن تزويدي بشهادة الجنسية العراقية إلا بحضوره ورغم المراجعات والوساطات والتأثيرات إلا أن مدير شرطة الهاشمية أتخذ موقفا معارضا،وحينها توجهت الى الفقيد عزيز شريف عارضا عليه الأمر طالبا منه الاتصال بمدير شرطة الهاشمية،فقال لي كيف أتصل بمدير شرطة وأنا وزير،فأتصل تلفونيا بمدير شرطة الحلة طالبا منه الإسراع بمنح شهادة الجنسية العراقية لأسرة كاظم الجاسم لأن والدهم معتقل في سجون النظام،وأمام إلحاحي المتواصل قام بالاتصال مرة ثانية بمدير شرطة الهاشمية وفعلا حصلت عليها في اليوم التالي،مما مكن أفراد أسرتي من الحصول على شهادات الجنسية دون عناء.
وبعد أكمالي الدراسة في المعهد الفني في أبي غريب نقلت الى البصرة لأسباب سياسية ولكوني من أسرة مغضوب عليها في قوانين البعث الجائرة،فراجعته عارضا عليه الأمر طالبا التدخل لنقلي الى أحدى المحافظات القريبة من بابل،وفعلا أتصل بوزير الزراعة في وقتها (حسن فهمي جمعة) لنقلي الى محافظة قريبة ،فصدر الأمر الوزاري بنقلي الى مديرية زراعة النجف.
وآخر المراجعات للفقيد عزيز شريف عندما أستحصل لنا نحن مجموعة الأسر الشيوعية التي أعتقل أبنائها وجرت تصفيتهم من السلطة البعثية على قرار من مجلس قيادة الثورة المنحل باعتبار المفقودين موتى ومنحهم شهادات وفاة لإكمال معاملاتهم التي تتطلب حضور ولي الأمر وهو ما أشرنا إليه في حلقة سابقة من مقالاتنا عن الفقيد الراحل.
تحية للفقيد في ذكراه،ومجدا للروح الشيوعية الأصيلة التي يحملها في داخله ووفائه المنقطع النظير لرفاقه الشيوعيين،ورعايته لأسرهم ،وألف تحية للأخلاق الشيوعية الأصيلة والوفاء الشيوعي ،لمن تربوا في ألأحضان الشيوعية الطاهرة البعيدة عن الأدناس والأرجاس،وهنيئا للشيوعيين العراقيين بهذا الخلق والتربية الأصيلة،التي استلهموها من المثل العليا التي عليها بناة الشيوعية في العراق.
العودة الى الصفحة الرئيسية
في بنت الرافدينفي الويب