|
صراع المدينة والريف هو صراع الايديولوجيات المختلفة ما بين بيئتين تختلفان في التعامل مع الفرد من حيث هو كائن بشري يريد ان يكون له خصوصية داخل مجتمعه الذي يعيش فيه الاولى المدينة تمثل امتزاج الاشياء فيما بينها بحيث لا يمكن تمييز أي واحد منها عن الاخر مما يجعل الافراد يعيشون غير الشخصية الحقيقية الداخلية، بل ان هناك عدة شخصيات داخل النفس الواحدة واحياناً يلبس الفرد اقنعة كي يتعامل مع هذا المجتمع المتعدد الرؤى والاطاريح ولعل رأي اغلب الادباء والفنانين في المدينة كونها تمثل الحالة السلبية التي يجب الهروب منها الى بيئة صحية تعطي القدرات الذهنية وتنشط العواطف هو الذي دفع هؤلاء الى الهجرة للريف من اجل ايجاد الفردوس المفقود في نظرهم وهذا حال اغلب الفنانين الكبار امثال فان كوخ وجان سارتر وغيرهم من المدرسة الانطباعية او ما بعد الانطباعية الذين وجدوا في الريف المتنفس الذي يساعدهم على فهم الحياة بصورة اكثر جدية ومحاكاة الطبيعة على حقيقتها ودون تزيف ولا تكاد تخلو لوحات هؤلاء من صورة الحياة في الريف وفق اطر يرونها هي الانسب في تلك المرحلة من الحياة وهذا الحال ينطبق على الادباء سواء كانوا شعراءاً او كتاباً هم ايضاً وجدوا في المدينة والريف صراع الخير والشر والبساطة والتعقيد والجو الصحي والملوث وغيرها من مفاهيم يمكن ان نجدها في كلا البيئتين ولعل الشاعر العراقي بدر شاكر السياب جسد هذا الموقف بصورة جلية في شعره ونظرته للمدينة ولعل قصيدته (انشودة المطر) هي خير مثال على هذا الصفاء الذي تمثله طبيعة الريف والحياة عبر غابات النخيل والنهر والمطر الذي يغسل الوجوه والاشجار وكل شيء ويعيده الى طبيعته الحقيقية عكس المدينة فهي لا تغيرها طبيعة الاشياء بل تحاول ان تختبئ خلفها بصورة مبهمة لا يمكن فهمها لان الوجوه متعددة بحيث لا يمكن تميزها ولعل هذا الصراع وتشابك الاشياء الموجودة في المذهب السريالي فرصة للظهور على الساحة بعد الانطباعية التي تسيدت الساحة الفنية فترة طويلة على يد سلفادور دالي وغيرهم من الاسبان لانها كانت فترة تحتاج الى الاختباء خلف الوجوه خوفاً من المطاردة العسكرية للجنرال فرانكو فكانت لوحة (الغورنيكا) للفنان الاسباني بيكاسو التي جسدت مرحلة الحرب الاهلية وبشاعتها والتوق للحرية. والدراما احدى أدوات التعبير الفني التي وجدت ضالتها في الريف وبساطة مادتها لطرح افكارها دون تقيد واحتراز مما جعل لها جمهور كبير من المتلقين الذين نفروا من مشاكل المدينة والصراع المتكرر وتشابه بعض التفاصيل ليجدوا في عالم الريف اسلوب الحياة البسيطة التي تناغم نوازعهم الداخلية ولعله الحنين الى الجذور الاولى حيث ان اغلب سكان العالم العربي من اصول ريفية وهذه الاصول تظهر على شكل موجات التعامل مع الاحداث بصورة غير إرادية ويزيد من حماسة المتلقي القدرة الفنية في توصيل الفكرة الى الذهن وتقريبها هو انسجام الباعث (الممثل) مع الحدث الدرامي بحيث يشكل كتلة واحدة لا يمكن فصلها عن بعضها البعض وهذا ينطلق على المسلسل العراقي (بيت الطين) الذي وجد فيه جمهورنا العودة الى الريف هي الفرصة المناسبة من اجل ترك نزاعات المدينة وتلوث هوائها والارتماء في احضان الريف ذي البيئة النظيفة وتجديد حيوية الإنسان بعيداً عن ضوضاء المدينة وحركتها التي لا تتوقف وتفجير النوازع الداخلية في التعامل مع الاحداث ولعل اللهجة والتقاليد العريقة والعفوية وجدت طريقها الى المتلقي فتفاعل معها وهذا الانصهار ناجم عن الجذور الفلاحية لدن اغلب العراقيين والحنين الى الريف ولو عبر عيش حالات من النشوة الذاتية بعيداً عن جو المدينة وتذكر تلك الجذور التي لا يمكن ان تقطع مهما امتد الزمن ويظهر هذا جلياً من خلال انسجام الكبار حتى الاطفال مع اللهجة الريفية والمواويل الجنوبية و(الهوسات) التي عادت من جديد لتشمل المدينة ايضاً وهذا يعني الريف غزا المدينة في عقر دارها ورسم بصماته عليها شاء ام ابى. ان الانقلاب العكس من المدينة الى الريف جاء نتيجة ضغوطات التقدم المدني الذي احياناً ترفضه النفس البشرية بحجة العودة الى الاصول الأولى والانغماس في اجواء الطبيعة والعيش بالعفوية الإنسانية التي يسعى اليها الفرد مهما كانت اصوله لان الإنسان موجود في الريف الحضن الحنون الذي كلما زادت الازمات وتعددت المشاكل ارتمى فيه كي ينسى بعض همومه ولو مؤقتاً ويمكن ملاحظة هذا الصراع جلياً في المسلسل من خلال شخصيات (هديرس) او (مزهر) وهو الذي يمثل جانب السلبي ومصدر الشر المقبل من المدينة وايضاً عملية الهروب التي قام بها المعلم الاستاذ (سهيل) من والده كانت وجهتها الريف لانه الملاذ الارحب والاوسع للتنفيس عن المشاكل وحلها بعيداً عن اجواء المدينة. اما الصراع الريفي يبقى ذا دلالة ايجابية مهما اختلفت الرؤى لان الفرد تمتلكه نوازع الغيرة المنطقية من خلال عملية خروج جميع افراد القرية لمواجهة النيران التي التهمت مخازن طعام الشيخ (عجاج) وكذلك حالة الاستقرار التي ابداها الجميع في القبض على المجرم الهارب (سعيد) واحضاره مقيداً رغم خطورة الموقف ورغم المشاكل الثانوية التي تربط هؤلاء ولكنهم في لحظة ما يتحولون الى كتلة واحدة متناسين المشاكل الفردية جانباً لانهم يفكرون بالعقل الجمعي لافراد القرية.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |