|
د. حامد العطية من المتوقع اكتمال تشييد سفارة أمريكا في بغداد هذا الشهر، أي حزيران 2008م، خبر قصير لم يتوقف عنده الكثيرون، منهم المتعاونون مع الاحتلال والسائرون في ركابه، ولأسباب معروفة، فهم لا يريدون صرف انتباه العراقيين إلى هذا الخبر، لأنه برهان ساطع آخر على أن الأمريكان قدموا للعراق لاحتلاله، وبأنهم باقون فيه لضمان تحقيق مصالحهم الاستراتيجية والسياسية والعسكرية والاستخباراتية والاقتصادية، وإلا فلم يشيدون هنا أكبر سفارة لهم في العالم برمته؟ من المتعارف عليه بين المختصين بالعلوم السياسية والعلاقات الدولية بأن مستوى التمثيل الدبلوماسي بين الدول مرتبط طردياً بطبيعة وحجم العلاقات بينهما، ومعنى ذلك أن التمثيل الدبلوماسي بين الدول الحليفة والصديقة يكون على مستوى أعلى وبعدد أكبر من الأقسام المتخصصة والموظفين الدبلوماسيين بصورة عامة، وعندما يكون العداء سافراً والعلاقات متوترة بين دولتين فمن المحتمل تدهور وضمور العلاقات بينهما، إلى حد القطيعة أحياناً، كما هو الحال بين العراق وأمريكا قبل الاحتلال وسقوط النظام البعثي الدكتاتوري، وقد أفصحت المصادر الأمريكية عن المعلومات التالية حول سفارتهم المزمع افتتاحها قريباً: - تتكون السفارة من 27 مبنى أعدت لتوفر مقرات لبعثتها الدبلوماسية ومساكن لموظفيها وثكنات لقوات الحراسة الخاصة بها ومواقع لمنشآتها الحيوية. - تبلغ مساحة السفارة 42 هكتاراً، أي ما يقارب مساحة دويلة الفاتيكان، أو ستة أضعاف مساحة مجمع الأمم المتحدة في نيويورك، وقد قامت الحكومة العراقية بنقل ملكية الأرض للحكومة الأمريكية. - يتضمن مجمع السفارة مباني ذات طابع أمني تحيطها الحكومة الأمريكية بالسرية التامة لذا فقد منعت حتى شبكات الإعلام الرسمية من زيارة وتصوير الموقع، وبينما نفذت شركة مقاولات كويتية معظم المباني فقد عهد بالمباني السرية لمقاولين خاصين. - من المتوقع أن يكون عدد أفراد السفارة 5500 موظف، ولا توجد سفارة أمريكية أخرى تضاهيها من حيث العدد. - ستكون للسفارة قوة حماية مكونة من الآلاف من جنود البحرية الأمريكان وعناصرالشركات الأمنية الخاصة مثل بلاكووتر المتهمة بقتل مدنيين عراقيين. - سيكون المجمع مكتفياً ذاتياً من حيث الطاقة الكهربائية والمياه والمجاري، وغير مرتبط بشبكات الخدمات العامة للعراق والعاصمة بغداد. - بلغت تكلفة تشييد المجمع 736 مليون دولار. - من المتوقع أن تبلغ كلفة تشغيل السفارة مليار دولار سنوياً. فما الذي توحي به الضخامة الاستثنائية لسفارة أمريكا في العراق؟ لا بد من تحليل هذا الموضوع علمياً لكي نتعرف على خفاياه، ولو سألنا معماري مختص بتصميم مباني مكاتب الإدارات الحكومية أو الشركات الخاصة عن متطلبات تصميم المبنى لأجابنا بأنه وقبل البدء بالتصميم لا بد من التعرف على استعمالات المبنى المتوقعة وللمدى الزمني الطويل، إذ ليس من المنطقي تصميم المبنى على أساس الاحتياجات الآنية أو الطارئة، ويلجأ المعماري المكلف بالمهمة إلى مالكي المشروع أو كبار المسئولين عنه لجمع المعلومات والمؤشرات التي يحتاجها لإعداد التصميم، ومن أهمها عدد الوحدات الإدارية وأنشطتها والعاملين فيها وكذلك طبيعة الأنشطة التي سيمارسونها، والتي يراد للمبنى الاتساع لها، وإذا لم تكن هذه المعلومات جاهزة لدى إدارة المشروع فسيضطر المعماري لاستخلاصها بنفسه من الوثائق الرسمية، ولا يمكن تحديد هذه المعلومات بالدقة المطلوبة إذا لم تكن لمالكي أو مديري المشروع رؤية واضحة وأهداف محددة واستراتيجية معتمدة للمدى الزمني الطويل (عشر سنوات على الأقل)، لذا فالترتيب الزمني للخطوات المسبقة لإعداد التصميم مهم، وهي كما يلي: - وضع رؤية واضحة. - صياغة الأهداف وإعداد خطة استراتيجية. - تحديد الهيكل والتنظيم الإداري. - تصميم المبنى. وتنبع معرفتي بهذه الخطوات من عملي في الإستشارات الإدارية، وبالتحديد في مجالي الاستراتيجيات والتنظيم الإداري، ومن المباديء الأساسية التي تحكم عملية إعداد التنظيم الإداري قاعدة "أن التنظيم الإداري يتبع الاستراتيجية"، فلا يجوز البدء باقتراح الوحدات الإدارية للتنظيم قبل الانتهاء من وضع الاستراتيجية. يدعي الأمريكان بأن ضخامة سفارتهم أمر يحتمه التزامهم باستقرار ونمو العراق، وما يتطلبه تحقيق ذلك من وحدات متخصصة وخبراء في مختلف حقول التنمية، وهم بذلك يؤكدون بأن لديهم أهدافاً واستراتيجية جاهزة ينوون تطبيقها في العراق، فلن نصدق بعد اليوم ادعاءاتهم بأنهم يتشاورون مع الحكومة العراقية في كل الأمور المشتركة، كما يكذب اكتمال تشييد السفارة المنتشرة في 27 عمارة ما دأبت الحكومة العراقية على ترديده من أنها لا تزال تتفاوض مع الأمريكان بشأن بنود معاهدة تحدد أبعاد العلاقات الشاملة بين البلدين بما فيها الأمور العسكرية والأمنية، لأنه عندما بدأ العمل بتشييد السفارة كانت الحكومة الأمريكية قد حسمت أمرها واتخذت قراراتها بشأن مخططها حول العراق وما يتطلبه من حضور دبلوماسي وعسكري، ولا خيار للحكومة العراقية في قبول أو رفض المكونات الرئيسة لهذه الاستراتيجية، وكل الكلام عن مفاوضات تجري في الخفاء بين الحكومتين هراء وذر للرماد في عيون العراقيين المسهدة، والادعاء بأن الاتفاقية ستحفظ سيادة واستقلال العراق استخفاف بعقول العراقيين، وقد أخطأت هذه الحكومة والجماعات السياسية المنضوية فيها والمصطفة خلفها في افتراضها بأن العراقيين المنهكين بسبب الإرهاب، والمذعورين بسبب صولات القوات العراقية، والمحرومين من الخدمات، والمرهقين بالغلاء سيسكتون على تمرير هذه المعاهدة، التي تضفي شرعية زائفة على استمرار الاحتلال، وتنتقص من سيادة العراق، وتضع الربق الأمريكي المذل في أعناق العراقيين. مؤخراً كتبت جين لوفلر، المختصة بتصميم السفارات، في مجلة السياسة الخارجية، Foreign Policy بأن السفارة الأمريكية "أشبه بالقلاع الصليبية التي شيدها الغزاة الصليبيون للسيطرة على المنطقة"*، ولقد صدقت لوفلر، فهي بالفعل غزوة صليبية، فهل سيرضخ العراقيون للصليبيين الجدد؟
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |