|
لا يمكن استكشاف طبيعة الازمات، ووضع الحلول العملية التي نقدمها لمعالجتها.. وبالنتيجة لا نصل إلى هدف جلي ذي أبعاد موضوعية وعلمية إذا حاولنا الوقوف تجاه المظاهر الشكلية المجسمة دون أن نقفز إلى نقلة نوعية، لأن ذلك لن يمهد لنا الوقوف تجاه حقيقة الازمات.. وبالتالي لا يمكن أن يقفز بنا قفزةً واحدةً فاصلة نحو الحلول العقلانية الواقعية لتنير الدرب لنا نحو مستقبل قوي زاهر عظيم. ومن هنا نبدأ طالما تواجه الإنسان المعاصر أزمات خطيرة متشعبة معقدة في الطبيعة، وفي الحياة، وفي المجتمع.. وليس الاصل في كونه يعاني من هول هذه الازمات الشائكة الشاغلة المعقدة، فأن تجربة الحياة العامة ذات المعطيات الحركية الحيوية المتطورة الفاعلة ملازمة لأعمق الازمات والمضاعفات الخطيرة، بل الاصل في تحديد موقف الإنسان المسلم المعاصر من أزمات مسيرته الحياتية، وفي تحديد موقفه من الحلول الاولية المقترحة لها، وفيما يخلفه في موقفه منها، ومن حلولها.. من وحشة سيكولوجية، أوتأزم فاعلية ذات نتائج ومصائر مزعجة ووخيمة تشل طاقاته المكنونة، وقدرته المخزونة.. على الكدح في روافد الحياة المختلفة. ان انفتاح الإنسان المسلم المعاصر بلا حدود.. على حضارة أوروبا الاستكبارية في كل مرفق من مرافق نهضتها الاخيرة في العصر الحديث.. وهو يمر في مرحلة من أخطر المراحل المأساوية الطاغوتية في تاريخه الطويل، وكأن المنحنيات، والمفارقات، والانحرافات التي وقع الإنسان المسلم بها في المرحلة التاريخية السالفة( منذ أن رقدت في تراب الاضمحلال قرون طويلة ) قد تراكمت، وتلاحقت، ونمت، وتركزت لتلد نتاجها المتوحش، وتعطي نتيجتها السلبية المرة العاتية في غمرة هذه المرحلة الاخيرة من حركة تاريخ الإنسان التي انفتح فيها على عصر النهضة الأوروبية المعاصرة، وفيما أعقب هذه الانفتاحة من مزالق الاقتحام، ومفاجآت المجهول، وكانت أشواطها كلها كأنها خطوب مريرة موجعة يبتدئ بها السالك طريقه، ويتوسطه قبل أن يعلم انه ضلَ الطريق.. ثم يقف بين العناد والهروب، ويصر على الهروب، لانه لا يستطيع الصمود والتصدي، ولا يستطيع الاستسلام والخضوع، بل يبقى في حالة الهروب من نفسه الخاوية، وروحه الموحشة.. كالذي تطارده الجنَة والاشباح!!.. وعلى هذا الأساس.. كان الرضا والهروب النفسي في داخله، يمثل المظهر الحي لتلاشي الادارة في شخصيته.. وبالنتيجة يقف من مجالات الحياة، ومنعطفاتها الكبرى، ومفاجئاتها العظمى.. موقفاً معادياً متشنجاً، وبذلك لم يعتز هوذلك الإنسان الذي حمل مشعل الحضارة الانسانية زمناً طويلاً، يوجد قافلة الحياة بنجاحها وسقوطها، ويصوغ حركة التاريخ البطولية، ويتحكم بالاحداث.. كيف يشاء، ومتى يشاء؟.. ويرغب وفق الاسس والمباديء والتصورات الالهية، وانما بات انساناً متشائماً متقاعساً متداعياً لا يجاري الطبيعة في مرونتها وصعوبتها، وفي صعودها وهبوطها، بل ينظر إلى المواقف الايجابية الحيوية الفاعلة في الحياة الاجتماعية بلهاث في الارتباك والاضطراب، والحيرة القاتلة التي لا طمأنينة فيها، ولا سلام، وتخيل انه يحل ظروف أزماته المعقدة والمتشابكة بالهروب منها.. بدلاً من مواجهتها والتحدي والصمود أمامها.. لكي يعيش سعيداً طليقاً مرفهاً على اساس قاعدة فكرية متينة، تحفظ له سلامته، وتهييء له استقراره، وتسير به في طريق واضح مستقيم، يستجيب لمصالح قوى الشعب العاملة، وتنعش أوضاعها ضمن اطار برنامج استراتيجي طموح، ووفق تخطيط علمي عقلاني وموضوعي مدروس بدقة وشمولية. وبعكس ذلك يغدو مصيره حينما يعاكس سير الطبيعة، والحياة الجادة، ويتخاذل عن المباديء والأسس، ويصر على هذه المعاكسة، فتضيع عليه مسار الطريق المستقيم، ويضيق عليه رحب الكون.. فيهلك في نزعته التبريرية، أو يخرج منها ضائعاً تائهاً بائساً في خضم الحياة الفسيح. ومن هنا... إذا حاولنا تفسيراً جدلياً علمياً لهذا السقوط، والهبوط.. والتحلل، والانهيار.. والتأخر، والاضطراب.. لم نلاحظ تفسيراً خلا إنحسار مفهوم شريعة القرآن عن نفسية الجماعة المسلمة، وعدم معايشته من خلال الممارسة التطبيقية على الصعد الاجتماعية.. بسبب الغزو المغولي والتتاري من الشرق، والاوروبي من الشمال والغرب، وقبل ذلك السلطات الجاهلية الرجعية الطاغوتية التي أُلقيت مسؤولية كل الامة المسلمة بأيديهم، ومارست الدكتاتورية الفاشية، وافتعلت الفتن والحروب الطائفية والعرقية، وأغلقت الانفتاحية الاجتهادية الواجبة، واكتفت من عقائدية الشريعة بالشكليات والالقاب الفارغة، وأساءت استخدام التفسيرات الدينية بما يدعم مصالحهم السلطوية الطاغوتية.. بسبب الافكار المرجئية المأجورة، والتصوفية اللامسؤولة. وحينئذ تحولت شريعة القرآن العظيمة في ضمير الإنسان المسلم المعاصر إلى مسألة استاتيكية(سكونية)، وتمعن في أعماق النفس، وتفكر فيها، ولا تتصرف بناءاً على ذلك.. فمعنى ذلك أنه بدأ يقعد، ولا يحيا واقعه في مسار جديد، قد يتحول به إلى تغيير ثوري لمظاهره، وتجديد متحرك لمنطلقاته، بل لا يفكر في أمر المستقبل، ولا يدبر له، وأن يعيش يوماً بيوم، ولحظة بلحظة، ولا يصل ماضي حياته بحاضره وقابله، وأخطر من ذلك أن يقعد.. ويقعد ينتظر الحدث الذي لا بد أن يحدث في قدرية غريبة ؛ لأنه لا يريد أن يتعب نفسه، ولا يحملها مسؤولية العمل الحركي ومشاقه، ويغدو غيره هوا لعنصر الفاعل، يأخذ زمام المبادرة الحركية الدائبة من أجل تطوير الحياة وترقيتها، بدل أن يكون هو القوة المحركة يدفع التاريخ إلى أمام، ويمده بالثقة والقوة والطمأنينة والعزيمة، ويمنحه شباباً متجدداً متطوراً حركياً فاعلاً في تغيير العالم كله، وبخاصة البلدان النامية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. واذا انعزل الإنسان المسلم المعاصر(بسبب هذه الاوضاع الطاغوتية، والاعتبارات الشائنة الفاسدة المرعبة الفريدة في بابها) عن أن يتفاعل مع شريعة القرآن.. انعزلت هذه الشريعة الخاتمة عن ان تمارس دورها الطليعي في مسيرة حياته الاجتماعية. وقد انعكست هذه الفجوة العميقة بين الإنسان المسلم، وبين الشريعة الخاتمة على واقعية الحياة العامة في صورة تأخر اجتماعي وسياسي مخيف. فالموقف المضاد من الحياة، والهروب من تحدياتها، والغياب الفعلي عن مسرح الاحداث الكبرى.. قعدت بهذا الإنسان عن ان يفجر طاقاته، ويعبر عن قدراته، ويطور حياته العامة على اساس البنى الفوقية المتحركة في جميع صورها المادية والمعنوية.. فجمد عن النموفي المجالات الحضارية المختلفة حين حجبت شريعة القرآن عن صناعة الحياة الاجتماعية الرسالية التكاملية عبر قنواتها المتنوعة. تلك هي العلة والازمة المستعصية الشاذة الخطيرة الاولى، التي سببت له العزلة والاندثار، ووقع كله في دائرة التخلف والانحطاط، والعجز من مواجهة التحديات الحضارية. هذه هي الظروف السايكولوجية(النفسية) والحياتية، التي انفتح بها الإنسان المسلم على عصر النهضة الاوروبية المعاصرة.. نهضة مدنية سالبة رجعية اجرامية كافرة استكبارية.. ذات رغبة عارمة في الاستلاب والاغتصاب، وفي أوج هيمنتها واندفاعها إلى الدرج الصاعد، وانسان في أبعد حالات انحطاطه وتداعيه المادي والمعنوي. وقد أيقظه اتصاله غير المنتظر بعصر النهضة العقلانية، وتقدم العلم، والحركة التصنيعية الحديثة الخلابة على معاناته المفعمة بالمخاطرات التي كان يتغاضى عنها، ويهرب منها، وكون له معاناة إضافية تؤدي إلى أمراض نفسية، وأزمات حياتية تستعصي وتنتشر على مدى الايام، لابد من وضع الحلول لمعضلاتها.. من هنا.. نشأت أزماته ومعاناته وسط ظروف متناهية في صعوباتها وأخطارها. ومن هنا.. لقد فرضت النهضة الحديثة المهيمنة على الإنسان المسلم حلولها لأزماته وإمكاناته على أن يتعبد بهذه الحلول، وان يحققها عملياً، وان يستجيب معها لوجهة النظر التي صنعتها في خضوع واستسلام للأمر الواقع. ولسنا في ضرورة ملحة إلى تحقيق المسألة على هذه النهضة الجديدة التي لم تستوح في حلولها مصلحة الإنسان الستراتيجية، وانما استوحت مصلحتها وطموحها على المستوى العلمي البرغماتي في تفوق هذا الرجل، وذلك المجتمع.. ومن مصلحتها وطموحها ان تحبط في هذا الإنسان المسلم الحياة الاسلامية الطليقة الكريمة بما فيها من يسر ومرونة، وتكامل، وسعة.. وجمال، ونظام.. وانفتاحة روحية حضارية منشودة.. ومن مصلحتها وطموحها أن تجعله من وجهة نظر شيوعية إلى عنصر مسير ينتج منها ما لا يرغب، ويأخذ منها ما لا يشتهي.. أومن وجهة نظر رأسمالية إلى عنصر غير مسير ينتج منها متى يرغب، ويقبل منها متى يشاء. وقد استجاب الإنسان المسلم المعاصر لكل طرح من الكذب، والغش، والتجسس، والخيانة، والتهرب، والجبن، والجزع، والاستلاب، والجشع، والاثرة.. بخضوع وذلة يصلان حد الاستسلام الكامل لهذه القوى الطاغية الغازية، وهولا يعرف ما يكون، ولا يدري ما يخبأ له من وراء الابواب المغلقة. اذن.. ماذا يصنع إنسان وأزمة الواقع الداخلي لشخصيته، التي انبثقت من خلال الاطار الشخصي، الذي اكتسبه من نشأته تحت مظلة هذه النهضة الجديدة وظروفها.. الامر الذي جعل واقعه الداخلي متكالباً على الموقف المصلحي، والتبرير البرغماتي، وجعل واقعه الخارجي مبنياً على الرجوع والسكون.. أوالتفكك، والانهيار. بيد انه اسلامي يدين بالشريعة القرآنية.. والشريعة التي تعاكس الشيء القليل أوالكثير من الوضعية النسبية المحدودة السطحية الحائرة القلقة التي فرضت فرضاً، والتي تعاكس أبداً وجهة النظر التي صنعت هذه الحلول.. الا ان الشريعة القرآنية التي يدين بها هذا الإنسان شريعة ذائبة في منحدر سحيق، كما يذوب الثلج في قيظ الشمس المحرقة بسرعة وقوة مذهلة.. ومن هنا.. فهولا يدرك طاقة شريعته التكاملية.. على أن تحل المعضلات المعقدة، والرواسب المتخلفة، التي توجب المتاعب والمصاعب البتة، ولا يدرك طاقة شريعته الشمولية على أن ترفد الحياة البشرية كلها بالحركة والديمومة والنمووالرفعة، وان تدفعها بعد جمود، وتأخر.. وتشحنها بعد خمود، وتدهور.. وسبب ذلك واضح كل الوضوح: ان شريعة القرآن لا تزال في وجدان المسلم المعاصر.. شريعة مرجئية، أوباطنية ميثولوجية(خرافية)، أوتصوفية انعزالية.. فان قوى الثورة الجاهلية المضادة، ومن ورائها قوى الاستكبار والكفر العالمي.. لم تصحح الاطروحة الخاطئة عن الشريعة، وانما زادتها تضليلاً، وجحوداً، وانكاراً.. بشتى الاساليب الجهنمية الخبيثة.. لشعورها ان الشريعة خصمها العنيد، وان في الشريعة العادلة احتضارها وطردها عن كل بقعة من بقاع الارض الاسلامية، وعن هذه التجمعات من فصائل المجتمع الرسالي الحضاري. ان الإنسان المسلم يدين بالقيم والتصورات والتعاليم الكبرى.. وحده لا يكفي للوصول اليها، وانما لابد أن تصنع الحياة البشرية في اطار المبادئ والاسس، والحسابات الكفيلة بأن تخلق من القيم والتصورات والتعاليم واقعاً في كل الشرائح الاجتماعية. ان المبادئ والاسس هي همزة الوصل بين الإنسان، وهذه القيم، والتصورات، والتعاليم.. والانسان المسلم فاقد لخصوصية الانتماء الايماني والاخلاقي العملي بهذه الاسس والمبادئ، لانه لا يحسها بداهةً، ولا يكتشف منطلقها الانقلابي، ولا يدرك طاقتها الفاعلة على أن تدفعه صوب حياة حرة رسالية كريمة طليقة من قيود الاستغلال والقهر والتخلف في صورها المادية والمعنوية، بل هوأشبه بالغيوم الكثيفة حول شمس العقيدة والايمان يميت شعاعها، ويرد نهارها ظلاماً دامساً طويلاً. حري بنا أن نؤكد على أمر في غاية الخطورة.. وهو: ان عدم محاولة تحقيق الشريعة الاسلامية عملياً.. قبل أن تتحكم قوى الاستكبار والكفر العالمي المضاد في مساحات شاسعة من الوطن الاسلامي الكبير.. كانت ناشئة عن السذاجة، أوعن النسيان.. وعن انعدام وعي الشريعة الاسلامية وتكاملها على الصعيد العام. الا اننا نرى اليوم بأم أعيننا ان قوى الثورة الجاهلية المضادة تبذل قصارى ثقلها الستراتيجي في سبيل تكهرب الاجواء العريضة في شجب الشريعة الاسلامية من لدن الجماهير المسلمة الساحقة.. نتيجة التحرك الصليبي الاستكباري المقصود.. على ضوء هذا.. باتت الجماهير المسلمة الساحقة في قلب الازمة.. لأن حياتها تحت مظلة هذا الواقع.. عادت الازمة في ذاتها.. فهي ممزقة بين واقع لا تدين به، وبين قيم وتصورات وتعاليم ومبادئ تعشقها وتدين بها.. كحقيقة وجدانية روحية لا يمكن بأي حال من الاحوال تتجرد عنها، أوتتجاوزها إلى غيرها من القوانين الوضيعة أياً كان مذهبها، بيد أنها لا تمتلك أداة تطبيقها في مؤسساتها الاجتماعية. بسبب غياب فصائل القوى الاسلامية العاملة.. وبسبب انتهاء مسألة الحياة الاسلامية الكريمة إلى هذه الصور الباهتة حتى في حس أشد المتحمسين لهذا الدين.. وبسبب الواقع الجاهلي الطاغوتي، وتمسكه بسيادته، وحرصه على مصالحه، واستغلال سلطته.. يشجب الصليبيون الجدد هذه القيم والتصورات والتعاليم ويعارضها، ويخطط على إجهاضها بشماس أطول ووقت مستطاع.. وحتى حين تريد هذه القيم والتصورات والتعاليم والموازين أن تعيش في عزلة عن الواقع الجاهلي الطاغوتي مستسلمة لفتح الله وقضائه.. فأن الواقع الجاهلي الطاغوتي لا يقبل منها هذا الموقف، بل ينازلها ويتابعها ويطاردها.. وهذا هوا لابتلاء والامتحان العسير. والعامل الستراتيجي هوا لموقف النفساني المتشنج، الذي يجعل الإنسان على قلبه وحشة، وفي فكره قلق وحيرة، وازدواج شخصية، وويلات وخطوب.. ينقلب بكل منعطفه وقوته على واقعية المؤسسات الاسلامية. ونلاحظ بالتجربة العملية مسلم اليوم.. بسبب قيمه وتصوراته وتعاليمه وموازينه يجاهد الطروحات الفكرية الغريبة الوافدة من الشرق أوالغرب التي تحاول فرضها بأي شكل من الاشكال.. بيد انه بسبب عدم إنتمائه العقائدي العملي الصلد لشريعة القرآن الكونية الاخيرة.. وبسبب تخليه عن أداء دوره الفاعل في العالم، وتراجعه صوب المواقع الدفاعية في الخطوط الخلفية.. لا يستطيع انشاء طموحات واطروحات فكرية قادرة على طرحها للتطبيق العملي على الساحة الاسلامية على شكل برنامج وأطر أممية متشابهة في التنسيق والتوجيه، تحاول التصدي للزوبعة الصليبية الاستكبارية الشرسة. ومن خلال هذا المنظار.. نكتشف حقيقة واقعة: ان الإنسان المسلم يبدأ الشعور بـ((الازمة)) تحت مظلة الواقع الذي لا تمده أسس روحية مبدئية، بيد ان اتصاله بهذا الواقع يكثر من رؤية شاخصة على منظر لا يعجبه.. منظر التمزق الكبير، وتضخم الاضطراب، وتصاعد العنف، وشيوع الاجرام، وانحدار الاخلاق.. بلا انقطاع خارج سياج حلقة وطنه(وهي مع ذلك راقية في مجتمعها، متحضرة في حياتها، يجد الفرد فيها من الرعاية والحماية ما يناسب قيمة الإنسان، ويجدها غنية قوية.. وهي مشاقة لله سبحانه، ولا تقيم شريعته) وهذه الرؤية تنقلب بلا ريب في أعماق ذاته في شكل وعي ديماغوجي لسبب التداعي والانحطاط في الوطن الاسلامي، يرجعه لهذه القيم والتصورات، والتعاليم، والمبادئ التي تتشبث، أوتنقلب هذه الرؤية إلى فتنة أشد وأقسى في أعماق ذاته في شكل ارتباك مستمر، وحيرة وتردد قاتل في صحة تشبثه بهذه القيم، والتصورات، والتعاليم، والمبادئ. أما علة هذا الوعي الديماغوجي، وهذا الارتباك والتردد.. فهوالافيون الايديولوجي المتصاعد، الذي ما فتيء يغمر الإنسان المسلم في أعماق نفسيته ومشاعره منذ ان احتل الاستكبار الصليبي، والطاغوت الصهيوني الوطن الاسلامي الاعز، وأوحى اليه قبل كل شيء بالدس والتشكيك، ونشر الشبهات، وتدبير المناورات.. يعمد أولاً إلى عقيدته الايمانية، التي انبثق كيانه منها، ومنها قام وجوده، فيعمل فيها معاول الهدم والتوهين، وذلك انه يدرك ان هذا الإنسان المسلم لا يؤتى الا من هذا المدخل، بأن شريعة الإسلام الكونية هي سبب جهالته وتأخره وتداعيه حاضراً ومستقبلاً.. كنوع من التغطية والتعويض والاسقاط التي يحدثنا عنها علم النفس، وهويحلل التجارب البشرية المريضة الشاذة لا الصحيحة المستقيمة. وهنا بيت القصيد يحجبه عن إدراك العلة الستراتيجية لتخلفه وجهالته وتداعيه، وهوفقدانه لأصالة هوية الانتماء العملي الحقيقي الواقعي بشريعة القرآن الازلية، والقادرة على انقاذه من محنته التي هوفيها.. وهنا ينحرف بعض من أصابته الوحشة النفسية القاتمة، واجهاضه إلى أبعد حد من الظاهرة البديهية، وهنا كذلك يحيا الالام والويلات والحيرة والقلق والاحساس بالعبث والملل واللا جدوى في شكل آخر. وهنا تظل الجماهير المسلمة الساحقة معرضة دائماً للاحتواء، والتحجيم، والاختراق.. حتى لا تتجاوز حدودها على مجابهة الصعاب والاخطار.. وحتى لا تدعوإلى السعي الجاد السريع لتدارك ما جرى عليها من مساويء وشرور، ومن معاول الهدم والتوهين. ومن هنا تظهر صعوبة فهم هذه الشريعة القرآنية من لدن هذه الجماهير الساحقة في محتوى نظري.. مما فيها من تجسيد عملي في جميع مراحل تنازلها عنها. ولكن.. من حقنا أن نسأل: من أين نفهم تحديد هذه الازمات والمعضلات التي تواجه الامة؟!. نقول والحق يقال: وضع الحلول العقلانية، والموضوعية، والعلمية، واستخلاص نتائجها، والحل الصحيح الملائم لها بضوء ظروف المجتمع، وتلبية حاجاته ومتطلباته، فكان في تصحيح موقفه من أزماته، ومن حلولها المفروضة عليه.. وتنبيهه بدقة ثورية رسالية مستعلية انه: لم يكن تائهاً أبداً، بل هوإنسان له حلولاً هامةً وحيوية صائبة وملحة لأزماته، لا تتعارض مع قيمه، وتصوراته، وتعاليمه، ومبادئه.. بل أعظم من هذا كله انها تلتحم التحاماً عضوياً حركياً مع هذه العناصر بطريقة علمية جدلية.. وتنبيهه بدقة ثورية رسالية مستعلية كذلك ان حياته.. حياة عظيمة، لانها منوطة بوظيفة ضخمة ذات علاقة عضوية حركية جدلية.. بهذا الوجود العظيم، وذات أثر في حياة هذا الوجود العظيم، وهي أعز وأنفس من أن يقضيها في عبث، وتيه، وهروب، وتشاؤم، ولهو، ولعب.. وكثير من اهتمامات المجتمعات في أصقاع الارض.. يبدوعبثاً، وتيهاً، وهروباً، وتشاؤماً ولهواً.. حين يقاس إلى اهتمامات الإنسان المسلم الناشئة من تصوره لتلك الوظيفة الضخمة المرتبطة بحقيقة هذا الوجود. طبيعي.. فالانسان هنا لا يملك أن يكون تائهاً تتلاقفه الواجهات السياسية، والاحزاب اللاإسلامية، بل هوفي واقع الحقيقة كإنسان يدرك ويعي بحق، من أين يلملم شتات نفسه، ويستجمع أعصابه، ولا يرتبط بهذا الواقع لينصهر فيه، أويستسلم اليه، بل يحاول أن ينفصل عنه، ويحرر ذاته من مؤثراته، ليستطيع الحكم عليه أوله، ومن الطبيعي حينئذ أن يقرر مستقبله المحتوم لمواجهة الرحلة العسيرة، وملاقاة الاهوال والاعباء الصعاب، والتصدي لها بالجهد المستديم، والمراس العسير، ويروض نفسه على التجرد من هذه الازمة الشاذة الخطيرة.. الخطيرة بفعل العوامل الطاغوتية المعقدة المتشابكة في كيان ذاته، وفي الوجود من حوله العوالم والاشياء التي يتعامل معها.. ثم ها هي قائمة على الطريق بأشكال جديدة، وبمسميات جديدة، وتزداد كل يوم دقة ومشقة. اذن.. حري به ان يكافح بشجاعة فائقة من أجل تقرير هذا المصير، ويربط هذا المصير المرتقب بأوتاد تشده إلى العروة التي لا تنفصم، والى القلب الندى بالايمان المتصل بالرحمن.. فلا يتشائم، ولا يقنط، ولا يهلع، ويحسب انه هلك، أوأنه لم يعد يصلح لشيء عظيم أبداً، ولا يتيه مهما أحاطت به الشدائد، ومهما أدلهمت حوله الخطوب، ومهما غام الجووتلبد، وغاب وجه الامل في ظلال الحاضر.. فان سنة الله ماضية لا تتبدل، ولا تنحرف عن طريقها الواحد المستقيم، وكما ان الفلاح للمؤمنين الصادقين طرف من الناموس الكبير. ومن هنا... إذا اكتسب المسلم هذه القوة، والمنعة، والوعي.. أصلح موقف مسيرته من معضلاته التي يعانيها، وأتى نظره صافياً مصوباً إلى الواقع، كاشفاً عن عنوانه الخاص، وطريقه الخاص، وسبيله الذي يفترق تماماً عن سبيل قوى الثورة الجاهلية المضادة، ولا يبلغ أعداؤه منه شيئاً، وهو ممسك بعروة الايمان، سائر على نهجه، مرتكن إلى ركنه، حامل رايته، ممثل لحزبه، منتسب اليه، معتز بهذا النسب وحده.. وطريق انتزاع هذه المسؤولية التاريخية، اظهار حقيقة الشريعة الاسلامية الثاقبة وأبعادها الرسالية العظيمة التي بقيت زمناً ليس بالقصير غفلة الإنسان المسلم بها، وعزوفه عنها، وعدم كشف مدى ما تملك هذه الشريعة من قدرة حركية رسالية على حل الازمات والمعضلات الحياتية الكبرى.. وبالتالي لا يعد المسلم إنساناً تائهاً يحس بالوحدة والوحشة، ويتحسس القنوط واليأس.. وانما يثير من لدنه بعد ذلك الادراك بوجود شخصيته الاسلامية المستقلة، وبالصلة التي تربطه مع مواكبة الحياة الحرة الكريمة، وبالبواعث التي تدفعه صوب المشاركة الفعلية في صنعها على مسار هذا الدين في منهجه التربوي، وقانونه التشريعي، ومفاهيمه عن الكون، والحياة، والمجتمع، والتأريخ.. ويتيسر من لدنه بعد ذلك الغضب، والغيرة، والانتفاض الحركي التأريخي الصارخ على كسر حلقة الباطل الذي ساقه إلى هذا المنحدر السحيق، والذي يخيل له في بعض الاحيان ان سنة الحياة تعاكس هذا الحق الذي طرحه الله سبحانه، وذلك في المراحل التي يظهر فيها الباطل منتفشاً كأنه غالب، ويظهر فيها الحق كأنه مغلوب!.. وان هي الا مرحلة زمنية عارضة، يمده الله فيها ما يشاء للفتنة والامتحان، ثم تجري السنة التاريخية الازلية التي نهض عليها وجود السماوات والارضين، ونهضت عليها المباديء والمذاهب والرسالات على حد سواء. ولا نقصد بذلك ان يعرف منجزات الامة وغضبها البطولي في فجر الإسلام خالية من عواملها، فأن ذلك لا يرجع عليه من دون الصدى الواسع الذي يحمله على الغفوة، وانما نقصد بهذا ان يعرف بعمق هذه المنعطفات والنجزات الرسالية التأريخية الخالدة المتوازنة الحيوية السعيدة.. يعرف بعمق ان شريعة القرآن الشاملة الكاملة المفضلة الجوانب المحتوية على كل الاجوبة والمسائل والحلول والآمال لقضية الحياة الكبرى في هذه الارض الطيبة الطاهرة التي صيغت للامة في صدر الإسلام وجوداً فذاً وحياة حرة كريمة على طول التأريخ لا تزال متمكنة بكل قوة وتصميم وإرادة على أن تصوغ للانسان المسلم المعاصر.. هذا الوجود النموذجي، والاشعاع الثوري، والانعطاف التاريخي الاوحد، بحس رسالي جديد، واسلوب انقلابي جديد.. يجب أن يحياها ممارسة فعلية في واقعه المعيش، ولا يفكر فيها كقيمة نظرية، وترف عقلي، واحساس داخلي مجرد.. فقد نشأت الام الإنسان ومآسيه وهمومه حين بات ينظر في شريعة القرآن تراثاً فكرياً من غير أن يعايشا داخل نفسه، وفي واقع مسيرته بين النظرية والتطبيق، وبين الاصالة والتجديد، وبين الماضي والمستقبل، وبين الارض والسماء..
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |