|
تتناول الحلقة: تنقلنا من والى كارلسهامن. معاناة زوجتي من بعض الأمراض. عدم القدرة في أستيعاب الحياة الجديدة في أوربا أدت الى تشتت بعض العوائل وضياع أبناؤها. كارلسهامن مدينة صغيرة ومجالات العمل في مؤسساتها الحكومية وشبه الحكومية محدودة جداً، كذلك أي نشاط تجاري بسيط غير مدروس معرض للفشل. لذلك فكرت بالأنتقال من المدينة لأحدى المدن الكبيرة فربما هناك أُوفق بالحصول على عمل أو أنجح بالمغامرة في عمل تجاري بسيط، وبهذا الأنتقال سنفك العزلة التي عشناها لسبعة سنوات في المدينة ونحن بعيدين عن جميع معارفنا وعن كل النشاطات الثقافية والترفيهية لتجمعاتنا. أعتقدت خاطئا ان إنتقالي الى مدينة كبيرة مثل يتبوري سيوفر لنا إمكانية الحصول على عمل وسنكون بقرب الكثير من الاصدقاء. في الحقيقة كان هذا التفكير هروب للأمام من واقع الغربة المرير الذي نعيشه وزادت من قسوته أننا نعيش في مدينة صغيرة جداً. خلال سنوات إقامتي في كارلسهامن، ويوما بعد يوم أزددت وزوجتي قناعة بالأنتقال من كارلسهامن لأن ذلك سيوفر لنا ظروفاً أفضل للعمل وسنعيش بين معارفنا وأصدقائنا. بعد أن أختمرت فكرة الأنتقال في أذهاننا، سافرت الى يتبوري (Göteborg) باحثاً عن سكن، وبمساعدة بعض الأصدقاء الطيبين أفلحت في الحصول على سكن في منطقة بريشون (Bergsjön). وبريشون تقع شمال شرقي يتبوري ويسكنها بحدود 15 الف نسمة، وتبعد حوالي 8 كلم عن مركز مدينة يتبوري، وتعتبر من أعلى مناطق يتبوري ولهذا سميت شوارعها وساحتها بأسماء كونية، وذات طبيعة جميلة وهواء نظيف، وسميت بهذا الأسم نسبة الى بحيرة بريشون (sjön Bergsjön). أما مدينة يتبوري فتعتبر ثاني أكبر مدينة في السويد ويزيد عدد سكانها على النصف مليون ومساحتها تساوي 19816 هيكتار. يوم مغادرتنا لكارلسهامن متوجهين الى يتبوري شعرت بقلق كبير بسبب ما لآحظته من أنكسار ورفض في عيون نورس وسارة. فنورس أنهى الأبتدائية في كارلسهامن وسوف يباشر في الأول متوسط أي الصف السابع، وسارة عاشت سنوات حضانتها الاولى في روضاتها، لذلك كان أرتباطهما بمدينة طفولتهما قوياً لما فيه من ذكريات وصداقات طفولية بريئة. فما أن ودعنا أصدقائنا وأخذنا أماكننا في السيارة وأذا بدموع أبنتي سارة ذات الخمسة سنوات تنهمر لا أرادياً مصحوبة بنشيج وتوسلات بالعودة عن قرارنا، أما نورس فقد بان عليه الحزن والحيرة والتزم الصمت ولم ينطق بأي كلمة طوال الطريق الذي أستغرق أكثر من ثلاثة ساعات. كانت مدرسة نورس المتوسطة في يتبوري تبعد عن البيت خمسة دقائق، ومن اليوم الأول ظهر الضجر وعدم الأرتياح والتردد عليه، وكان يردد دائما رغبته بالعودة الى كارلسهامن. أما سارة ورغم صغر سنها فكانت محرضة ماهرة وناجحة لأثارة أشواق وحنين نورس الى كارلسهامن لأنها وكما أعتقد ترى أن نورس هو الوحيد القادر على الضغط علينا لتغيير موقفنا. وكان تحريضها له يدل عن ذكاء وبراءة طفولية وتعلق شديد بكارلسهامن، فكلما تعثرت بمشيتها إلتفتت الينا معاتبة ومبررة تعثرها: هل لاحظتم، هذا لم يحدث لي في كارلسهامن!. وفي أحد المرات وهي تأكل حبات العنب، إلتفتت الى أخيها تسأله: ألآ ترى أن عنب يتبوري ليس لذيذاً مثل عنب كارلسهامن؟ كانت تعليقاتها الذكية مضحكة ومحزنة في نفس الوقت وتدل عن تعلق وارتباط قوي بذكرياتها في كارلسهامن رغم صغر سنها، وأستمر هذا الحنين بالتصاعد وأنعكس في جميع تصرفاتهما بالرغم من محاولاتنا الحذرة والمتواصلة لتغيير مشاعرهما من العيش في يتبوري. كنت أسمع هذه التعليقات وأعتقدت أن علاقة ولدي بيتبوري ستتحسن بمرور الزمن حيث سيتعارف على أصدقاء جدد وستعجبه المدينة لسعتها وفيها من المراكز التجارية الكبيرة والشوارع الواسعة ومدينة الألعاب وتعدد النشاطات الثقافية والترفيهية، فهي مدينة لاتسعك الأسابيع للأطلاع على معالمها وضواحيها، بينما كارلسهامن بمساحة ضاحية من ضواحي يتبوري. لكن حالة نورس أخذت بالتدهور، فقد فشل أو بالأحرى عجز عن إيجاد أصدقاء له مناسبين بين زملائه في المدرسة. فمعظم زملائه من التلاميذ الأجانب، سريان، أتراك ويوغسلاف وغيرهم من قوميات، وكان يجد صعوبة في التعامل والحديث معهم بسبب اللغة البذيئة التي يتبادلونها ولم يسبق لنورس أن تداولها من قبل، حتى أنه كان يجهل معانيها. وتحدثت مع معلمته وأخبرتني بقلقها عليه لأنطوائه وصمته وعدم المشاركة مع زملائه في الحديث واللعب. كما وتحدث نورس مع معلمته شاكياً بأننا قررنا الأنتقال دون أن نستمع لرأيه، فهو لايحب تغيير مدينته السابقة، حيث عاش طفولته وكوّن صداقاته ويمكنه التجول في أنحاء المدينة دون أن يقلق عليه أحد، أما هنا لآ أصدقاء له ولاذكريات تربطه بالمدينة. لآ أعذر نفسي من هذا الخطأ في عدم الأستأناس برأي ولدي رغم صغر سنه. ومع الأيام أزداد نورس توتراً، وبانت الحركات العصبية والجزعة في تصرفاته، وكان لايتردد بظرب رأسه بالجدار كلما أغتاض. أحسست أن حالة نورس تزداد سوءً مع الأيام ولايمكنني السكوت أو الأنتظار، وترك معاناته للوقت ليطييب خاطر ولدي ويغير نظرته للعيش في يتبوري. بدأت أفكر جدياً بالحل المناسب، فانا مازلت لم أوفق بعمل والأنتقال والعودة لكارلسهامن يغيض دائرة الشؤون الأجتماعية في المدينتين. طرحت المشكلة على معلمته والمشرفة الأجتماعية في المدرسة، ونصحتاني بالعودة الى مدينتي السابقة وإلا سأخسر ولدي. وجدت من الأفضل أن أتحدث مع نورس عن صعوبات عودتنا وتكاليفها الأقتصادية وصعوبة العثور على سكن وغيرها من مشاكل. أثار أستغرابي عندما أبدى أستعداده في حل معظم هذه المشاكل وكأنه رجل يعرف ماينتظرنا من عقد ومصاعب. أقترح عليّ أن يسافر لوحده الى كارلسهامن ليعيش في بيت عائلة صديقه ستيفان ويواصل دراسته في المدرسة مع صديقه وفي نفس الوقت يبحث لنا عن بيت!. كان ستيفان زميل نورس في الابتدائية، وقد تبنته قريبته الفيتنامية بعد زواجها من السويدي الراحل لينارت اُركرين (Lenart Oregren) طيب الله ثراه عندما كان يعمل في الثمانينات من القرن الماضي موظفاً في السفارة السويدية في فيتنام. وبحكم صداقة نورس مع ستيفان، ارتبطنا عائلياً بعلاقات طيبة مع لينارت وعائلته. فزوجته كيم الشابة الفيتنامية تتمتع بأدب وطيبة فيتنامية صادقة، ولينارت لآيقل عنها طيبة وحباً للعلاقات الأجتماعية. لذلك لم أعارض أقتراح نورس في العيش في بيت ستيفان، خاصة أني قد تعرفت عن قرب بعائلة ستيفان وكنت مطمأناً من رعاية ولدي، لكن ماكان يقلقني صعوبة العثور على سكن مناسب في ظل أزمة سكن مستشرية خاصة في مركز مدينة كارلسهامن ومدى تفهم دائرة الشؤون الأجتماعية لعودتنا وخاصة أننا مازلنا بحاجة لمساعدتها. عرضت فكرة نورس على معلمته والمشرفة الأجتماعية التي كنا نتصل بها، أيدت المشرفة الفكرة وأبدت إستعدادها بالمساعدة من خلال توجيهها رسالتين واحدة لدائرة الشؤون الاجتماعية وأخرى الى شركة السكن لمساعدتنا. سافر نورس في نيسان بمفرده لكارلسهامن، ولأول مرة منذ وصولنا يتبوري وجدته فرحاً وسعيداً. وأستقبلته عائلة ستيفان بحب وحنان وأصبح أحد أفرادها، وبذل الراحل لينارت جهودا معه في مراجعة المدرسة ليواصل دراسته في الصف الأول متوسط، وراجع معه شركة السكن التي أوعدتهم خيراً. كنت على أتصال يومي بنورس وعائلة ستيفان لأتابع قبل كل شيء مواصلته الدراسة والأهتمام بدروسه وأحتياجاته، ومن خلال مكالماتي التلفونية كنت أحس بسعادة ولدي وارتياحه في بيت ستيفان حتى أن الراحل لينارت رفض أن يأخذ من نورس أي مبلغ كمساهمة في العيش معهم وعاتبني على ذلك. بعد أنتهاء العام الدراسي في أوائل حزيران قررت السفر الى كارلسهامن للبحث عن سكن خلال العطلة الصيفية وإلا فأن أنتقالنا وعودتنا لكارلسهامن يصبح شبه مستحيل. في كارلسهامن توزعنا أنا ونورس كل واحد منا يسكن في بيت أصدقائه، نورس في بيت ستيفان وأنا في بيت الصديق الطيب رزوق (أبو سامي). كنت يومياً أتصل بشركات السكن مستفسراً عن شقق فارغة للأيجار، أضافة لأتصالات أبي ستيفان (لينارت) والذي كان أكثر موفقاً في أتصالاته ربما لأنه سويدي والشركات تتقبل اتصالاته بجدية وتفهم أكبر. كانت الأيام تمر دون أن أوفق بالحصول على بيت للأيجار وأحياناً أحصل على وعود من بعض أصحاب الشركات الصغيرة وفي اللحظات الأخيرة يتغير موقفهم أو يتهربون من أجراء العقد، لأسباب معروفة وهي خوف وحذر معظم الشركات من منح عقد سكن للأجانب وخاصة العاطلين عن العمل. وصلت الى حالة من اليأس للعثور على سكن، وكان لينارت هو الآخر على أتصال عن طريق التلفون يومياً بالشركات ولكن دون جدوى. أتصلت بصاحب شركة بيوت في كارلسهامن مقره في مدينة كارلسكرونة، وأخبرني بأن أحد البيوت سيفرغ في أيلول. تمكنت في نفس اليوم من زيارة البيت المقصود ووجدته مناسباً لنا أو بالأحرى مناسباً لرغبات زوجتي العزيزة أم نورس، أتصلت بصاحب الشركة مباشرة وأخبرته بموافقتي. لكن صاحب الشركة أبدى بعد ذلك عدم أهتمام وتهرب، وساورني القلق ووجدت أن هذا البيت فرصتي الأخيرة، فكلفت لينارت ليتابع صاحب الملك ليشيع الأطمأنان في قلبه ويزيل حذره وخوفه من أجراء العقد، وفعلاً نجحت في الوقت المناسب من أستلام العقد. وهكذا عدنا الى كارلسهامن مجدداً في أيلول 1996 وواصل نورس تعليمه في الثاني متوسط، أما سارة فقد بدأت تعليمها الأبتدائي. قبل عودتنا من يتبوري كانت تعاني أم نورس من آلآم غريبة في مفاصل أصابع يديها، وأزدادت هذه الآلآم مع متاعب النقل ومايتطلبه من جهد ومن ثم تنظيم البيت الجديد. لم تنفع جميع الأدوية والمسكنات التي أستعملتها في يتبوري ولا العلاجات التي وصفها طبيب العائلة الدكتور ريبر (Ribar) في كارلسهامن. كانت آلآمها شديدة وأثرت بقوة على حركة مفاصل أصابعها وأصبحت غير قادرة على حركة أصابعها بشكل طبيعي وبدون آلآم، وكانت تتذمر من آلآمها أمام بعض أصدقائنا وأخص منهم عائلة رزوق (أبو سامي). وفي أحد الأيام أتصل بي أبو سامي (رزوق) وطلب مني أن تستمر أم نورس على العلاج ولاتتركه وكنت أرى في ملامحه القلق والخوف من مستقبل مرضها وكأنما يعرف سراً. أخبرته برغبتي بمكالمة صديقهم الدكتور أحمد، وأحمد طبيب مصري مختص بالمجاري البولية كان يعمل موقتاً في كارلسهامن وقد تعرفت عليه أثناء بحثي عن بيت قبل أنتقاله للعمل في ستوكهولم. أخبرني أبو سامي بأن أم سامي تحدثت مع الدكتور أحمد ووصفت حالة أم نورس وأعراض مرضها، وأخبرها الدكتور أن أم نورس على الأكثر تعاني من أعراض مرض روماتويد آرتريد وهو نوع من أمراض الروماتيزم الذي يصيب المفاصل الصغيرة. أتصلت في نفس اليوم بالدكتور أحمد وأستمع للأعراض المصاحبة لمرضها، فأكد لي أنها تعاني من مرض الروماتويد آرتريد وشرح لي كيف أن هذا المرض يهاجم المفاصل الصغيرة ويتنقل بينها ويسبب تكلسات وتشوهات تعيق حركة الأصابع، وأكد على ضرورة متابعة العلاج وعدم أهماله. في نفس الاسبوع راجعت مع أم نورس طبيبها الدكتور ريبر، وجدد لها المسكنات دون أن يتحدث عن طبيعة مرضها أو يوضح لنا ذلك، فسألته وكان سؤالي مفاجئاً له: هل ماتعاني منه زوجتي هو الروماتايد آرتريد؟ نظر لي مستغرباً وبقيّ لثواني يفكر ثم أجابني أعتقد ذلك! طلبت منه أحالتها لطبيب مختص لمتابعة علاجها والتأكد من تشخيص مرضها. أكدت الدكتورة المختصة أصابة أم نورس بالروماتويد آرتريد. صدمت وزوجتي لما شاهدناه من حالة بعض المرضى المراجعين، فلاحظنا التشوهات في الأصابع وعضام الكف ما أثار الرعب والقلق في نفوسنا. وهذا مادفعني للبحث عن أسباب وأعراض المرض، وعرفت كما يعتقد الأطباء لغاية اليوم أن سببه ضعف المناعة ولا يعرفون سبب هذا الضعف، ولغاية اليوم لايوجد علاج شافي للقضاء على المرض لهذا فالعلاجات هي مجرد مسكنات أو للحد من تطور المرض الى الأسوأ وهذا يعتمد أساساً على طبيعة المرض وقوته الهجومية، ولحسن الحظ أن مرض أم نورس لم يكن من الشدة الهجومية وربما يعود الفضل في هذا الى التشخيص المبكر للدكتور أحمد ونصيحته بضرورة الأهتمام بالعلاج. وفي أحدى مراجعتها لطبيب الأختصاص الدكتور بيارن رجوته أن يكتب لها علاجاً مسكناً ينقذها من آلامها الشديدة والملازمة، فردّ عليّ مبتسماً: لوكنت أعرف مثل هذا العلاج لفزت بجائزة نوبل الطبية! وحسب أعتقادي أن هذا المرض سببه قلة التعرض لأشعة الشمس، لأنني لم يسبق أن شاهدت مصابين به في بلداننا فالأصابات منتشرة في معظم الدول الأوربية وبكثرة. لكن الغريب وهذا مايستغربه أطبائها أن أوجاعها تزداد مع بداية الصيف. أهتم طبيبها الثاني بيارن بعلاجها، فأدخلها الى مستشفى كارلسكرونة التي تبعد عن مدينتنا 60 كلم ( قسم الروماتيزم) لمراقبة حالة يديها وحركة أصابعها إضافة لأخضاعها لعلاج مركز ولمدة شهر تقريباً، وقد تحسنت كثيراً على العلاج وأصبحت مراجعاتها دورية، خاصة أن العلاج الذي تأخذه يؤثر على الكبد والكلى ولهذا فهي تجري تحاليلاً شهرية للدم لمراقبة مدى تأثر الكبد والكلى وغيرها من تأثيرات جانبية سلبية. هذه الحالة المرضية تعاني منها منذ عام 1996 وهي تحاول أن تتعايش اليوم مع أوجاعها وخاصة أن العلاجات نجحت في إيقاف هجوم المرض وتطوره للأسوأ، وكلنا أمل أن تتخلص من آلآمها ولو أن المرض أخذ يهاجم ويصيب مفاصل القدم ويسبب لها مشاكل في المشي. أستمرت زوجتي على المراجعات الدورية لطبيبها بيارن، كان بيارن طيباً ودقيقاً في علاجاته خاصة عندما يقرر حقن مفاصل أصابعها بالكورتزون، فيتأنى ويدقق جيداً في أختيار مكان أختراق الأبرة للمفصل وكانت دائماً نتائج هذه الحقن جداً إيجابية بحيث كانت زوجتي ترتاح من الألم لفترة (2-3) أشهر الى أن يهاجم المرض مفاصل أخرى وتعاود حقن الكورتزون مجدداً. من طبيعة المرض التنقل في مهاجمة مفاصل الكف وهذه أحدى صفات الروماتويد آرتريد، إضافة للحرارة والورم في المفصل المريض. من سخريات القدر في مدينة صغيرة مثل كارلسهامن أن يحاول البعض أن يستفاد من معاناة ومرض الآخرين للأدعاء بالمرض علّهم يفلحوا في الحصول على الأجازات المرضية، وكأن الأطباء سيعتمدون على إدعاءات المريض دون أجراء التحاليل المرضية التي تؤشر الى وجود المرض حقاً. ففي أحد التلفونات لأم نورس من أحدى معارفها تسألها عن الأعراض التي تعاني منها، لأنها تريد أن تحدث طبيبها بذلك علّه يمنحها إجازة عن العمل طويلة الأمد تمهيداً للحصول على تقاعد مرضي!. للأسف هكذا كان البعض يتصرف، وهذا يشبه إدعاء أحدى الصديقات عندما طلبت وبالحاح من مسؤولة الشؤون الأجتماعية بتغيير نظارتها الطبية لأنها لا تتلائم مع قوة بصرها، وأثناء الفحص إحتار معها طبيب العيون فكلما غير العدسة لأختبارها وسألها كيف ترين تجيبه لآ ترى بوضوح، بعد أن عجز وضع نظارتها على عينيها وقبل أن يسألها بادرته بالقول فرحة: نعم دكتور هذه أفضل من السابقات! ضحك الدكتور وقال لها هذه هي ذاتها نظاراتك ولست بحاجة لتغييرها!. مثل هذه القصص كثيرة وقد أساءت الى حد ما للثقة التي منحت للمهاجرين، وللأسف أن معظم المسؤولين السويديين لآيميزون بين المهاجرين ومن يستحق الثقة ومن لايستحقها ومن هو الدعي ومن هو الصادق، وهكذا أحترق الأخضر بسعر اليابس كما يقول المثل. وفرت كارلسهامن لأبنائي ظروفا لا بأس بها لنشأتهم، فنورس مارس في المدينة عدة هوايات مثل كرة القدم، الجودو، ركوب الخيل، التنس وصيد السمك، حتى أستقر أخيراً على هواية التنس وصيد السمك. أحب هواية صيد السمك ومارسها لغاية اليوم بينما ترك التنس بعد أنتقالنا للوند. وكلما خرج في سفرة صيد بحرية عاد بعدة كيلوات من سمك القد (torsk/cod) وفي أحدى رحلات صيده في وسط البحر عاد فرحاً وقد أصطاد سمكة قد تزن بحدود 20 كيلوغرام بعد صراع معها لعشرين دقيقة. وعندما جاء بها للبيت متفاخراً بصيده الثمين وبالجائزة التي ربحها، بقينا محتارين أين نضعها لطولها وكيف سنقطعها. في الرابط أدناه يشاهد القاريء صراع نورس مع سمكة القد الكبيرة وأضطراره للتنقل على سطح السفينة كي لاينقطع الخيط ومجاراة لحركة السمكة وهي تسحبه بقوة للأفلات منه ، وتوقف جميع زملائه الصيادين عن الصيد ينتظرون ماجادت به سنارته وسط هتافات التشجيع والفضول. http://video.google.com/videoplay?docid=-4672608112862546612&q=torsk أما سارة أصبحت منذ سنتها الأولى في الأبتدائية هاوية جيدة لقراءة الروايات والقصص ، وقد كشفت حينها عن موهبة وقدرات في خيالها لاتتناسب وسنها عندما كانت بعمر دون الثلاثة سنوات، فكانت تتحدث بأنسيابية لغوية لم نكن نفهمها وكأنها تروي لنا قصصاً وأخبار يومها في الحضانة . ونجحت في إجادة اللغة الأنكليزية من خلال مطالعاتها لبعض القصص باللغة الأنكليزية ومتابعة الأفلام الناطقة بالأنكليزية. وكم حاولت تعليمها القراءة العربية ولكني فشلت أمام عدم رغبتها وأستعدادها لتقضي وقتاً إضافيا بعد الدروس لتعلم لغة تجد فيها أختلاف كبير بين اللهجات الدارجة وما تقرأه في الكتب مما يعقد عليها فهمها. المهم أن لغتها السويدية جيدة وكذلك الأنكليزية، ولها كتابات شعرية وقصصية باللغتين السويدية والأنكليزية تنم عن موهبة، وأنا مستمر بتشجيعها لتطوير أمكانياتها. أنهى نورس الثانوية (السادس علمي) وقبل في جامعة لوند (Lund)، ولوند بلدية تقع في محافظة سكونة جنوب السويد ويقطنها بحدود 80 الف. وهي مدينة جامعية ورغم صغرها النسبي تستقبل 40 الف طالب من جميع أنحاء السويد والعالم لذلك تجد فيها حركة شبابية ناشطة أثناء الموسم الدراسي، فهي مدينة الشباب الجامعي. تعتبر جامعة لوند واحدة من أكبر الجامعات في الدول الأسكندنافية بما تقوم به من بحوث ودراسات. جامعتها تشمل عدة أختصاصات منها الهندسية، والفروع العلمية الأخرى، دراسة القانون، دراسات أجتماعية، الأقتصاد، اللآهوت، المسرح والموسيقى، الفن والطيران وهي الجامعة الوحيدة في أوربا لتعليم الطيران. ولما كانت أمكانياتنا المادية لاتساعد على مساندته إقتصادياً ليعيش في مدينة أخرى، وجدنا من الأفضل الأنتقال والسكن في لوند ليعيش معنا. وفقنا بالحصول على سكن وبسرعة لم يتوقعها بعض المعارف من سكنة لوند وقد أبدوا إستحالة حصولنا على سكن من دون أنتظار لسنوات! من طبيعة نورس حبه للحياة العملية أكثر من النظرية، لذلك غير دراسته في برمجة الكومبيوتر وتحول للدراسة في معهد بنفس الأختصاص يعتمد على الدراسة العملية أكثر من النظرية وقد تفوق في مجاله، حتى أنه حصل على عقد عمل قبل أن ينهي دراسته، وهو الآن مستقر في عمله في لوند ويمارس نفس أختصاصه وهذا مايسعدني ويجعلني مطمأناً لمستقبله، وخاصة أرى أنه موفقاً في علاقاته الأجتماعية مع أصدقائه وزملائه في العمل. أما بالنسبة لزوجتي ورفيقتي الطيبة فسوء الحظ بقى يطاردها بالأمراض وبأخطاء بعض الأطباء. فكانت تعاني ولسنوات من خدر في الأيدي وألم متواصل، وكلما راجعنا الأطباء أشاروا الى أن سبب الخدر والألم يعود الى الأنحراف الغضروفي في فقرات الرقبة الذي يسبب ضغطاً على الأعصاب التي تمتد لتصل أصابع اليدين. لم تنفع العلاجات الفيزيائية والطبية للقضاء على الخدر والألم، ولشدة الألم تقبلت علاجها بحقن كورتزون في الرقبة مابين الفقرات المصابة بالأنحراف الغضروفي، وكانت عملية الحقن قاسية ومؤلمة وصعبة، وكان الدكتور في كل مرة يفشل في إيجاد المكان المطلوب وهو يتابع حركة الأبرة على شاشة جهاز التصوير أمامه وهي تخترق رقبتها من الجانب ويكرر محاولاته في البحث عن المكان المطلوب وهي تعاني من الألم. في أحدى مراجعاتها لقسم الروماتويد لأخذ حقنة كورتزون في معصم يدها، لم يكن حينها طبيبها أُلا نيفاد (Olle Nived) ، فحقنها طبيب بديل وليتها لم تفعل. أحست أثناء حقن الكورتزون وكأن يدها تنتفخ وستنفجر وبألم لم يسبق لها أن أحست به من قبل بالرغم من أخذها العشرات من هذه الحقن. لسوء حظها لم أرافقها ذلك اليوم لأسباب خارجة عن إرادتي. تقول خرجت من غرفة الدكتور وأنا أحس بألم شديد ولم أعد قادرة حتى فتح حقيبتي فلا أحس بما أمسك، ولاحظ الدكتور ذلك وطلب مني عدم المغادرة موقتاً ولم أراه من بعد. عادت متأخرة للبيت وهي تبكي من الألم، حاولت أن أهدؤها، فالكورتزون والمخدر أحيانا يسببان ألماً وقتياً ولكن ليس لهذه الدرجة. أستسلمت لحالتها لكنها وخلال الشهرين القادمين كانت تشكو من زيادة الخدر في جميع أصابع يدها إضافة لألم شديد في يدها. وفي مراجعتها بعد شهرين لطبيبها نيفاد، شكت له ماعانته من حقنها للكورتزون في المرة السابقة. أندهش الدكتور مستنكراً عمل الطبيب البديل السابق، فقد خرز أبرة الكورتزون في معصمها في الجهة الخاطئة حيث تنتشر الأعصاب وهي منطقة محرمة، وهذا مايفسر ماعانته. قرر طبيبها إحالتها للجنة طبية للشكوى وفحص أعصاب يدها بعد الخطأ الفادح الذي أرتكبه الطبيب البديل. وأكدت اللجنة الطبية الضرر الذي أصابها، مما إستدعى أجراء عملية في أعصاب معصمها، وقد تحسنت أعصاب أصابعها وزال الخدر، وشجعها هذا التحسن على الأقدام لأجراء عملية أخرى ليدها الثانية. من نجاح العمليتين وزوال الخدر والألم تبين لنا أن تشخيصات الأطباء من أن سبب الخدر والألم في يدها وأصابعها الأنحراف الغضروفي في الرقبة ليس دقيقاً وأن علاجاتها السابقة كانت خاطئة. وكما جاء في الآية الكريمة (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم) فخطأ الطبيب البديل وما سببه لها من زيادة في الخدر والألم كان سبباً في إكتشاف أسباب خدر يديها وألمها ومعالجة ذلك. أثناء مراجعات زوجتي لأجراء عملية يدها الثانية لم يمهلها سوء الحظ طويلاً حيث اكتشف وجود ورم سرطاني في ثديها الأيمن. لحسن الحظ كان الأكتشاف مبكر وخضعت لعملية إستأصال الورم بنجاح وهي الان تحت المراقبة والعلاج التكميلي الذي سيستمر لخمسة سنوات ولغاية اليوم نتائج العلاج والتصوير جيدة. لآ أخفي سراً بالكشف عن عدم قدرتنا على التكيف المطلق مع مناحي الحياة السويدية المختلفة، وأعتقد هذا مايحسه جميع المغتربين إلآ النادر منهم. لكننا حاولنا أنا وزوجتي أن نتفهم الوضع الجديد وماتتطلبه الحياة الجديدة في السويد من أستيعاب بما يتناسب مع تقاليدنا وثقافتنا دون الوقوع بالتطرف في الناحيتين. وهكذا تجنبنا الكثير من المتاعب التي عانت منها كثير من العوائل العربية، وفي مقدمتها الخلافات بين الزوجين التي أدت في كثير من الأحيان الى الطلاق وتشتت العائلة حيث يكون الأبناء هم من يدفع الثمن. والغريب أن مثل هذه الخلافات ليست خاصة بالشباب والمتزوجين الجدد وأنما وللأسف شملت زيجات عاشت لأكثر من ثلاثة عقود في حياة مشتركة، ومن المفروض أنها كانت مستقرة . كما عانت الكثير من العوائل العربية من تمرد أبنائها ووقوعهم في مشاكل أدت الى فقدانهم لأبنائهم وأسقاط حق الوالدين أو أحدهما من تربية أبنائهم، وربما دخل بعض الأباء السجن بسبب خلافاتهم وعدم قدرتهم في حل المشاكل مع أبنائهم. وذلك بسبب تطرفهم ومحاولاتهم المحافظة والتمسك ببعض التقاليد البالية والتي لاتصلح حتى في مجتمعاتنا ودولنا، ونسوا أنهم أختاروا العيش في بلد له تقاليده وقوانينه وعلينا أحترامها والألتزام بهذه القوانين، وفي أي مجتمع متحضر من يخالف القانون يتعرض للمسائلة والعقاب. وفي الجانب الآخر نجح البعض في التكيف المطلق مع الحياة الجديدة، حتى أن هؤلاء لايفكرون بأصولهم إلا ماتثيره في نفوسهم من ذكريات للماضي وهم أحيانا يسخرون منها ويحاولون نسيانها نهائياً. ظلت عائلتنا متماسكة، وأن ولدي نورس لم يغادر البيت حتى بعد أنهائه دراسته وحصوله على عمل، ولم يغادر إلا في نهاية عام 2007 وكان هذا بتشجيعي كي يتعلم العيش مستقلا. بينما كثيراً من الشباب والعوائل كانت تستغل مايمنحه القانون السويدي من حق للشباب في الأنفصال عن عوائلهم وتوفير السكن والمعونة المالية لهم ليعيشوا مستقلين عن عوائلهم. توجهت في السنوات الأخيرة لممارست الكتابة، وقد شجعني على ذلك ماتوفره التكنلوجية الحديثة (الأنترنت) من معلومات ووسيلة سريعة لنقل المعلومات. ووجدت في الكتابة والمطالعة واحدة من أفضل وأجمل وسائل اللهو الموجه والمثمر في قضاء الوقت، كما أني وجدت في نشر بعض ماخزنته الذاكرة بطريقة أستعراضية سردية تقبلاً وتشجيعا من الكثيرين وهذا ماتشهد عليه الرسائل التي وصلتني.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |