ألاسلام وبنيته الاجتماعية مابين المدنية والقبلية ... أعادة قراءة - انتهى

 

 

حميد الشاكر

al_shaker@maktoob.com

 ما الدليل الذي يشير الى مدنية الاسلام الفكرية والسلوكية والبنيوية الاجتماعية ؟.

 *********

 فيما ذكرنا من المحاور السابقة لدراسة بنية الاجتماع الانساني، أكدنا على ان ظواهر اي مجتمع سواء كانت فكرية او سلوكية هي الدليل او القرينة او المؤشر على نوعية هذه او تلك من البنى الاجتماعية الانسانية، وهذا من منطلق : ان للبنية المجتمعية حتمية ولادة لبعض النماذج السلوكية والفكرية التي تعبر عن نوعية هذه البنية او تلك، ولاخلف في هذه القاعدة الاجتماعية، فليس هناك بنية مدنية تتمكن من كسر القاعدة لتلد سلوكا وافكارا واتجهات نفسية وروحية غير منسجمة مع هذه البنية، بأن - مثلا - نجد سلوكا قبليا يطفوا على سطح البنية المدنية كمنتج لها، أو العكس بأن نصادف سلوكيات وافكار مدنية او حضارية تنطلق من مقومات البنية القبلية، وان كان هناك مدعى الا ان الحقائق تغلب على الدعوة  !.

لا ... ليس هناك شيئ من هذا القبيل الاجتماعي، ولكنّ هناك قوانين وسنن تحكم العلاقة بين بنية الاجتماع وظواهره السلوكية والفكرية بنوع من الانسجام والانضباط بحيث ان للبنية المدنية المجتمعية نمط هو مختلف بطبيعة وجوده عن ما تنتجه بنية الاجتماع القبلية، ويبدو ان هذه اصبحت بديهة اكثر منها قاعدة !.

كما انه فيما مضى من الدراسة أشرنا الى ان نفس تلك البنية المجتمعية قبلية كانت أو مدنية ماهي الا منتج فكري او منتج فكرة تؤسس لهذه البنية او تلك من البنى الاجتماعية توجهاتها الاجتماعية، ففكرة (التنوع) هي الاساس للبنية المجتمعية المدنية، وفكرة (العصبة) هي الممون لبنية الاجتماع القبلي، كما ان فكرة (تقوى الله) سبحانه هي اللبنة التي اراد الاسلام ان تكون نواة بنية الاجتماع الاسلامي القائم على فكرة وبنية الاجتماع المدني لتلد هذه الفكرة فيما بعد ظاهرة  (الاخوة في الله وفي الاسلام) !.

والآن ماهي الظواهر الفكرية والاخرى العملية التي دفعتنا لرؤية الاسلام باعتباره منتج مدني بفكر لاهوتي رسالي اسلامي ؟.

ان من الظواهر الفكرية والعملية والقانونية الكثيرة التي تشير الى مدنية الاسلام، او قرب الفكرة والبنية الاجتماعية الاسلامية من البناء المدني للانسانية هو هذه الظواهر الاتية :

اولا : القراءة.

لاريب ان الاسلام اول ما ابتدأ في مشروعه الرسالي القرءاني هو كلمة (أقرأ) والتي هي ظاهرة تكاد تكون منقرضة تماما من عالم البنى الاجتماعية القبلية، بحيث ان القراءة كانت تشكل بالنسبة للمجتمع المكي العربي انذاك ماهي الا حاجة تجارية، باعتبار ان العالم التجاري بحاجة الى ظاهرة التدوين الحسابية التي تحافظ على حسابات الربح والخسارة وكذا الديون والتجارة وهكذا الداخل والخارج من موارد وصادرات السوق والمال، وحتى على هذا المستوى التجاري لايمكننا القول الا ان ظاهرة (القراءة) التجارية ماهي الا منتج مدني مئة بالمئة، زحف مع التجارة ليدخل الى مكة متنوع البنى الاجتماعية كضرورة لابد منها في أم القرى العربية مكة، لتستقر القراءة في مكة باعتبار ان ظاهرة من الظواهر المدنية الداخلة الى المجتمع المكي المزدحم بحركة البنية القبلية ايضا والتي كانت ترى في القراءة ظاهرة غريبة على وجودها الاجتماعي المقاتل اكثر منه المفكر والكاتب هذا !.

نعم ما زال ولم تزل البنية القبلية ترى في ظاهرة (القراءة) شيئا غريبا على الكيانية القبلية، وذالك لعدة اعتبارات منها فكرية واخرى بنيوية اجتماعية، فحتى اليوم هناك وفي قبائلنا العربية بالعموم وعشائرنا العراقية بالخصوص النظرة السلبية للفرد الانساني المتعلم والقارئ للحرف الكتابي ..، لا لمعضلة الا لكون هناك تصور قبلي يرى في التعليم دعوة الى نبذ الخشونة والجرأة والاقدام في المعارك الحربية، او بصورة اكثر وضوحا : ان هناك تصورا قبليا يرى في التعليم الذي تنتجه القراءة نوعا من العزوف عن الشجاعة والاقدام في غزوات ومعارك القبائل !.

فهل هذا التصور القبلي صحيحا حول منتج القراءة والتعليم ؟.

يبدو انه بالفعل : يكون التعليم سببا في الكثير من نبذ العنف والاقدام المنفلت عن عقال التعقل في ساحات المعركة، كما ان العلم والقراءة معطى مدني ترفي وليس منتجا قتاليا لبنية الاجتماع القبلي الذي هو بحاجة الى السيف والضرب بقوة اكثر من حاجته للتأمل وصناعة الفلسفة والركون الى التمتع بالادب والفن .... وباقي شؤون المدن المتحضرة، وهذه الظواهر وغيرها هو مادفع القبيلة والعشيرة الى النظر الى القراءة ومايتبعها من تعليم على اساس من الريبة والغربة، فالقراءة على هذا التصور منتج مدني لبنية مدنية غريبة تماما عن منتج القبيلة القتالي !.

أذن عندما اجد ان الاسلام بوحيه الرباني العظيم ومن خلال رسالة رسوله محمد الكريم ص يعلن اول لبنة في بنيانه الفكري كلمة (أقرأ)) ادرك ومن اللحظة الاولى استحالة ان تكون هذه الكلمة منتج طبيعي لبنية الاجتماع القبلية التي لاينتمي لجذورها محمد ص، وانما أجزم ان هذه الكلمة لاتنطلق الا من خلال البنية المجتمعية المدنية التي ترى ان للقراءة فعل التمدن الذي ينبغي ان تقوم على اساسه هيكلية المجتمع ووجوده الفعلي في هذه الحياة .

 ثانيا: المدنية

للتوجه الرسالي المحمدي ص العظيم فكرا وسلوكا نوعا من التوجه المدني الطاغي على حياته الفكرية والشخصية ايضا، ففي ثنايا دراسة حياته الكريمة ومن خلال التتبع لكل خطواته المباركة صلى الله عليه واله وسلم، لانكاد نلحظ اي زاوية توحي في حياة محمد رسول الله العظيم على اساس انه ينطلق من هذه البنية القبلية او تلك الجاهلية الاعرابية، لابل العكس هو الصحيح تماما، فمحمد العظيم ص سلوكا كان لايميل الى العنف الاخلاقي، ولاهو ممن يتجه الاتجاهات الفضة مع المرأة او النظر اليها بدونية او احتقار انوثتها الناعمة، بل على العكس من ذالك تماما فهو قمة في الترف المتمدن مع المرأة بحيث ان الدارسين لم يلحظو على سلوكه الشخصي حتى مجرد علو الصوت على أمرأة في حياته الشريفة بتمامها حتى وفاته، ومثل هذه السلوكية الحضارية ليس من شأنها ان تنطلق من بنية اجتماعية قبلية كانت ترى في العنف رجولة وفي الذئبية ذكاءا وفي احتقار المرأة اثباتا للذكورية .... وهلم جرى مما تنتجه بنية الاجتماع القبلية بتلقائية وطبيعية تنسجم مع فكرة العصبة وبناء القبلية والشوكة  هذه !.

ان محمدا رسول الله ص صاحب الرسالة الاسلامية نفسه كان الدليل الناصع على مدنية الاسلام في افكاره وبناه المجتمعية الاخرى، لابل ان محمدا رسول الله ص نفسه هو من كان يرى في وجوده وجود المدينة بكل ماتعني المدنية من معنى عندما قارن نفسه وعلمه على اساس انه علم وكيان يشبه المدينة بكل ابعاده الانسانية، وان وصيه وابن عمه علي بن ابي طالب عليه السلام يشبه الباب او المدخل  لهذه المدينة العلمية الكبيرة، لهذا قال رسول الانسانية محمد ص :(أنا مدينة العلم وعلي بابها ...)) وفي ثنايا هذه الكلمة الاسطورية الرائعة -( سوف نتناول الابعاد الفكرية لهذا النص الرسالي فيما بعد بشكل منفصل )-  الكثير من المعاني والاطلالات التي لايتسع لها مجالنا المختصر هذا، ولكن لا أقل من القول :

ان تشبيه الرسول محمد ص نفسه بالمدينة، واضافة المدينة لهذا العلم، لايخلو هذا التشبيه من فكرة مختمرة تماما في عقل وروح محمد الرسول ص عن مايعنيه مجتمع المدينة منه عن مجتمع القبيلة وغيرها من المجتمعات المغلقة، كما ان اضافة العلم للمدينة، بل اضافة المدينة للعلم هي اشارة اخرى على ان العلم قرين المدينة ومنتج بنيتها الاجتماعية الطبيعي، كما ان المدنية قرين العلم ومنتج بنيته الاجتماعية الطبيعي، مما يعني ان العلم الرسالي يأخذ الاشكال المدنية المتنوعة والتي هي فيما هي (  المدينة ) حامل لأشكال مختلفة من القوانين والافكار والاعراق والاديان، وكذا ماتتميز به المدن من صخب وتجارة وفن وبذخ ......... الخ الى اخر هذه التشكيلة المدنية المتنوعة من الحياة المتحركة !.

فمحمد الرسول ص على هذا المعنى مدينة علم متنوع يشمل الحياة المدنية بكل جوانبها الحركية القائمة على قوانين واخلاق وافكار ومشاعر وفنون واداب ... حياة المدن وملامحها المميزة !.

ولهذا كانت ولم تزل المدنية في حياة محمد الرسول ص دليل لايقبل الشك على ان الاسلام تمثل بالمدنية المحمدية، كما ان المدنية المحمدية تمثلت بالاسلام كعنوان لبنية ومجتمعية هذا الاسلام المتنوع والمتعدد الاتجاهات والواسع القوانين .

 ثالثا : مفهومي العدالة والتنوع

ايضا كذالك بروز ووجود ظاهرتي التنوع الفكرية ( اقصد اديان متنوعة مقبولة شرعا وافكار متعددة مسموحة اسلاما واجتهادات متباينة واجبا دينيا ...) والعدالة العملية ( اقصد العدالة بما هي حكم اسلامي لايفرق بين فرد واخر وان اختلفت هويته الفكرية او الدينية او العنصرية ..) في الاسلام وبكثافة ملحوظة فكرا وممارسة تدلل من عدة جوانب متعدد على ان بنية هذا الدين الاسلامي المجتمعية من المستحيل ان تكون منتسبة الى بنية قبلية او اخرى جاهلية من منطلق ان بنية الاجتماع القبلية لايمكنها انتاج مفهومي ( العدالة والتنوع ) وهذا ان لم نؤكد القول على ان اعدى اعداء بنية الاجتماع القبلية هي مفهومي العدالة والتنوع، فالعدالة منتج قانوني مدني تطالب به الاجتماعات الانسانية المتباينة الاتجاهات الفكرية لضمان الحقوق المتنوعة في داخل المجتمع، والقبيلة ببنيتها الاجتماعية غير محتاجة لهذه العدالة بسبب ان الاجتماع القبلي يقوم على فكرة التعصب والقوة والتي هي بمجملها لاتعير اي اهتمام لمفاهيم العدالة لانتفاء سبب وجود مثل هذه العدالة لعصابة قامت على فكرة القوة وحماية المنتمين لها بعيدا عن مفاهيم الحقوق او مفاهيم العدالة الانسانية هذه !.

وكذا الحال في مفهوم وفكرة التنوع والتي هي فكرة بنية مدنية مغايرة تماما لفكرة بنية القبيلة، فالقبلية تقوم على طرد التنوع الانساني بلحاظ تماسك الجسد القبلي الموحد الوجهة والفكرة، بينما التنوع بالنقيض من ذالك عندما يحاول كسر المعادلة القبلية وانفتاحها على الفكرة الاشمل من نواة القبلية لصناعة المدينة دائرة بدلا من دائرة العصبة والقبيلة !.

فنحن هنا أمام مسارين كل واحد منهما بالنقيض للاخر، فأن وجد التنوع الانساني الفكري والقومي والتجاري والديني والفني قامت المدينة واحتاج الانسان الى قانون العدالة والتنوع، وان وجد قانون العصبة والقوة والشوكة ماتت المدينة وانتعشت القبلية واصبح القانون للغلبة والقوة وانحصر مفهومي العدالة والتنوع في الاجتماع الانساني وهكذا !.

ومن هنا كان وجود مفهومي ( العدالة والتنوع ) في الفكر الاسلامي نصا قرءانيا ونصا رساليا وتطبيقا أماميا وبكثافة عالية المنسوب، دليل لايقبل الشك على ان هذه المدرسة الاسلامية والاطروحة الرسالية المحمدية ماهي الا منتج مدني متنوع يأخذ بعين الاعتبار كل الشؤون المدنية الفكرية والسياسية والتجارية والفنية وكذا الدينية والاخرى الاجتماعية والنفسية والروحية ... وهكذا .

لابل لانغالي ان قلنا ان المفاهيم الاسلامية المدنية ماهي الا تعبير واضح لحرب معلنة على العصبوية والقبلية والانغلاقية والجاهلية .... وباقي العناوين والظواهر التي تنتجها هذه البنيوية القبلية الجاهلية فيما مضى وحتى اليوم !.

نعم بأمكاننا ان نتعقب العشرات بل المئات من الظواهر الاسلامية الفكرية والسلوكية التي تدلل على مدنية الاسلام وعلو مرتبة بنيته الاجتماعية الحضارية، لكن ليس هذا المهم في البحث الاسلامي بقدر الاهم عندما نبحث عن الادلة التي ترتقي بالمدنية نفسها لتصل الى المستوى الاسلامي الرفيع في بنيته الاجتماعية وما أسس له من نظم اجتماعية ترتقي حتى على المدنية نفسها لتصعد الى سلم الحضارة الانسانية الاعلى هذا !.

ان الاسلام وحقا هذه المرّة له من الفكرة والبنية الاجتماعية التي رفع من جدرانها على بنية الاجتماع المدني، مايفوق كثيرا فكرة وبنية الاجتماعات الانسانية المدنية، ولكن مأزقنا الفكري اننا ينبغي ان نطرح الفكرة من خلال ما اعتادت عليه الذاكرة الانسانية المادية لترى حضارية اي شيئ بمسمى المدنية، بينما نرى نحن العكس من ذالك عندما يكون الاسلام هو المقياس الارقى لانسانية التمدين وبشرية التحضر وهل هي مدنية انسانية او انها مدنية متدنية ؟.

نعم المدنية تؤمن بالتنوع، ولكن باعتبار ان فكرة التنوع اعطت الحق لكل انسان ان يختلف عن الاخر في اطار قانون المدينة، ولكن ماذا تقول بالفكرة التي اضافت الى هذا الحق المدني شيئا اخر ليضمن الايمان العميق بفكرة التنوع المدنية وهو ان هذا الاخر المختلف عنك في اطار المدينة هو ليس غريبا عنك او فاقدا لميزة الالتقاء معك الا من خلال هذه الفكرة !؟

لا ... وانما هذا الانسان المجاور لك في المدينة بالاضافة لامتلاكه الحق الطبيعي في الاختلاف عنك، كذالك هو اخوك في الانسانية ونظير لك في الخلق كما عبر عن ذالك تلميذ الاسلام علي بن ابي طالب عليه السلام، وهذا هو الاختلاف بين مدنية تعطي الحق في العيش  واسلام يضمن لك الالتزام بهذا الحق دينيا وفكريا ونفسيا وروحيا وعقديا وايدلوجيا وسياسيا واقتصاديا وفلسفيا واجتماعيا وانسانيا ايضا!.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com