|
السنة التاريخية .. وإرادة الإنسان المسلم المعاصر
احمد الحسني البغدادي نود في هذا الحديث أن نلفت الانتباه إلى العوامل الأساسية لسقوط جملة من الدول والتجارب والحضارات في القرون السالفة. إن سياق ومدلول الآيات القرآنية في سقوط الدول والتجارب في العصور الغابرة كانت بإطار العموم والشمول، ومورد صدور الآيات لا يكون مستهدفاً التخصيص على المورد.. وذلك بدليل الروايات المتضافرة والمستفيضة، والتي تسمى بـ((أخبار الجري والانطباق)) والقائلة من أن القرآن كتاب الله الأخير المحفوظ لا يختص بمورد دون مورد، ولا يطرح تفاصيل وجزئيات، وإنما طرح أسساً ومبادئ وقواعد عريضة شاملة على الصعد الحياتية كافة إلى أن تقوم الساعة الكبرى. ولنا الآن أن نستعرض عليك شذرات من النصوص القرآنية لتوقفك على مصارع الغابرين.. ((وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ(58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يتلو عليهم آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ)) القصص 58 / 59 ((وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوتَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)) الرعد: 31 ((بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ)) الأنبياء:44 ((وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ)) الرعد: 13 ((قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ)) النمل:26 ((وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)) الأعراف:130 ((فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ)) الأعراف: 133 ((فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ)) الأعراف: 64 ((فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ)) الأعراف:62 ((فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ)) الأعراف:78 ((فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)) فصلت:16/18 ((وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) العنكبوت:37 ومن هنا نبدأ.. لنلاحظ هذه النصوص القرآنية بجملتها.. ونلاحظ محتوياتها على وجه الإيجاز.. ونلاحظ إيحاءاتها باللمسة الوجدانية، والتأمل الموحي كذلك: 1- قوم عاد: عندما التحم مصير عاد بالصخور الجبلية، وشيدوا منها البنايات الضخمة، همست أليهم أنفسهم أن كل شيء على ما يرام من نعمة، وسعادة، ورفاهية كاملة.. وأنهم في ضمان اجتماعي، واقتصادي وثيق.. ومن حضارة فريدة رائعة، تجمع شملهم، وتضمن لهم مستقبلهم الأبدي.. وكان جزاؤهم أن يعانقوا مصائرهم التي صاغوها بأنفسهم، وهي من الصخور نفسها.. إذ انقلبت بين عشية وضحاها أسباب كبريائهم، ووسائل حضارتهم إلى حاصب من السماء.. الا وهوا لريح الصرصر التي تتطاير معها حصباء الأرض.. فتضربهم وتقتلهم من كل جهة.. فإذا كل شيء ذاهب!!.. وإذا كل حصن واهن!!.. وإذا كل وقاية ضائعة!!.. وإذا كل مصنع يطوى!!.. وإذا الصمت يخيم، والموت يجثم!!.. وإذا الجثث، والأشلاء، والبلى، والدمار.. يعم الأرجاء، لا حس، ولا صوت، وما من احد.. الا الواحد الأحد المدبر المهيمن العزيز الجبار القهار الحي الذي لا يموت.. وكم من حضارة بعد زوال قوم عاد، راحت تخطط على هذا المنوال، وتطغى هذا الطغيان، وتبتعد عن عبادة الله الواحد القهار.. وتحسب ان البشر قد غدا في غنى من هذه العبادة.. وهي تنتج من عوامل الزوال والاندثار لغيرها، والصيانة والحماية لكيانها، ما يحسبه صيانة وحماية لها من خصومها.. ثم تسرح وتمرح في طول البلاد وعرضها، فإذا غضب الله ينتقم منها، وعذابه يصب عليها.. من عاليها، ومن أسفلها.. ومن أمامها، ومن ورائها، وليس هذا سوى النتيجة الحتمية التأريخية الأبدية المقررة الثابتة لهذه الحضارة المادية المعاصرة. 2- قوم ثمود: وعندما تجسم كبرياء وغطرسة قوم ثمود في عبادة الأصنام والأوثان تقليداً لآبائهم، في إيجاد الإجراءات الأمنية الكافية، والمعاقل والخنادق الصلدة، وكأنها حلف وارشووالاطلسي عندما إتكأ على قواعده الصاروخية النووية الضاربة المنتشرة في كل الأراضي والبحار.. ونظراً لهذا كله.. توهموا أنهم حققوا حضارة عمرانية مادية، وإنهم على يقين من دينهم، وثقة من أمرهم، وأنهم غدوا بمنأى عن عقاب الله وبأسه، فحينئذ لا تدهور، ولا سقوط على صعيد أبدي. كانت تلك الغطرسة، والتمادي في الاستهتار، والتعصب لعبادة الأوثان.. شر ما انتقم منهم.. حيث ان الله تبارك وتعالى بعث عليهم صيحة مدوية مفاجئة أسقطت أفئدتهم، وتركتهم مصعوقين.. حيث كانوا في مساكنهم لا يتحركون فغدو فيها جاثمين.. كأن لم يعمروا أبداً هذه الديار، وكأن لم يكن لهم فيها من آثار.. فما كان الله ليظلمهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.. وهذه سنة الله التي لا تتخلف.. والتي تحكم الموت، والحياة.. وتحكم الجماعات، والرسالات.. وتحكم الهدى، والضلال.. وتحكم الحساب، والجزاء. وهكذا.. لم تصدهم ملاجئهم وتحصيناتهم وآلهتهم من سخط الله العلي القدير، الذي جلبوه على أنفسهم بالتفاخر والعتو والإنكار والعناد للحق الذي لا يذعنون له، وان قام عليه ألف دليل ودليل. ومن ثم.. اكتشفوا حقيقة حتمية قاهرة، وبعد أن انتهى كل شي، ان كل الخطط الأمنية العريضة، والمعاقل والحصون المتينة، التي يحسبونها القوة القادرة، لن تصلح لهم، ولن تحميهم من الكوارث والأهوال، ولن تمنع الله سبحانه أن يقتلهم في حصون أمنهم التي عجزوا عن الدفاع عنها. 3- قارون: وعندما التحم مصير قارون بـ((مصادر الأرض الطبيعية)). وحاول بكل ما يستطيع ويملك من حول وقوة.. أن يصارع حتمية السنة التأريخية.. بالاستغراق في المتع العاجلة.. فهولا يعرف: الا الفساد بلذاته الجامحة، والسعي الدائب لإشباعها. وإلا الفساد بشحن صدور الضعفاء، والمستضعفين، بالحسد والعداء الدفين.. وإلا الفساد بإنفاق المال في غير وجهه، أو إمساكه عن وجهه.. والا الفساد بالمتاع المطلق من عدم مراقبة الله، ومراعاة الآخرة..كل هذا، أوذاك يتحدى بجبروته وعتوه المصطنع، مسيرة الحق، والعدل، والعطاء، بالتمرد، والانطلاق من كل قيد. هذا.. ولم يستمع نصح الناصحين من أبناء قومه(المستضعفين منهم، والمحرومين) بالإحسان، والاعتدال، ونكران الذات، وعدم الفساد بالبغي والظلم، والخضوع لمنهج الله الواحد القهار.. وأعرض عن هذا كله.. في استكبار لئيم، وفي بطر ذميم.. وعندئذ كانت النتيجة الحتمية ان تتدخل يد القدرة الإلهية، التي تجري وفق الناموس المرسوم بقدر معلوم، لتضع حداً للابتلاء والغطرسة تحطيماً كاملاً.. وفي لمحة خاطفة بطشت به، وابتلعته الأرض مع قصره، وأرصدته، وهوى في جذور الأرض، التي استكبر فيها وتطاول واستطال فوقها جزاءاً ووفاقاً، وراح هزيلاً عاجزاً لا ينصره قومه، ولا تنفعه القناطير المقنطرة من الذهب، والفضة. ولن يدوم وجود هذا الطاغوت الاقتصادي المغرور العنيد، ومن مواهبه المزعومة في تبرير عظمته، وتسويغ أبهته، والانتفاخ بماله، والاعتزاز بثرائه، والتعلق بكنوزه، والاحتفال بملكه.. خلا قضية واحدة هي: العظة، والعبرة لمن ينسى مصدر النعمة وحكمتها، ويفتتنه المال، ويعميه الثراء الفاحش.. والمفروض ان يحس الإنسان المعاصر هذه العظة، فيترك التفاخر، والبذخ، والترف بصورة طاغية طاغوتية، ويتجرد عن استلاب الذهب، والفضة، وعبادة البورصة، ورأس المال، والاستيراد، والسوق السوداء، ويستهين بحياة الأرض وما بها من متاع تافه.. لئلا يخسف الله به، وبماله الأرض. صحيح.. ان المال نعمة من الله، ولا يحرم الإنسان المتاع المعتدل بما وهبه الله من مال كسبه من وجوهه الخيرة، وسخره في ترفيه نفسه وعائلته بـ((القصد والاعتدال)) ثم يجعله وسيلة للترفيه عن الفقراء والمحرومين.. ليس في طلبه أي أصر ما دام ينتزع من أصوله الطاهرة ليوضع في روافده النقية.. وقبل ذلك يفرض عليه مراقبة الله الذي أنعم عليه، ومراعاة الآخرة، وما فيها من حساب، وعقاب، وجزاء. يقول القرآن الكريم: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عدو مبين)) البقرة: 168 ((كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)) البقرة: 60 ((كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ)) الأنعام: 142 ((يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا)) المؤمن: 31 ((كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى)) طه: 81 وقول الإمام الصادق(ع)((فيما رواه عيسى بين موسى)):.. ((يا عيسى... المال مال الله، جعله ودائع عند خلقه، وأمرهم أن يأكلوا منه قصداً، ويشربوا منه قصداً، ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين، فمن تعدى ذلك كان أكله حراماً، وما شرب منه حراماً، وما ألبسه منه حراماً، وما نكحه منه حراماً، وما ركبوا منه حراماً))([1]) ويقول الإمام الصادق(ع)(فيما رواه أبان بن تغلب): ((المال مال الله، يضعه عند الرجل ودائع، وجوز لهم أن يأكلوا قصداً، ويشربوا قصداً، ويلبسوا قصداً، وينكحوا قصداً، ويركبوا قصداً، ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين، ويلموا به شعثهم.. فمن يعمل ذلك كان ما يأكل ويشرب حلالاً، وينكح حلالاً.. وما عدا ذلك كان عليه حراماً.. ثم قال(ع):(ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين) أترى الله ائتمن رجالاً على مال خوله له أن يشتري فرساً بعشرة آلاف درهم، ويجزيه فرس بعشرين درهماً))([2])؟!.. 4- فرعون: وحضارة فرعون الطاغية.. وما خلفته لنا هذه الحضارة حين عبدت نهر النيل، واتخذته إلهاً ونصيراً وملاذاً من دون جناب العزة وباب الكبرياء.. وبادر رهطها يفدون لها أرواح آدمية.. ففي كل سنة كانوا ينتخبون ملكة الجمال، ثم يسقطونها لتغرق في مياه النيل هدية سخية كريمة مباركة له، وابتعاداً من سخطه وبطشه المزعوم!!.. هذه هي حضارة مصر الزراعية القديمة.. هل ساندت فرعون وملأه، ووزيره هامان العقل المفكر، والمخطط لمكائده، والساعد الأيمن على ظلمه وطاغوتيته؟!.. لا، وألف لا.. ان سنة الله في الكون الرهيب.. هي التي دمرت فرعون وجيشه الرهيب الذي لا يقهر.. وغدا رب فرعون وقومه.. هوا لذي أحبط كيانه الأسطوري.. عندما أغرقهم جميعاً في اليم العذاب الهائل، فلا رجعة إلى الدنيا، ولا توبة في الآخرة. ان أي حضارة مهما ظل حاكمها يطغى في البلاد، ويكثر فيها الفساد، والإرهاب الفكري والسياسي، ويزعم لقومه أنه أخطر ملوك الأرض في زمانه، وأقدمهم عرشاً، وأثبتهم ملكاً، وأعرقهم حضارة، وأشدهم تعبداً للخلق، واستعلاءً في الأرض، وافتخاراً في ملك مصر، وتصرفه فيها كيف يشاء، وجري الأنهار النابعة من نهر النيل، تحت قصوره، وتحت جنانه وضياعه، يعتزز مصيره ومستقبله بـ((الماء)).. وبالتالي ينتهي حتماً مصيره ومستقبله بـ((الماء)) ؛ وهذا مما لا مماحكة فيه حين قال:(( هَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي)) ان من تعزز بشيء من دون الله أهلكه الله به لا محال. إن كل أداة حضارية تعبد من دون الإيمان، والعبادة، والتقوى، والصلة الحقيقية بالله سبحانه.. تنعكس النتيجة ضد الإنسان، وتحطمه بأنواع العذاب: كالخسف.. والمسخ.. والصاعقة.. والطوفان.. والحشرات.. والأوبئة.. والمجاعة.. والخوف.. والرعب.. والاضطراب الكبير.. والمطر العنيف.. والسيل الجارف.. والريح العاتية.. والاماتة الجماعية. أجل.. فالتجرد التام من المثل والمبادئ الروحية الأخلاقية الوجدانية الواقعية(كما شاهدنا) تدهور وسقوط ليس على المستوى الحضاري وحسب، وانما يمتد إلى كل التجارب السياسية، والتشكيلات الحزبية، والاجتماعية، والأنظمة المحلية، أوالعالمية. وهذه هي الحقيقة الواقعة.. فتصاعد الصراعات العنصرية، وهيمنة النزاعات القطرية والمحورية، والاندراج في خطط السياسات الدولية التي يحكمها منطق الدول الكبرى، والاعتماد المطلق على الأشياء المادية الفانية، والمصالح الزائلة كالنفط.. والذرة.. والآلة.. والإنتاج.. والتنمية.. والغذاء.. بدلاً عن اليقظة، والحساسية، والتقوى، ومراقبة النفس، والعظة بتجارب الإنسان، ورؤية محركات التأريخ البشري، وإدامة الاتصال بالله، والتمسك بشريعته، وتطبيق أحكامه، وعدم الاعتزاز بطراءة العيش، ورخاء الحياة.. تؤدي بالإنسان إلى: تفشي الأمراض العصبية.. والشذوذ، والجنون.. أوتزايد الأزمات الاقتصادية الحادة.. أوتوقف كل إنجاز، وأبداع، ونشاط فعال.. وكل هذه عوامل أساسية في إجهاض الحضارة الحديثة المضلة الحائرة.. أذن.. حياة الجماعة البشرية المعاصرة مصيرها مرتبط بالإيمان، والعبادة، والتقوى، والعمل الصالح، وتحقيق المبادئ الكبرى.. وعندما يهربون من هذه الأسس الرئيسية فأن الحد الأدنى مما يصيبهم من عواقب وخيمة هو: معاناة العقاب.. والشقوة.. والقلق.. والحيرة، ويأكل بعضها بعضاً، ويأكل الفرد منها نفسه وأعصابه، ويطاردها وتطارده بالأشباح المطلقة، وبالخواء القاتل الذي يحاول اللادينيين أن يملؤه تارة بـ((المسكرات)) وتارة بـ((الحركات الحائرة)) التي بخيل أليك معها انهم هاربون تطاردهم الأشباح.. وان الأخطر هو: كاسحة تشمل الارض كل الارض وتتركها هباءً منثورا منبثا يحدد ساعتها الحتمية الفاصلة كأجل لا مفر من نزوله.. يحددها الله.. القوة المطلقة المهيمنة على كل ما في السماوات والارضين.. كل ذلك عندما تستوعب الوسائل المادية الجوفاء أصقاع الارض كلها.. فحينئذ يأمر الله سبحانه وتعالى للحرب الكونية الثالثة أن تؤدي مهامها.. وتنتهي في لحظات خاطفة كل شيء يدب في أصقاع الارض، ما فيها من إنسان، وما فيها من حيوان، وما فيها من نبات.. سواسية في لعبة الدمار والبوار الشاملة، ولم يبق منها الا الدرس والعظة لاولي الالباب. اذن.. ان ما سيحدث في مستقبل حضارة مادية.. مجردة بالكلية عن عالم الايمان والمبادئ الكبرى هو مستقبل: عاد.. وثمود.. وقارون.. وفرعون.. وهامان.. كما تنذر النتائج الوخيمة للمدينة المعاصرة.. تظن انها تحكمت في كل شيء، وأصبحت قادرة على كل شيء، ولذا تراها تنفق في يسر، وتتلذذ في يسر، وتلهو في يسر، وتبطش كذلك في استهتار، وتقترف كل كبيرة تقشعر لها الأبدان، ويرتعش لها الوجدان في يسر واطمئنان.. وهي لا تتقي غضب الله، ولا سخط المستضعفين، وتحسب ان أجلها ممدود، وان ليس وراءها حسيب ولا رقيب.. وحتى تنسى ان هنالك الذرة النووية النيوترونية هي المرتقبة للترشيح لابادة وجودها حين تتحرك الاسلحة((الستراتيجية)) من الارض والبحر والجومعاً.. أسرع من الضوء في لحظة طائشة من ليلة دامسة، وظلمة شاملة، وصمت مخيم.. فتزيل بناء الحضارة الاستكبارية الرأسمالية منها، والماركسية، ودول العالم الثالث -كذلك- سواء بسواء.. بلا حياء، ولا تحرج، بلا مبالاة، ولا شفقة آدمية.. أجل.. ان الجماعة البشرية في نهاية المطاف على شفا حفرة من السقوط الحتمي في هذه الازمنة، كمستقبل الامم والاقوام والشعوب، السالفة، لاتهم يتساقطون وبسرعة مذهلة إلى ذلك الهوان الذي وقعت به الامم والاقوام والشعوب الذين ضلوا في متاهة الامل والغرور يلوح لهم ويشغلهم بالاطماع.. حتى تجاوزوا المنطقة المأمونة.. حتى غفلوا عن الله، وعن القدر، وعن الاجل.. حتى نسوا ان هناك واجباً، وان هناك حراماً، وان هناك موتاً، وان هناك نشوراً.. وكانت نهاية حضارتهم ان دمرهم الله بمعاصيهم، وأبادهم بنفس أدواتهم الحضارية التي يمتلكونها، وفق المفاهيم القرآنية القائلة: ((وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا، وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا)) الاسراء: 16 / 17 ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)) الانعام: 123 ((وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) الانعام 129 ((وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا)) الاحزاب: 67 / 86 ((فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُورَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)) الانعام:147 ((وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ، وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)) سبأ:34/35 ((فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)) النمل:34 ((قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوأَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)) القصص:78 وفي مقابل هذه القوة التكوينية القاهرة هوا لعودة إلى الايمان، والتقوى، والعمل الصالح، وهو: الاعمق، والاشمل، والملاذ الحصين الامين، والولي القوي المتين.. الذي لا يقدم فردوس الحياة الدنيا(ولا العكس) ؛ انما يقدمها معاً في طريق واحد، وبجهد واحد، وبرباط واحد.. صلاح الحياة في هذه الارض.. ومن ثم يكون المسار إلى الاخرة فالدنيا مزرعة الاخرة، وعمارة جنة هذه الارض وسيادتها، وسيلة إلى عمارة جنة الاخرة، والخلود الازلي فيها، بشرط أن يستلم زمام القيادة السياسية الانسانية الحضارية رجال يؤمنون بشريعة الإسلام الاممية، ويشعرون بمسؤوليتهم التأريخية، ويعانون يقظة ضمائرهم.. ويسابقون الزمن في عطائهم الحركي، لأن مميزات حضارة الشريعة الاسلامية انها لا تنساق بمسار لا ينتهي على الاغلب إلى الدمار الشامل، لانها تلتحم بالقيم والمبادئ والتعاليم الكبرى -التي لا تتجبر، ولا تتكبر، ولا تطغى، ولا تتبطر، ولا تتخذ من الفتوح وسيلة للمغنم المادي، واستغلال الافراد والجماعات والبلاد، ولا تعامل الافراد والجماعات والبلاد المفتوحة معاملة الرقيق، ولا تسخر أهلها في أغراضها وأطماعها.. انما تنشر العدل الاجتماعي في كل مكان تحل به، وتساعد المتخلفين، وتدرأ عنهم العدوان دون مقابل، وتستخدم القوة التي يسرها الله في البناء والاصلاح، ودفع العدوان، واحقاق الحق- بدل الالتحام بالاشياء والارباب المتألهين الذين يزاولون خصائص الالوهية بتعبيد البشر لشريعتهم وأمرهم الطاغوتي. (1) المستدرك 2 / 423. (2) تفسير العياشي 2 / 13.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |