|
احمد الحسني البغدادي إن أهم ما تتصف به الادلة الاجتهادية من الوجهة الإسلامية عن غيرها من التشريعات السماوية، والتشريعات الارضية .. هو الالتزام بـ (الدليل العقلي) كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي في كشف المقررات والتوصيات والاحكام . وديمومة الشريعة الإسلامية ترجع إلى تكوينها العام شمولية في النظرة، وطريقة في الموازنة، وعدالة في التشريع، مرونة في النظرية والتطبيق .. انطلاقاً من ارتكازها على دليلية العقل، وبعكس الشرائع الروحية، والمذاهب الارضية .. التي لا تستوعب هذه الخاصة التشريعية بشكل عام . واذا حاولنا جاهدين أن ندرس دليلية العقل الحية .. بما تمتلك من طاقات هائلة، لما يتجدد حولها من ظروف الحياة المتغيرة، وأطوارها الاجتماعية المتطورة لم نلاحظ مجانبة عن واقع آيديولوجيا التشريع الإسلامي التكاملية . وفي ضوء هذا .. فقد خص دين الإسلام مقام دليل العقل من الرعاية والاهتمام الفوقي .. بحيث أتاح له أوفر حظ من الاستقلال الشخصي .. واعتبره حجة من الحجج التشريعية النافذة .. وقاعدة من قواعد التشريع .. أو كاشفاً عن الحكم .. ومقرراً لوجهة نظر الشريعة والدين . ودليل العقل([1][7]) وإن كان يعتبر مقررا لوجهة نظر الشارع، ومستلزماً للحكم الشرعي من وجهة نظر الاصوليين .. وعند الجانب الاخر هو : ذاته الدليل المستقل، ومن صميم واقع التشريع، وليس جزءاً مستحدثاً وغريباً على الشريعة والدين أزاء الادلة الثلاث : ((القرآن .. والسنة .. والاجماع)). وبعبارة أدق .. نرى جملة من هذه الاقوال المطروحة يستفاد منها : أن الدليل العقلي ليس دليلاً حيال القرآن والسنة، وإنما هو أصل من الاصول العملية التي تعين وظيفة الإنسان المكلف عند الشك بالحكم في مقام الجري العملي أو تكون داخلة في حجية الظهور كمبحث المفاهيم . ومهما يكن .. فأحسن من كتب في تحديد دليل العقل هو : صاحب القوانين .. حيث ذهب قائلاً : ((والمراد بالدليل العقلي هو :حكم عقلي يتوصل به إلى الحكم الشرعي، وينتقل من العلم بالحكم العقلي إلى العلم بالحكم الشرعي)) . والمقصود بـ ((الدليل العقلي المستقل)) هو ما يكتشف بذاته الحكم الشرعي من دون توقف على صدور الدليل الشرعي .. كقاعدة التحسين والتقبيح العقليين .. كإدراك العقل بحسن شيء،أو قبحه، ثم إدراكه بأنه كل ما أدرك به العقل حكم الشارع بوجوبه، أو حرمته . والمقصود بـ ((الدليل العقلي غير المستقل)) هو : عبارة عن إدراك العقل المتوقف على صدور الدليل الشرعي .. مثل : إدراك الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته .. كما يدرك العقل وجوب المقدمة عند نهوض الدليل الشرعي بوجوب ذي المقدمة . والواقع أن ما يرجع إلى المستقلات العقلية .. وخاصة قاعدة التحسين والتقبيح .. ليست لها أهمية فاعلة في مجال استنباط الاحكام التشريعية، إذ لها موارد قليلة في هيكل الفقه الإسلامي من قبيل حسن العدل وقبح الظلم . وأما المستقلات غير العقلية .. فهي : ترجع في حقيقة الامر إلى الدليل الشرعي .. فحينئذ لا يكون دليل العقل دليلاً مستقلاً حيال القرآن والسنة . أجل .. الدليل العقلي إذا كان قطعياً ومؤدياً إلى القطع بالحكم الشرعي يكون حجة، لأن القطع الطريقي حجة بنفسه وغير قابل للجعل نفياً، ولا إثباتاً . وعلى هذا المبنى لا فائدة لتقسيم الدليل إلى المستقل .. وغير المستقل، ان الحسن والقبح من الضروريات الاولية خلافاً للاوساط الاصولية والفلسفية القائلة بـ ((إن الحسن والقبح داخل تحت القضايا المشهورة)) . إن كل من قال بهذا الرأي يؤدي من حيث يريد أو لا يريد إلى نسف قاعدة التحسين والتقبيح العقليين . ولكن في الحقيقة أن الحسن والقبح من الضروريات الاولية ..وليست من قسم المشهورات .. وذلك لشهادة الوجدان، ولذا قسما من الوسط الامامي، والمعتزلي يستدلون على أن الحسن والقبح عقليان بالضرورة . وقد يقال : إنطلاقاً من أدلة الاشاعرة على حرمة مبدأ الحسن والقبح أنه: لو كان العلم بحسن العدل، وقبح الظلم .. من العناصر الضرورية الاولية .. لما وقع التفاوت بينه، وبين العلم بـ ((أن الكل أعظم من الجزء)) لأن العلوم الضرورية لا تتفاوت، ولا تختلف كذلك . وهنا .. يمكن الاجابة عند هذا القول على صعيد النقض والحل : 1) فإننا نلاحظ أن المذهب السوفسطائي شكك في البديهيات .. وهذا لا يدل بحال على عدم وجودها، بل نرى فئة الملاحدة ينكرون وجود الله سبحانه وتعالى وهو : من أجل البديهيات. 2) وهذا إنما وقع التفاوت في التصورات، لأن تصور أجزاء القضية قد يكون جلياً وواضحاً لدى الكل (كما في المثال المتقدم في فقرة الإشكال المطروح) وأخرى قد يكون خفياً .. كما لو وقع الإلتباس في تصورات أجزاء القضية، وربما يكون سبب هذا الاختلاف والتفاوت ناشئاً من جهة تقدم المدنية وتأخرها .. فإنا نرى الإنسان الحضاري يتصور أجزاء القضية والحكم عليها بسرعة مذهلة، وهذا بعكس الإنسان البدائي، فإنه لا يتصور أجزاء القضية، وذلك لقصور إدراكه العقلي، وتخلفه الفكري . 3) وعلى كل .. فإن ما ذهبوا إليه من أن الحسن والقبح من القضايا المشهورة يؤدي (على ما أرى) إلى نسف قاعدة التحسين والتقبيح العقليين . إن دور العقل ووظيفته الرسالية الاساسية أن يدرك الحكم الشرعي الصادر من الله سبحانه، والرسول الاعظم محمد (ص) .. وليس وظيفة العقل أن يكون حاكماً على نصوص القرآن والسنة من حيث الصواب، أو الخطأ .. والامتثال، أو العصيان .. بعد أن يتأكد من صحة صدورها .. وبعد أن يستهدف المقصود بها، أي : في إطار القواعد، والاصول العامة التي يتركز عليها الاستنباط . والدستور الإسلامي جعل للعقل الإنساني قيمة مركزية .. بمعنى أنه يوجهه إلى مقاييس خاصة يعود إليها بإستمرار، كلما أحاطت به الشكوك والشبهات، وأخذته التيارات والواجهات، وأثرت فيه الشهوات والمؤثرات العارضة التي تستهدف الجسم في الاعماق .. فتتغير وتتبدل تقديرات الإدراك أحياناً من نقيض إلى نقيض . هو في حاجة ملحة إلى إتخاذ المقاييس الخاصة للاجتهاد .. خشية أن يقع في سلسلة الاخطاء والمفارقات، أو خشية أن يكون أعمى مطموساً في الظلمات .. حتى يجذبه الهلاك .. لا بمعنى أنه هو الذي يحكم بحسنها، أو قبحها .. وبأمتثالها، أو عصيانها .. ومتى صدر النص من القرآن، أو السنة كان هو الحكم لا محال، وكان على العقل الإنساني أن يمتثله ويطبقه .. سواء كان يدرك مدلول حكمته الغيبية، أو لا يدركها . إن للشارع المقدس صيغاً ومنطلقات مبدئية أساسية ثابتة .. وإن مهمة أداة الإدراك الإنساني بمفهوماته بإكمالها في مجال التوجيه والممارسة والتطبيق في الحكم هي : أن يكشف من الذي يستهدفه إطار ظاهر النص، وما مدلوله الذي يقرره حسب قواعد الاصول، أو قواعد مصطلح الحديث، كذلك القرائن العامة، والاوضاع اللغوية، والنحوية، والصرفية، والبلاغة ... في الهيئات والتراكيب، وخصائص الاساليب .. وبالتالي تنتهي وظيفته (على ما أرى) بهذا القدر دون زيادة . وإن المدلولات النصية التي لا شائبة فيها من قريب، أو من بعيد .. لا تقبل الرفض بحكم من هذا الادراك الإنساني، فهذه النصوص من القرآن والسنة، والعقلاء بما هم عقلاء ليسوا سلطة مناهظة يحكمون بالحسن أو القبح .. وبالامتثال، أو العصيان .. لما جاء من القرآن الكريم، أو السنة الصحيحة . ومن خلال هذه الركيزة الاساسية .. يوجد خلط وانحراف ليس بالشيء القليل .. سواء ممن يحاولون إزالة العقل من دوره المبدئي في الإيمان بالله، وبأنبياء الله .. أو ممن يحاولون إعطاء العقل الإنساني سلطة الحكم النهائية في أمر الشريعة الإسلامية كلها، فيجعلون خصماً لشريعة الإسلام من صحة، أو بطلان الاحكام التشريعية ومقرراتها وتوصياتها الشاملة الكاملة . والحقيقة تقال : أن المقررات والتوصيات والاحكام التي يستقر من أجلها الإنسان بالتفرد والسيطرة .. بمعنى أنه وحده الحق، وما سواه باطل وزور وبهتان .. لا تصلح للتطبيق في النواحي الفردية والاجتماعية .. بما أنها متأثرة بالاطر العاطفية، والحيوانية المترعرعة في الأعماق في الحاجات الحياتية الإنسانية، وذلك : أن العاطفة والنزوة الحيوانية لا تحقق ديمومة مصالح الفرد والجماعة معاً، ولا يهمها الصالح الاجتماعي مهما كلف الامر من عواقب وأخطار، لأنها حاجات نفسية مرتجلة قائمة على أساس الاهواء والرغبات التي تتطلب الاشباع إلى أبعد الآفاق . وقد رأينا جل الجالس البرلمانية (الليبرالية) والهيئات التشريعية العالمية .. تضع القوانين والايديولوجيات لمصلحة الرأسمالية والبرجوازية والاقطاعية .. واستغلال الطبقات الكادحة بصورة غريبة وبشعة .. ولا تراعي الحسابات والاعتبارات المبدئية لصالح قوى الشعب العاملة بشرائحها المختلفة . وعند ذلك لا يبقى أي مجال للعقل . وعند ذلك تلغي كل الفوارق القائمة بين الإنسان، والحيوان البهيم، فالإسلام من حيث المبدأ، يرسم للعقل المقاييس الخاصة للنظر في هذه الاحكام والتوصيات، وفي شؤون الحياة ونظامها . فاذا أدرك أحكامها بشكل هادف .. لم يعد أمامه الا الامتثال والطاعة والاتزان، فيستحيل عليه عادة أن تضطرب له قدم، أو تخف به كفة، أو تغلب على أمره . وأما ما عدا المقاييس الخاصة .. فهي مضطربة مائجة مزعزعة مريجة .. لا ثبات لها، ولا استقرار، ولا صلابة لها، ولا احتمال .. فمن تجاوز نقطة المقاييس الخاصة للاجتهاد .. زلت قدماه في ذلك المضطرب المريج، وفقد الثبات والإستقرار والطمأنينة والقرار بالتجربة والوجدان . ومن هنا .. فالمسار الهادف المنهجي في التلقي عن القرآن، أو السنة .. هو : أن لا يواجه العقل أحكام الإسلام الرائدة بتوصيات وقرارات له سابقة عليها على أساس أنها من عمليات اجتهاداته، أو من عمليات أفكاره الضيقة، أو من عمليات اختباراته الناقصة .. إنما مسار الاستنباط الهادف أن يتلقى النصوص والروايات المعتبرة ويستنبط منها أحكامه هو .. فالنصوص حقيقة تشريعية واقعة، وأصح من مقولاته المنطقية أللاإسلامية، واستنباطها من حيث المبدأ أعمق من ذلك المسار المتطرف وأرقى وأشمل . إن الادراك العقلي ليس هو المقاومة والتوجيه والسلطان الذي يخضع له ويطاع، ليحكم بمقرراته الخاصة، مقررات شريعة السماء الخالدة . بيد أن له الحق في البحث عن العوالم المادية والابداع فيها بشتى وسائله وصنوفه، فهي موكولة إليه في حدود تجاربه وكشوفه ونظرياته (ضمن موازين التصور والتدبر والتفكير) بما أنها وجود خلافته في الارض، وبما أنه مهيأ لها بطبيعة تركيبة تكوينيه الواقعي. هذه وظيفته، وداخلة في نطاق مهامه، ولا حساب، ولا عقاب في هذا الدور .. مادام هنالك صيغ جديدة ومتطورة ومبدعة .. من المعارف والتجارب مجالها عريض للمد والجزر . وانطلاق النظر (من خلال الميزان المضبوط الثابت) موكول للعقلاء بما هم عقلاء في هذا المجال الواسع . وليس هناك حكومة تمتلك الضغط الصارم على العقول النيرة في إدراك الهدف المقصود بالنص المعتبر شرعاً، وطرق تطبيقه .. متى كان مسار النظر في حدود القواعد والاصول العامة .. والاتجاه المستقيم المنتزع من إطار توصيات الشارع القويم .. بما في هذه الكلمة من عمق وشمولية . ومعنى هذا أن الشارع المقدس يرتكز على العقل بما هو عقل من ناحية المبدأ .. ضمن إطار المقاييس الخاصة للاجتهاد، والمقاييس الخاصة كذلك لمعالجة النصوص المتضاربة من هنا ومن هناك !!.. صحيح .. أن العقل حجة من الحجج التشريعية النافذة .. ومصدر من مصادر التشريع الإسلامي، وله استقلاليته التكاملية في حسن قضية وقبح أخرى .. من خلال بعض القضايا على سبيل الموجبة الجزئية، فيما إذا فقدت من الاساس الادلة الشرعية . وصحيح (كذلك) إذا جزم الدليل العقلي بمورد .. ولم يساوره طابع الشك، أو الوهم، أو التراجع .. في رؤية الواقع من خلال رؤية تامة في ذلك، فقد كشف عن حكم الشارع الاقدس، وعليه أن يتعبد به، ويعمل على حسابه . هذا .. لو استقر الفقيه بعد الجهود المضنية المضاعفة إلى حكم من الاحكام على سبيل الجزم، كان حجة عليه قطعاً لكشفه عن حكم الشارع الحكيم . فإذا أدرك العقل وجود مصلحة، أو مفسدة في فعل من الافعال مع الاحاطة الشاملة بجميع مناطات الاحكام وملاكاته من وجود المقتضي، وفقد المانع فلا محالة يستكشف حكم الشارع من وجوب ذلك الفعل، أو حرمته بدليل لمي، أي : معرفة المعول بالعلة . إذن .. فالإسلام من صميم الإدراك العقلي .. بمعنى أنه يوجه العقل والعقلاء بقضاياه وتوصياته، والالتزام بمقاييسه وتوجيهاته، ولا يجبره بخارقة من الخوارق الكونية لا مجال له فيها، الإ الإستسلام .. مثل الذي جرت على أيد الانبياء من قبل . يوجه العقل والعقلاء .. بمعنى أنه يصحح له منهج الكلمة الحرة، ويوكل إليه إدراك الحقيقة الاساسية للعقيدة .. حقيقة أن التشريع الإسلامي من عند الله سبحانه .. وحقيقة الإيمان في النفس البشرية ليجهض عن الفطرة الإنسانية .. رواسب العادات والتقاليد الجاهلية، والمقررات اللاعقلانية المضلة للفطرة الإنسانية التي تفقد أهم مقومات الإرادة والقدرة العقلية، وهي المشحونة بالعواطف من الجانب اللاشعوري من النفس اللإنسانية .. ولا يعتبر لها أية موضوعية من الوجهة التشريعية .. ما دامت كلها ليست منبثقة انبثاقاً هادفاً من الدستور الإسلامي الذي يكفل وحده التفسير الصحيح لحقيقة الإنسان ومركزه في هذا الوجود . يوجه العقل والعقلاء .. بمعنى أنه يوكل إليه فهم فحوى النصوص التي تحمل توصياته وأحكامه التكاملية، ولا يفرض عليه أن يعتقد بما لا يستوعب مدلولها ولا يدركها . فاذا استوعب إدراك المدلولات، واستهداف استنتاج الاحكام في تشخيص الصغريات، وتطبيق الكبريات .. لم يعد أمامه الا الإمتثال والطاعة والقبول بها فهو : إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد .. ومن حقه أن يحتج أمام المولى ويكون له العذر إن أخطأ الواقع حيث لا يكلف الله نفساً إلا وسعها . أو عدم الإمتثال والطاعة والقبول بها فهو : يمضي في التيه بلا دليل، وللمولى (سبحانه) أن يحتج عليه إذا لم يعمل بمقتضى القواعد والاصول التي جعلها له، لأنها منجزة للتكليف بحقه. وليس هو حاكماً في حسنها أو في قبحها . وليس هو مكلفاً في امتثالها، أو في عصيانها . كما يرغب من يريدون أن يجعلوا من أداة هذا الإدراك البشري سلطاناً مطلقاً يختار من الآيات القرآنية، أو الروايات الإسلامية المعتبرة ما يختار، ويترك منها ما يترك، ويستصوب منها ما يستصوب، ويخطيء منها ما يخطيء . وهذا منتهى ما تصل إليه النفس من اسفاف، وموت للكلمة الإسلامية، وتجاوز لجميع الحدود التشريعية .. بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير !!.. ولكن قلوب الرساليين الحساسة المرهفة تتعبد بالنصوص، والروايات الصحيحة .. وتحسها وتقدرها، وتتوجه إليها في كل أمر، وفي كل تجاه .. في مجال التوجيه والتطبيق في الحكم، وذلك بحسابات ومؤشرات دقيقة ومدروسة من خلال القواعد والأصول والمعارف . والله تبارك وتعالى إذا قرر حقيقة رائدة عن طبيعة الكون والحياة، أو عن مصالح الفرد والجماعة .. فهذا الذي قرره الله مفروض الامتثال والتصديق والطاعة من قبل المكلفين . فإذا قرر الله حقيقة في طبيعة الكون والكائنات .. فالحق ما قرره الله تعالى .. وليس للإدراك العقلي أن يصدر حكماً في شيء من هذه الاشياء ويقول : إني لا أرى هذا في تصوراتي، أو في اختباراتي الذاتية .. فكل ما يحكم به الادراك العقلي في هذا أو ذاك .. معرض للخطأ والصواب .. والنقصان والزيادة .. بما أن معظمها أمور غيبية لا سبيل للعقل البشري أن يدركها بوسائله التجريبية الحسية المحدودة، والمقيدة بالمؤثرات النفسية، ولا مجال له أن يدرك منها اكثر مما تعطيه النصوص التشريعية بذاتها، بلا زيادة، ولا تصرف، ولا قياس، ولا رأي .. إذ ان الزيادة، والتصرف، والقياس، والرأي عمليات عقلية .. وإدراك العقل هنا في الواقع في غير ميدانه، ليس معه أدواته، لأنه لم يزود بأدوات العمل في هذا الميدان، لأن فاقد الشيء لا يعطيه .. فكيف يستطيع أن يستوعب، أو يفقه الخصائص والمؤشرات المطلقة الثابتة في هذا الوجود، أو يحكمه ويخصه بمنطقه المخلوق المحدود .. إلا من خلال خالق الكون والكائنات كلها، لأن خالق هذه الاشياء أعلم بمخلوقاته، وأدرى من غيره لهذه الموضوعات والاشياء . هذا لأن إدراك العقل ضيق ومحدود، وليس له الإحاطة الشاملة بكل المصالح والمفاسد، وليس هنالك ملازمة بين وجود المصلحة، أو المفسدة في فعل من الافعال، وبين جعل الاحكام التشريعية، إذ لعل هنالك وجود مانع من جعل الاحكام، أو مصلحة في بعض اضدادها الوجودية .. تلك المصلحة تزداد على مصلحة، أو تتكافأ معها، فقد يدرك العقل وجود الحسن والقبح في شيء، لأجل إدراك مناطه وملاكه، ولا يجعل الله سبحانه وتعالى الحكم الشرعي على طبقه، لوجود المانع، أو المزاحم الاقوى، فالله سبحانه وتعالى عن تزاحم الملاكات يجعل الاحكام التشريعية على وفق أقوى الملاكين، لو كان أحدهما أقوى، وليست هذه من وظائف الإنسان المكلف، بل يجب عليه الامتثال . ويمكن هنا طرح بعض الشواهد على هذه الاطروحة : 1 ــ نجد الشارع المقدس لم يصدر الاحكام التشريعية (كوجوب الزكاة .. وحرمة الخمر .. والربا ..) في بداية الرسالة الإسلامية دفعة واحدة، بل كانت بصورة تدريجية لعدم استعداد الإنسان المسلم لقبولها، أو من جهة لتسيير الامر عليه وتسهيله .. أو لئلا تحدث على الساحة الإسلامية إنحرافات عقائدية، أو كوارث اجتماعية، أو اضطرابات فكرية، أو أمراض نفسية . 2 ــ بعض موارد الاحكام الإرشادية .. كوجوب طاعة الأوامر والنواهي التشريعية .. فإن وصف الطاعة، ووصف المعصية من الاحكام العقلية التي يحكم بحسن الأول منها وقبح الثاني، مع أنه لا وجوب شرعي فيهما، وذلك لاقتضاء محذور التسلسل الممتنع عقلاً . فالعقل يدرك حسن الطاعة، وقبح المعصية لإدراك ملاكهما، ولا يحكم الشارع بوجوب الطاعة وحرمة المعصية، لأجل وجود تالمانع، وهو: التسلسل . وعلى أية حال .. فالعقل ليس له القابلية لإدراك الاحكام التشريعية، لانه لا يستوعب جميع جهات الحكم، وهذا هو القدر المتيقن من قوله (عليه السلام) (إن دين الله لا يصاب بالعقول) ([1][7] ) ولأجل أن تعرف المسألة في معالمها الاستدلالية المعمقة أقرأ فصل ((الاجماع والعقل)) في كتاب ((بحوث في الاجتهاد)) الطبعة الثانية ـ دار المرتضى (بيروت) ـ 1994 .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |