لا مفر من الإشارة الى الشعب عند الحديث عن القيادة لما بينهما من علاقة جدلية وفلسفة إجتماعية تاريخية عريقة . فلا الشعب من دون قيادة شعب قوة ولا القيادة من دون تواصل مع شعب حي رمز وإنتصار.

القيادة ولادة والشعوب صناعة، هذا هو الفرق. فليس هناك شعب يولد متحضرا وآخر رعاع وشعب يقود وآخر يقاد ، وإنما القيادة هي التي تصنعه وتفتح الأبواب وتأمره بإقتحام الميادين ويرفع راية الفتح والنصر هناك ، فهو صناعتها. ثمة أعداد ليست بالقليل من الناس يمتازون بالمواهب مبكرا ، والمواهب شتى ، والقليل منهم من يجعلون خدمة الشعوب أهدافهم ، يتجردون من أجلها عن الأنا بنكران ذاتهم فتهون عندهم الصعاب والمشاق. وواحد من هؤلاء القلة القلة اللذين أقاموا للتاريخ جناحه المضئ وبنوا له بنيانه وقدموا لشعبهم تحف العقول والإرادة والعمل . هو ذلك المخزون الضخم من تطلعات الشعوب المستضعفة التي تجسدت في عزيمته وتلك الرؤية التي ترصدت إمتدادات التاريخ وتنبأت في أعماق فضاء المستقبل فوجد من بين مفاصلها الآتي أمامه ما هو الخطر الماحق لكرامة شعبه . وكأن الزمن والقدر كانا يخبئانه ليومه فشمّر له بكل قوة فقضى عليه. إنه الخميني روح الله الموسوي . ذلك الخزين العملاق من شحنات التاريخ وقطبية الإسلام وتطلعات شعبه تحولت في لحظة مناسبة الى شرارة وثورة أزالت الخطر الماحق وفتحت الأبواب لشعبه فأقتحم المواقع التي كانت ممنوعة الإقتراب منها.

هل كان الإمام الخميني حالة عابرة صنعتها ظروفه المحلية أم ولادة نادرة أطلقته سنن التاريخ في الوقت المناسب؟  الحديث عن الإمام الخميني نافذة إلى عالم جديد ، عالم يغري النظر ويملأ العين ويروي النفوس الهيام. قد يبدوا للبعض ممن يقرأ التاريخ مقطعا أن يرى حركة الإمام الخميني صراعا بدأ بين الخطاب الثوري للإمام وبندقية الشاه في المدرسة الفيضية بقم تعاظم الى عداء سافر عسكر كل طرف جهوده المتواصلة وإنتهى بمواجهات حسمت بغلبة للإمام الخميني أزاح بها الشاه الى غير رجعة وغيّر النظام. لا شك أن الرؤية هذه من السذاجة والسطحية بمكان ما لا إعتبار لها في التفسير والبيان. فمعرفة الإمام الخميني تستلزم رؤية تواصلية مع حلقات التاريخ وعقدها وعلاقاتها المتداخلة وعلى أساسها رفض الإمام كل أنصاف الحلول التي طرحت كمعالجات توافقية بينه وبين الشاه وبختيار من بعده وواصل الحركة والتحدي. بهذه الرؤية يمكننا الإحاطة بمعرفة صائبة عن حركة الإمام ومنطلقاتها الفكرية ومناهجها وأسباب نجاحها، ومن خلالها (التواصلية والربط) يمكننا تفسير الكثير من الأحداث التاريخية الكبيرة ولماذا وكيف سقطت روما وأعاد بسمارك المجد الألماني وقتل الإمام المعصوم الحسين إبن علي (ع) في كربلاء رغم كونه إبن بنت رسول الله (ص) ونموذج الإمام الخميني الأمثل في الحركة والأهداف والسلوك .

 كانت العلاقات الدولية بعد إنتصار دول الحلف في الحرب العالمية الأولى وأثناء الحرب الباردة تتجه إلى سيطرة القطب الغربي من دول الحلف على مصادر الطاقة في البلدان الإسلامية بشكل خاص . لما لهم من مخزون إحتياطي ضخم وما يشكلونها من أسواق كبيرة لمنتجاتهم . وبعد تأسيس منظمة الأمم المتحدة في عام 1948 حيث كانت باكورة أعمالها في سنة التأسيس الإعتراف بإسرائيل كدولة قومية لليهود في فلسطين. فتحول الشرق الإسلامي من خلال هذه الأهداف والبؤر المختلقة إلى صدارة أولويات عمل الحكومتين الأمريكية والبريطانية بالخصوص . فكانت إيران والمنطقة النفطية بالخصوص ساحة لمخططاتهم . وقد تعاظمت خطورتها على إيران إلى درجة كبيرة كادت أن تشكل مرحلة إستحضار لروحها وحياتها الكريمة وأصالتها . وحين وافق الشاه على إتفاقية مع الأمريكين منح بموجبها الحصانة للرعايا الأمريكيين وممتلكاتهم من أي ملاحقة أو تعقيب قضائي من المحاكم الإيرانية.

إنها السياسة الأمريكية القديمة الجديدة التي يراد اليوم تنفيذها في العراق عبر ما يسمى بالإتفاقية الأمنية والحقيقة هي أنها خلاصة كل الأهداف التي حركت الآلة العسكرية الأمريكية لإحتلال العراق ونتيجتها إستعباد الشعب العراقي ومصادرة كرامته وخيراته وقد إطلع الجميع على خلفياتها واللعب السياسية في تمريرها وتبريرها .

لقد أدرك الإمام الخميني حجم الخطورة التي ستصادر كرامة إيران وشعبها فعلا، فأعلنها خطابا بعزيمة من حديد ، عزيمة قلب المؤمن، فقال تعليقا على منح الحصانة للأمريكيين ببلاغ ناقد ساخر ثوري كان فصل الخطاب( لو أن كلبا أمريكيا عض شاه إيران في طهران فلا يحق للقضاء الإيراني أن يلاحق الكلب الأمريكي لحصانته وإن عض الشاه كلبهم فللكلب حق مقاضاة الشاه في محاكم إيران وخارجها) أعقبت هذا الخطاب أحداث ومواجهات وتضحيات عرفت حسب التسمية الإيرانية للشهور بأحداث ( 15 خرداد) جرى بعدها نفي الإمام الخميني الى تركيا، إنتقل الإمام منها إلى النجف الأشرف ليستمر من هناك في حركته ولقاءاته مع جماهيره في إيران. يضع الخطط والبرامج، يبني على أساسها تصوراته في بناء المستقبل حجرا على حجر، يضع اللمسات هنا وهناك وكأنه ذلك الفنان الماهر قد مسك ريشته بمهارة الطبيعة فكلما رسم خطا ونقطة في لوحته إرتمت الطبيعة في حضن الربيع فكساها حلته.

كانت النقطة الأخيرة من الصورة في إستشهاد ولده السيد مصطفى رحمة الله عليه، كانت بلاغا عن كمال الصورة وتمام النموذج المرسوم، حيث إنطلقت حركة الشارع الإيراني تموج في بحر متلاطم من البشر من الرجال والنساء والشيب والشبان من كل الشعب بملايينه التي نزلت الى الشارع وقاطعت النظام الشاهنشاهي. فقدمت نموذجا فريدا من جمال الصورة والحركة والإبداع في ترجمة النموذج والأهداف على الواقع جذبت مشاعر العالم إليها ونحتت في ذاكرة العالم والتاريخ صورة عن إيران الثورة الإسلامية والشعب الناهض والقائد الخميني عناوين رموز عالمية طالما عبّرت الصحافة العالمية ووصفت تناسقها وحركتها الدرامية الرتيبة بالمعجزة وإنعكست آثارها وواقعها محكا للسياسات والمعادلات الدولية.

إصرار وتحد وصمود وثقة بالله والشعب لا حد لها، وذكاء عرف كيف يوظف كل شيء من أجل المعركة والإنتصار دون أن يتنازل حجم خردل من قيم رسالته وكبرياء شعبه وتاريخه، ففرض على العلاقات الدولية تصوراته كأمر واقع ووظف الإعلام الدولي أيما توظيف لخدمة أهدافه دون أن يدفع لصحفي أو صحيفة سنتا بل كان كبار السياسين وشيوخ الصحافة يتسابقون الى حظوة لقاء معه يكون جزءا من مذكراتهم .

 لقد كانت رسالة الإمام الخميني لشعبه والعالم واضحة وهو عنصر قوته وقد أجاد الشعب فهمها من إشاراته الحكيمة، ولطالما وجدناهم ينفجرون بالبكاء قبل أن ينطق الإمام خطابه أو يلوح اليهم بيده. كان الإمام يعيش في وجدان الشعب الإيراني قبل أن يمثل الإمام موقعه القيادي في ظل دولته الثورية فعلا .

كانت شخصيته هي المحور والمرتكز في حركة الأمة. وحين أزفت الساعة وإنطلقت الثورة ترسم للعالم صورة الشعب وأهدافه كان الإمام هو الأب والقائد للثورة والشعب.

كان الشعب الإيراني على درجة كافية من المعرفة والوعي لحجم الخطورة والمنقذ، فإستعد للموقف بشجاعة . لقد تبادل الإمام الثقة والحوار والتفاهم والإحترام مع شعبه فجمع له الشعب كل وجوده وما ملك ووضعه رهن إشارته فتحقق لهم الإنتصار.

وكم حري بنا ونحن نجتمع في ذكرى رحيل الإمام الخميني أن نستلهم منه الدروس والعبر، أن نستذكر تجربته وكيف تمكن وبنى وحقق ما حقق.

نعم نحن اليوم نعيش فترة عهده الستيني وبدرجة أشد وأخطر، حيث النسخة الأمريكية تعاد في ظل إحتلال حاقد بغيض وتحقير بالغ وقيود أقلها شرعنة الإحتلال وإطلاق يده في مقدراتنا وتذليل كل ما هو عزيز علينا من تاريخ وحاضر ومستقبل. إن البرلمانيين اللذين سمعوا وأصغوا وشاهدوا شهود العيان يوميا كيف تستشمهم حواس الكلاب الأمريكية كل يوم حال دخولهم وخروجهم من المنطقة الخضراء في بغداد ولا تسلم أجسامهم من مسحة يد مرتزقتهم الجنود حتى وإن كان وزيرا أو رئيس. والنواب هم أدرى بالحقارة هذه وحجمها وهم المؤمل أن يوقعوا على الإتفاقية وربما لأجلها طلبوا المزيد فمنحوا أنفسهم في جلستهم التشريعية قبل أسبوع زيادة في رواتبهم بمقدار 3 ملايين دينار. وقد أكون على صواب حين قلت لصديق معلقا على الإضافات الأخيرة بأن السارق المعروف يعتبر شريفا مقارنة مع النواب اللذين نشهد سلوكياتهم لأنه بذل الجهود وتحمل المخاطرة على حياته وتستر على سمعته من التشهير فلبس القناع وإستعان من ظلمة الليل رداءا بينما النواب محميون رسميا ولهم الحصانة وفوق هذا وذاك يمتازون برواتب من عشرات الملايين يضاف لهم بين فترة وأخرى منح بعشرات الملايين وربما قروض تحول الى منح كما طلب ثم يضاف الى رواتبهم الملايين الثلاثة ومعظمهم في غياب من حضور الجلسات والوظيفة فضلا عن إتهامات مؤكدة بإشتراك بعضهم في الإرهاب وقتل العراقيين حيث طلبت المحكمة الجنائية رفع الحصانة عن عدد منهم لإعتقالهم أو التحقيق معهم ولكن الطلب خضع للسياقات المعروفة الجارية في العراق فأهمل وهكذا حين يكون الشعب يمتطى ولا يجمعه جامع، ولكن إسمحوا لي أن أترك شأن العراق السياسي الى حواراتنا الجانبية لأنه يدعوا الى الغثيان والتقزز لأنتقل في الخاتمة إلى الإمام الخميني صاحب الذكرى اللذي إستقبله شعبه في طهران بخمسة ملايين وودعه بخمسة عشر مليون فمرحا بهذه العلاقة والثقة والشعب والقيادة .

نعم هكذا تصنع الأمجاد ويفتخر بالقادة .

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com