د. زهير المخ/كاتب وأكاديمي عراقي

 zmuch@hotmail.com

هناك مقولة عراقية مفادها أن الراغب في دفع الأوضاع إلى حرب أهلية لم ينجح، لكنه مستمر في محاولاته. وتنطوي هذه المقولة على قدر كبير من الصحة، وإن كانت لا تدفع المرء إلى التفاؤل. فالحرب سواء أكانت امتداداً للسياسة، حسب العسكري الألماني كارل فون كلاوزفتز، أو كانت السياسة امتداداً لها، حسب المفكر الفرنسي ميشيل فوكو، هي تعبير مكثف عن بلوغ صراع القوى، وما تمثل، من أجل تحقيق الحدود القصوى من مصالحها درجة استعصاء التسوية السياسية؛ إذ أن بلوغ الحد الأعلى من المصالح لكل فئة أو تطلبه يفضي إلى تصادمها للندرة، أولاً، وللامحدودية الحد الأعلى، ثانيا، فتكون الحرب. في حين أن القبول بالحد الأدنى مفضٍ إلى التسوية المؤقتة أو المكوث فيها، أي ممارسة السياسة.

وتستخدم الجماعات العراقية، سواء كانت إثنية أو مذهبية، الإيديولوجية كأحد الأسلحة في الحرب كما في السياسة، وهي ذات وظيفتين: وظيفة التحشّد والتعبئة من أجل تعزيز لحمة الجماعة ووحدتها وبالتالي قوتها، ووظيفة التمويه من أجل طمس الهدف الحقيقي للحرب أو للسياسة من جهة، وإيهام الجماعات الأخرى، وبخاصة جمهورها، بصواب صراعها للجميع من جهة أخرى.

فالأخطار المحدقة بهذا البلد لا تقتصر على حرب أهلية فحسب، بل هناك أيضاً الحرب المفتوحة التي يلوّح بها مقتدى الصدر، وفي مقابلها ثمة استعدادات إقليمية في انتظار فرصة للانقضاض على ما يتجاوز العراق. أما النشاط السياسيّ للحكومة العتيدة فلا يزال يتّسم بالموسميّة بحيث تترافق التعبئة مع مناسبات بعينها وتسترخي مع استرخاء المناسبات. ولأن القادة العراقيين يمتهنون الأشكال التقليديّة والبائدة في العمل السياسيّ، والدائرة حول استنهاض الطوائف والجماعات في المواسم الانتخابيّة، فقد استعيض بجهود فولكلوريّة الطابع عن تطوير خطاب متماسك ومُصرّ على إغراء كتل عريضة للانخراط في الانتخابات المحلية المتوقع حصولها في أكتوبر المقبل.

والراهن أن الافتقار إلى لغة سياسيّة تجيب عن هذه المسائل، أو تباشر التفكير في الإجابة، مسلّحةً جمهورها بوعي جديد وبما يتفرّع عنه من حجج، هو ما يفسّر الاسترخاء الشعبيّ ومشاعر اللاجدوى كما يفسّر، في المقابل، الزجل والسجع اللذين يهيمنان على مناسبات الطيف الحكومي، فضلاً عن المديح الرخيص للقادة السياسيين مما تعجّ به المهرجانات الكبرى.

إلا أن ثمة ما هو مسكوت عنه خلف القناعة بأن البلاد ما زالت في منأى عن حرب أهلية. انه الخوف الذي يعتري أطراف الطيف العراقي التي من المفترض أن تشكل رأس حربة هذه الحرب المفترضة، أو التي تدفع بها الجهات الإقليمية الراغبة في استمرار الحرب باتجاه أهدافها المنشودة. وتنطلق المقولة أعلاه من افتراض أن "التيار الصدري" غير راغب في الانجرار إلى حرب أهلية، فهو لم يعد مطلق اليد في قرار من هذا الوزن.

إذاً الهامش الذي يتحرك فيه ذلك الراغب في دفع البلاد إلى حرب أهلية ضيق، على رغم انه هامش يتيح له إحداث قلاقل واضطرابات قد يصعب ضبطها. فهل يعني القول إن التيار الصدري يقاوم محاولات دفعه إلى هذه الحرب. والسيناريوهات التي يتداولها العراقيون لجولات من الاضطرابات الأمنية من دون إسهام فعلي للتيار الصدري، تفضي كلها إلى انكفاء سريع لأطرافها. بيد أن ما هو مؤكد أن ثمة أطرافاً تستعد لجولات من الاضطرابات: مجموعات في بغداد والبصرة تسلحت في مقابل أكثرية لا ينقصها السلاح أصلاً. وما زلنا طبعاً في الهامش، إذ أن ثمة إجماعاً على أن هذه القوى تحدث اضطراباً ولا تصنع حرباً.

أما القوى السنية فالتفكير عندما تُستحضر يتركز على الحزب الإسلامي، لكن الأخير يبدو حاجزاً هشاً في وجه عسكرة الطائفة السنية في مثلثها. فهذه الأخيرة تلح عليه بضرورة الاستعداد لاحتمالات الحرب، في حين يشعر الحزب أن العسكرة تعني تجاوزه إلى ما هو راديكالي أكثر، إذ أن درجة الاحتقان في الوسط السني بلغت مبلغاً راح معه قادة في الحزب الإسلامي يطلقون مخاوف من زحف الخيارات الراديكالية إلى منطقة نفوذهم.

"الصحوات" هي الفريق السني الذي يُفكر به في سياق توقع اشتعال جولات من الاضطراب الأمني. هذه الصحوات التي انبثقت من ميليشيات كانت شديدة التنظيم والفتك، وهي على رغم الحملات الأمنية التي تعرضت لها خلال أكثر من ثلاثة أعوام بقيت محافظة على بنية تنظيمية تتيح لها التحول من هيكل سياسي إلى قوة في الشارع. الأسباب كثيرة، منها ما يتعلق بهوية هذه الصحوات وبطبيعة قواعدها وبمناطق نفوذها، ومنها ما يتعلق بنوع المخاوف التي تثيرها في أوساطها احتمالات استئناف جولات قتالية جديدة. وتحرك الصحوات في السنتين الفائتتين بقي محكوماً بمعادلة قرار بعدم الانجرار إلى حرب مفتوحة مع الجماعات المسلحة الأخرى، وبميل قيادة هذه الصحوات وقاعدتها إلى استعمال الطاقة التنظيمية كقوة رادعة.

مناسبة استعراض هذه اللوحة من المواقف والقناعات الضمنية، هي استعداد العراقيين للسيناريوهات الوشيكة التي يستعرضها هؤلاء من مختلف توجهاتهم في ظل صعوبة دفع الأوضاع باتجاه حرب أهلية شاملة، تتعلق باضطرابات "موضعية" في مناطق ما تزال توصف بـ "الساخنة"، وباستئناف مسلسل الصدامات مع المجاميع المسلحة، مع تحديد قد لا يكون دقيقاً لهوية المستهدفين، وهي تكشف أيضاً عن الصعوبة التي تواجهها الأطراف الدافعة باتجاه إشعال حرب أهلية، إذ أن ثمة فارقاً جوهرياً بين زمن الحرب المذهبية التي اشتعل أوارها في 2006 وزمن الاضطراب الراهن. في تلك السنة شابت مشاعر الذاهبين إلى الحرب حماسة ورغبة، أما اليوم فالخوف يخيم على الأدوات الرئيسة المحلية للحرب المحتملة. والخوف ليس ضمانة، بل على العكس، ربما كان سبباً، وهي وغيرها هذيانات كثيرة تراود معشر العراقيين. 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com