دكتور حسام الديري

ahrarsyria@yahoo.com

في مقال سابق وتحت عنوان ( المواطنة والوطن ) قلنا : لعل من بين الإشكاليات التي لم تستطع التجارب الحديثة حلها هي إشكالية مبدأ المواطنة وتضمينها في الإطار الدستوري للدولة ، وهي إشكالية بنيوية في العمق أكثر من كونها إشكالية مصطلح . ذلك أن موضوع المواطنة يعتبر من المواضيع المهمة في التاريخ السياسي والاجتماعي ، وأساساً مهماً في البناء الدستوري والسياسي لأي دولة كانت . وتميزت المرحلة السابقة من تاريخ سورية السياسي بصورة تبدو للعيان أكثر قتامة وضبابية ، امتزجت فيها عوامل غياب الوعي التاريخي والاجتماعي المتمثلة بعوامل الاصالة والحداثة والمواطنة والديمقراطية ومفاهيم المجتمع المدني التي تلعب دوراً رئيسياً في إنضاج وترسيخ الشعور بأهمية المواطنة .

فالدولة كظاهرة اجتماعية لا يمكن أن تنتج وتقوم ببناء مقوماتها وأسس نهضتها إلا على أساس مبدأ المواطنة والوطنية المجسدة للفاعلية الإنسانية التاريخية ، ذلك أن المواطنة تعتبر جوهر التفاعلات التي ينتجها المجتمع ومكوناً أساسياً من مكونات الدولة بصيغتها المدنية المعبرة عن انصهار وتفاعل جميع تكويناتها الداخلية.

ومبدأ المواطنة  يعني العلاقة  بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة ، وبما تتضمنه تلك العلاقة من حقوق وواجبات في تلك الدولة ويندرج ضمن هذا المفهوم ، الحرية وما يصاحبها من مسؤوليات ، فالمواطنة  تضفي على المواطن حقوقاً سياسية وأخرى قانونية واجتماعية واقتصادية وثقافية...الخ. 

المجتمعات العربية والكردية ، وبحكم خضوعها للاستعمار الغربي لمراحل وأزمنة عدة ، تعتبر أية مفاهيم أو مصطلحات خارجية هي من قبيل مخلفات الاستعمار فلا ينبغي الأخذ بها ، وأن المطالبة بها يدخل في باب الغزو الثقافي والفكري الغربي ، وهذه هي أساس المشكلة وجوهر الخلفية الثقافية التي تعاني منها هذه المجتمعات.

ففي سوريا ومنذ بزوغ فجر الإستقلال في 17 نيسان من العام  1946 والذي تحقق بعد مسيرة طويلة من النضال والثورات التي امتدت على امتداد خارطة البلاد . وشارك فيها جميع أبناء الوطن بكل أطيافهم ، متوحدين في النضال تحت راية واحده لنيل الحرية والاستقلال لسوريا . في الوقت الذي كان يعتز ويفتخر المواطن السوري بولاءه للوطن سوريا ، حيث تلاحمت قوى المجتمع السوري ، المسلم والمسيحي والدرزي ، العربي والكردي  والآشوري ، كلهم هتف وتحت راية الإستقلال ، لا للإستعمار نعم لحرية واستقلال سوريا ، في وقت كان الجميع يتفاخرون بالأنتساب للوطن ، والكل كانوا مستعدين للدفاع عن صون وكرامة الوطن ، وما زال التاريخ يستذكر الشهداء الأبطال الذين قدموا أرواحهم فداءً لتراب الوطن ، وها هو الشهيد الفخر يوسف العظمى الكردي المولد ، السوري الإنتماء الذي قاد الجيش السوري لصد قوات الجنرال غورو الغازية ، وأبا أن يسلم سوريا له دون قتال ، رغم معرفته بأن قدرات الحيش السوري محدودة أمام تفوق الجيش الفرنسي ، لخير دليل وبرهان أكيد على أن الإنتماء للوطن أسمى وأنبل ما يفتخر به الإنسان .  وقبل الشهيد يوسف العظمى لا بد لنا من أن نستذكر القائد المسلم البطل صلاح الدين الأيوبي ، فهو كردي المولد ، مسلم العقيدة ، قاد جيوش جرارة لتحرير بيت المقدس ، والعظماء ممن قدموا أرواحهم للدفاع عن أوطانهم كثر ، لذا نود من خلال هذه الأمثلة التأكيد على أن الولاء والإنتماء للوطن أسمى من الأنتماء للطائفة والعشيرة والمذهب والقومية .

 يتكون المجتمع السوري من مزيج وخليط من طوائف وقوميات ، ومذاهب مختلفة ، وحتى بداية الخمسينيات كان هذا المزيج والخليط متجانس ومنصهر في بوتقة واحدة ، جميعهم متساون في الحقوق والواجبات ، الجميع وكما ذكرنا كانوا يتفاخرون بأنتماءهم لسوريا الوطن ، ولو استعرضنا رجالات سوريه في القرن الماضي ممن تبؤوا موقع القرار السوري لرأينا منهم المغربي والليبي والكردي والفلسطيني واللبناني ، المسلم والمسيحي ، العربي والكردي ، الدمشقي والحلبي ، الحمصي والحوراني ، حتى جاء حزب البعث وبدلاً من أن يكرس الديمقراطية والعدالة والحرية والمساواة ، كرس النهج الطائفي والمذهبي ، ومزق النسيج الإجتماعي القوي ، وفرق الشعب السوري على أسس قومية وطائفية ومذهبية ، مما أفقد الدولة السورية وكيانها ، مصداقيتها وجعلها فريسة سهلة للطائفيين والشعوبيين ، وهذا ما دفع حافظ أسد وصلاح جديد وسليم حاطوم للتأمر على قيادة الحزب بحجة الأنحراف عن نهجه ، والكل يعرف النهج الطائفي لقادة الإنقلاب ، وما زال نهجهم الطائفي والشعوبي مسيطر على الحياة العامة في سوريا حتى يومنا هذا ، وتحولت سوريا بظل نظام آل الأسد من جمهورية عربية سورية ، الى مملكة أسدية طائفية بغيضة ، مملكة يسودها الفقر والجهل وأنعدام الحراك السياسي ، وفقدان هامش الديمقراطية التي كان ينعم بها المواطن السوري ، ولكننا وأمام هذا النهج الطائفي لا يمكن أن نقبل بان يكون النهج القومي والمذهبي بديلاً عن النهج الطائفي الذي كرسة نظام آل الأسد منذ أربعة عقود ونيف .

وبعد التاسع من نيسان عام 2003 وسقوط بغداد عاصمة الرشيد بيد قوى الإحتلال ، وتكريس مبدأ الطائفية والمحاصصة وتقاسم العراق وتقطيع أوصاله الى مناطق وأقاليم ، تعالت الصيحات من بعض الكتاب والسياسيين الكرد السوريين ، منادين  بتطبيق التجربة العراقية ، على أساس أنها وكما أدعى الإحتلال ، النموذج الديمقراطي الذي من المفترض أن يحتذى به في بلدان عربية أخري ، ومن خلال أشرافي على تحرير موقع أحرار سوريا أتيحت لي الفرصة  الإطلاع على معظم ما يدور ويجول في خلد العديد من الكتاب العرب والسوريين ، الطائفيون منهم والوطنيون ، ودعاة النهج القومي سواء كانوا اكراد أم عرب ، والكثير من كتاباتهم تنم عن نهج طائفي قومي ، يدعوا الى تكريس مبدأ الطائفية والقومية ، وعلى سبيل المثال أن بعض القوى الكردية تطالب المعارضة السورية بالإعتراف بغرب كردستان ، والبعض منهم يطالب بفدرالية كردية ، كما وتعالت الصيحات من بعض غلات الطائفية والمنادين بضمانات للطائفة العلوية في حال تغير نظام آل الأسد الدكتاتوري الدموي ، وكأن المعارضة السورية لا هم لها سوى توزيع سوريا على أسس طائفية وقومية ، وهذا الطرح والنهج الطائفي وأخر قومي أضعف بل ومزق المعارضة السورية وأفقدها مصداقيتها أمام العالم والشعب السوري ، وهذا ما قدم خدمة لم يكن النظام يحلم بها . ونود ومن خلال هذه المداخلة المتواضعة ان نذكر الجميع ، الطائفي والقومي والمذهبي أن هدف المعارضة السورية في الداخل والشتات يجب أن ينصب على تخليص سوريا من نظامها الطائفي الدكتاتوري ، وبناء الدولة المدنية الديمقراطية ، دولة القانون ، الجميع متساون في الحقوق والواجبات ، كما ونود أن نذكر ممن يطالبون بحقوق الطائفة أو القومية أن يتذكروا بأن الولاء لسويا أرضاً وشعباً أسمى من الولاء للطائفة أو المذهب أو القومية عربية كانت أم كردية ، ولايمكن للعربي السوري أو الكردي السوري أن يكون قوياً بمعزل عن هويته السورية ، ونود أن نسأل المنادين بحقوق الشعب الكردي في سوريا ، والمنادين بغرب كردستان ، هل أنتم سوريين أم أكراد ؟ وأيهما أنفع لكم العيش كأكراد ، أم كسوريين أكراد؟ والفرق بين الحالتين كبير ، في الوقت الذي  أكدنا ونؤكد أن الكثير من الأخوة الكرد قد تعرضوا للإضطهاد على يد النظام الطائفي ، نظام آل الأسد ، ولا ننسى أن الكثير منهم قد حرم من حقوقه المدنية ، ولكن بنفس الوقت نود أن نذكر المنادين بتمزيق كيان ووصال الدولة السورية أن أخوانهم العرب  في حلب وحماة وإدلب ودرعا ودير الزور والحسكة والقامشلي وباقي المدن السورية قد تعرضوا لأبشع أنواع القهر والذل والمهان على يد نظام آل الأسد الدموي ، ولا يمكن لأحد منا أن ينسى المجازر الوحشية التي اقترفها النظام بحق أبناء مدينة أبو الفداء حماة ، ولا يمكن لآحد أن ينسى مجزرة سجن تدمر والتي راح ضحيتها آلاف الأبرياء من خيرة كوادر سوريا العلمية ، وسجون نظام آل الأسد تعج بمئات المساجين ، وهم من مختلف المدن والقرى السورية ومختلف القوميات والطوائف والمذاهب . اذاً بطش نظام آل الأسد لا يستثني أحداً ، وبالنسبة لنهج  نظام آل الأسد فهو ، لا فرق بين عربي وكردي ، مسلم ومسيحي الا بمقدار درجة الولاء للنظام ، وفي الوقت الذي يسعى به البعض من غلات الطائفية والقومجيين ، ويشغلون أنفسهم يتقطيع وصال سوريا ، وتقاسم المناصب فيما بينهم ، لا يسعنا الا أن نقول لهم أن هناك الكثر من الشرفاء من أبناء سوريا مؤمنين بوحدة تراب سوريا ، مناضلين من أجل الإطاحة بالنظام الدكتاتوري ، عازمين على بناء دولة عصرية ، تسودها العدالة والمساواة بين أبناء الشعب السوري ، ولا فرق بين عربي وكردي ، مسيحي ومسلم ، درزي وعلوي ، الكل متساون أمام القانون ، الكل لهم نفس الحقوق ، والكل عليهم نفس الواجبات ، وسوريا الموحدة أولاً وأخيراً .

وفي هذه المرحلة العصيبة والحاسمة من تاريخ بلدنا سوريا ، لا بد أن يصار إلى تسمية الأشياء بمسمياتها ، وأن نكاشف أنفسنا وشعبنا السوري بحقيقة الأخطار المحدقة به. وسوريا اليوم أمام خطر حقيقي داهم . والشهور، بل ربما الأيام القادمة حبلى بالأعاصير والبراكين . نتيجة السياسة الرعناء لنظام آل الأسد والتي أوصلت سوريا الوطن والشعب لعزلة أقليمية ودولية لا يحسد عليها ، كما وأن سياسة أستجداء المواقف التي يمارسها نظام آل الأسد من خلال مباحثات الأستسلام مع إسرائيل ومغازلة الغرب والولايات المتحدة ، وبعد أن تنازل وبشكل نهائي عن لواء اسكندرون لتركيا ، وربما التنازل عن بعض أجزاء من الجولان  لخير دليل على حالة الضعف التي يعاني منها النظام ، وأمام هذه الحالة المأساوية والضبابية التي يمر بها الوطن ،  يتطلب منا الواجب الوطني نبذ جميع الخلافات وتوحيد المواقف ورص الصفوف لتحرير سوريا وشعبها الأبي من نظامها الطائفي الشعوبي ، وبناء الدولة العصرية ، ونطالب الجميع التوحد تحت راية سوريا اولاً وسوريا للجميع ، لا للنزعات الطائفية ، ولا للنزعات القومية ولا للنزعات المذهبية ،  من أجل تفويت الفرصة على الذين يضمرون الشر لهذا الوطن وأهله. واستنفار روح الإنتماء والهوية واستحضار المحفز من التاريخ ومختلف مقاومات الأمة وحيلها الدفاعية في نفس كل فرد. وصولا إلى الإرتقاء بمفهوم الوحدة الوطنية إلى مستوى الإنصهار والتوحد.

وإننا على يقين ، من أن تمتين  وترسيخ الوحدة الوطنية بين أبناء الوطن الواحد يتطلب التسليم بمفهوم المواطنة ، بما يعنيه هذا المفهوم في المجتمعات المدنية المتحضرة والتي سبقتنا في هذا المجال، تتحقق فيه المساواة بين البشر، وينال فيه الفرد موقعه الإجتماعي ووظيفته عن طريق كفاءته وقدراته ونزاهته ، وليس عن طريق موقعه في السلم المناطقي والعشائري والطائفي والقومي . لا بد من تأسيس مفهوم جديد للمواطنة يقوم على أساس استكمال بناء مؤسسات المجتمع المدني، والإعتراف بأهمية دور الفرد ، واحترام الرأي والرأي الآخر . وأن يصار إلى ترسيخ قيم التسامح والتكافؤ والتكافل بين الجميع . كما وأن  تأسيس مبدأ المواطنة السورية  سوف يسهم في إنضاج النخب الفردية سعياً إلى تأكيد وتعزيز الحقوق الفردية والجماعية للأفراد والجماعات في دستور يحترم هذه الأفكار ويعمل على تنميتها ، فأننا نتطلع وفي نفس المسار إلى تأكيد الهوية الوطنية التي تعتبر الرابطة الوثقى والمحددة لشكل وعلاقة الدولة بالمواطن ذلك أن حقوق المواطنة اليوم أصبحت حاجة ملحة وماسة في جميع شعوب العالم ومرتبطة أو منبثقة من الحصول على جنسية البلد الذي ينتمي إليه. وهكذا فإننا حين ندعو إلى حركة تجديد شاملة في مفاهيمنا، تشمل مفهوم المواطنة والوحدة الوطنية فإننا لا نعمل ذلك تحت ضغط من أحد ، بل نتجانس مع نواميس الكون وقوانين التطور . مستلهمين ذلك من موروثنا الخالد وسيرة أجدادنا العظام، والواجب الوطني الملح في هذه المرحلة من تاريخ سوريا .

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com