د. حامد العطية

hsatiyyah@hotmail.com

في زمن الفوانيس واللمبات، وقبل أن ينصب المرحوم عواد مذياعه في مقهاه على شاطيء النهر، لم تكن هنالك سينما الحاج حسين، ولا السينما الجوالة، كانت طرق المدينة ترابية، لم تطأها بعد سوى شاحنات القجمة وباصات أم الخشب وسيارة دوزوتو لأحد الشيوخ.. والمصفحة، والتي كانت ولا تزال المظهر الأبرز للدولة العراقية في مدينة الشامية، وكان العقل مغيباً، وبالطبع الدين كذلك، إذ لا دين بدون عقل، كما أن لا إسلام صحيح من دون تطبيق الأمر الآلهي الأول: إقرأ، والدليل على غياب العقل الشيعي في الشامية وما حولها الحضور اللافت لليهود فيها، كانوا مثل الوباء، سكنوا أفضل البيوت المشيدة بالآجر، امتلكوا الأراضي الزراعية، سيطروا على تجارة الحبوب، اقتنوا المتاجر، وتعاملوا بالربا والأخضر الفاحش، ولم يتورعوا عن تصنيع الخمور الرخيصة، وباعوها علانية للناس ، كل ذلك فعلوه على مرآى من أهلنا الشيعة، من سكان المدينة والريف، حتى غدت المدينة والتي لا تبعد عن النجف الأشرف سوى سويعات من المشي السريع بؤرة للموبقات، وإذا كنا لا نجد لأهلنا العذر في الجهل والأمية المفروضة عليهم فما سبب تهاون رجال الدين آنذاك في تأدية أبسط واجباتهم، أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتصدي لسيطرة اليهود على اقتصاد الريف الجنوبي؟

 في ذلك الزمن الأشبه بالجاهلية الأولى، ردد أهلنا في الشامية "يايمه ألماني ألماني شيعي ولا نصراني"، وظلت العبارة محفوظة في ذاكرتهم الثقافية، حتى سمعتها من مسنيهم في خمسينيات القرن الماضي، ظننتها في البدء دسيسة من أنصار الألمان النازيين في زمن الكيلاني ورهطه، أرادوا بها خداع الشيعة، وإيهامهم بأن الألمان هم شيعة لا نصارى، واختفت العبارة في زوايا ذاكرتي المظلمة، حتى الأمس، عندما استرجعها عقلي الباطني، ووضعها في صدر نشرته الصباحية، مما دفعني للنبش في التاريخ، لعلني أجد تفسيراً لهذه العبارة الغريبة، المخالفة للعقل والمنطق.

 بلغ اهتمام الألمان بالعراق ذروته في حقبتي الحربين العالميتين الأولى والثانية، فقد طمح الألمان أوائل القرن العشرين لمد خطوط سكة حديد عبر أرض الرافدين، للوصول إلى مياه الخليج الدافئة، مما سيتيح لهم توسيع دائرة نفوذهم ومصالحهم في الشرق، ومنافسة غريمتهم بريطانيا العظمى على المستعمرات ومواردها وأسواقها، وعند نشوب الحرب العالمية الأولى تحالف العثمانيون مع الألمان، وتذكر بعض المصادر التاريخية إرسال الحكومة الألمانية القيصرية وفداً إلى الحوزة الدينية في النجف الأشرف، لاستحصال فتوى بالجهاد مع العثمانيين، ويبدو بأن جهودهم قد تكللت بالنجاح، فقد عاد الوفد بفتوى موقعة من بعض رجال الدين الحوزويين، مقابل مبلغ من المال، وبالفعل فقد شارك الشيعة في القتال مع القوات العثمانية لصد القوات البريطانية الغازية، في الوقت الذي كان المسلمون السنة في بلاد الشام والجزيرة العربية يصطفون مع البريطانيين أو يقفون على الحياد.

 أثناء الحرب العالمية الثانية انقسم ساسة بغداد بين مؤيد لألمانيا النازية ومساند لبريطانيا، ونشط الطرفان في استقطاب عقول ومشاعر العراقيين، ونجحت الجماعات المنحازة لألمانيا في السيطرة على الحكومة، مما أجبر العائلة المالكة الهاشمية على مغادرة بغداد، فسارعت القوات البريطانية للتدخل لتحسم الموقف لصالح حلفائها الهاشميين وأنصارهم، وقد اعتمد الطرفان المتنازعان على القوة العسكرية المنظمة من دون الاستعانة بالقوى العشائرية.

 لا توجد لدي مؤشرات للاستدلال منها على تاريخ نظم هذه الاهزوجة الشعبية ومناسبة ترديدها، وإن كنت أميل لإرجاعها إلى فترة الحرب العالمية الأولى وما قبلها، والتي شهدت مشاركة نشطة لرجال دين شيعة، في أمور السياسة والقتال، بينما نأى معظم رجال الدين بأنفسهم وأتباعهم عن الصراع البريطاني الألماني على أرض العراق في بداية الحرب العالمية الثانية.

 إن لمجرد انتشار هذه الاهزوجة دلالات خطيرة، فمن غير المحتمل أن يكون مصدرها قريحة شاعر شعبي، أو شيخ عشائري، لأن لها طابع ديني ومذهبي واضح، مما يرجح وجود رجل أو رجال دين وراءها، وبالتحديد فتوى أوبيان مؤيد لألمانيا، وكان هذا التأييد من القوة بحيث أوحى لمؤلف الأهزوجة، أو بالأحرى أوهمه، بأن الألمان شيعة لا نصارى، والدلالة المفزعة الأخرى هو افتراض الجهات الدينية وغيرها وراء تأليف الأهزوجة ونشرها بأن جهل عامة الشيعة بدرجة تجعلهم هدفاً سهلاً للدجل والأباطيل والتلفيق، ولا شك بأن تذكر أهل الشامية لهذه الأهزوجة بعد ترديدها بعشرات السنين دليل على صحة هذا الافتراض، ولو جزئياً على الأقل.

 لقد طوى التاريخ صفحة الألمان الأقوياء، ولم نعد نخشى من تصديق بعض الشيعة لأكذوبة تشيع الألمان، ولكن مشكلتنا اليوم مع الأمريكان، الذين يدعون بأنهم جاؤوا محررين لا محتلين، وهم يطالبون ببقاء قواتهم ونفوذهم في العراق لأمد غير معلوم، تحت غطاء اتفاقية أمنية بين الحكومتين الأمريكية والعراقية، وبدأنا نسمع ونقرأ لحكام العراق وبعض مثقفيها أقوالأً ومواقف، مؤيدة لاستمرار الاحتلال الأمريكي، محتجين بذرائع وتبريرات متناقضة مع العقائد الدينية والثوابت الوطنية وحتى قواعد المنطق السليم، أما مراجع ورجال الدين فقد انقسموا بين الرافض بالمطلق لأي اتفاقية أمنية والمتحفظ على بعض بنودها، ولكننا لم نسمع بعد من المرجعية النجفية، والمتمثلة في المراجع الأربعة، فتوى أو بيان أو تصريح واضح حول هذه الاتفاقية، وقد أفتت المرجعية من قبل بضرورة المشاركة في الانتخابات، ومن المؤكد بأن هذه الاتفاقية أشد تأثيراً على مستقبل العراق من تلك الانتخابات، التي كان معظم الفائزين فيها من الطفيليين وعديمي الكفاءة ومستغلي الدين، لذا فإن سكوت المراجع على الاتفاقية أمر غير مقبول، وهو من حيث النتيجة تصويت ضمني بالتأييد لها، والتي أراها أكبر كارثة ستحل بالعراق وشعبه منذ الغزو المغولي، فيما لو أبرمت.

 تكرس الاتفاقية الأمنية سيطرة أمريكا على العراق أرضاً وشعباً وحكومة وموارداً، والناس كما يقول المثل على دين ملوكهم، ومن الخطأ الافتراض بأن التشيع في العراق، بل الاسلام كله، في مأمن من المكر الأمريكي، فقد سبق للبريطانيين تجنيد الألاف من الشيعة في قوات الشبانة العميلة لهم، وعندما طردوا بعض مراجع الدين سكت معظم الشيعة، وبعد انقلاب 1958م سيطر الشيوعيون على الشارع الشيعي في الوسط والجنوب بسهولة لا تصدق، وبالأمس القريب ساق صدام حسين مئات الألاف من الشيعة ليلاقوا حتفهم في الحرب على إيران، وهم في حكم البغاة المعتدين، ومن بعدها لاحتلال الكويت، واليوم يخرج علينا الكثير من المعممين والشيعة للدفاع عن معاهدة أمنية مخلة باستقلال وسيادة العراق ومنافية لعقيدة المسلمين، وهذه كلها مؤشرات تبعث على القلق حول مستقبل التدين والتشيع في العراق لأن الأمريكان أشد قوة وأكثر مالاً ونفوذاً من البريطانيين والشيوعيين وصدام حسين مجتمعين، وهم يرون في الإسلام الشيعي بالعراق وإيران ولبنان عدوهم اللدود ومنافسهم الأقوى على عقول ونفوس العرب والمسلمين، فهل من المعقول أن نساعدهم في حربهم على الإسلام وأهله بتوقيع معاهدة أمنية معهم؟

 حرم الله الخمر لأن مضارها أكثر من منافعها، لذا نتوقع من مراجع الدين فتوى بتحريم التوقيع على الاتفاقية الأمنية، والتي كلها ضرر بمصالح العراقيين، وإذا كان بعض أجدادنا الشيعة قد صدقوا بأن الألمان شيعة لا نصارى فلا أحد منا يصدق اليوم بأن الأمريكان طامحين للبقاء في العراق حباً بالشيعة، ولكننا نخاف على ضعاف النفوس الذين يرضخون بالقول والفعل لكل قوي ومن الغالبية الساكتة على الضيم، وإذا كان رفض المعاهدة الأمنية اليوم ربحاً صافياً للعراق ومن دون تكلفة فسيكلف إلغاؤها في المستقبل الغالي من أرواح العراقيين والنفيس المتبقي من موارد العراق، لذا فإن كل شيعة العراق وأولهم مراجع ورجال الدين أمام اختبار صعب، ولعله الأصعب منذ واقعة الطف، وكما سيحصد الجميع ثمار النجاح في رفض الاتفاقية الأمنية فسيدفع الجميع لاحقاً أفدح الأثمان فيما لو وافقوا عليها جهاراً أو بالصمت.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com