نظرية .. لا يصدر من الواحد الا شيء واحد
احمد الحسني البغدادي
alsaed_albaghdadi@yahoo.com
ومن يروم إحصاء ما للفلاسفة والمتكلمين من أقوال متعددة، واجتهادات مختلفة .. ان هذه المسألة يكون ((كمن يطلب الانوق أو الآبق العقوق)) وهو : مثل يضرب لما لا يمكن أن يكون .. فاختلافهم وتشتت عقولهم تطرحك في بحر لجي غير ذي ساحل، والى أغوار ليست بذات قرار مكين .
لقد كانت هذه الاطروحة الفلسفية الشاغل الاول من لدن الفلاسفة المتأخرين .. فمنهم من آمن بها، ومنهم من رفضها !!..
وقبل ذلك كانت هذه الأطروحة من حيث المبدأ آية لا تتبدل، ولا تتغير في مدرسة الفكر اليوناني القديم .. وكانت قائمة على أسسها الكثير الكثير من الطروحات الفلسفية من قبيل العقول العشرة التي تجسدت بها الاساطير الرومانتيكية !..
و((ان الفارابي هو أول من قال بالصدور، وأنه ربما متأثر بالمعلمين النصارى لما في صدورهم من تقسيم ثلاثي، هذا هو الظاهر .. وأما في الجوهر فهي أفلاطينية)) [12] .
ويدعم محمد عبد الهادي أبو ريدة في حاشيته مقولة فورمس worms حيث قال الاخير :
((ان الفارابي هو أول من أدخل مذهب الصدور في الفلسفة الإسلامية، حيث لا يوجد بيان لهذا المذهب في رسائل الكندي المعروفة)) [13] .
ويعتقد إرون روزنتاك : لم يكن الا رائداً وممهداً بدليل تسميته بـ ((المعلم الثاني)) .. ويعتقد كذلك أنه : في الواقع رسم البداية لأتصال الفلسفة الاغريقية بكل فروعها بالعقيدة الإسلامية [14] .
في الوقت الذي نرى إبن رشد (ت1198هـ) فيلسوف قرطبة وقع في إشتباه فادح عندما قال :
((إن أرسطو واصحابه لم يعرفوا هذا المذهب ؛ وانما روجه بين العرب ابن سينا وأصحابه)) [15] .
بيد أن هذا القول خلاف الواقع التأريخي من جهة .. ليست من جهتين :
أما من منظور الجهة الاولى، فهو على حق، لانه في القرن الثالث الميلادي، وفي مدرسة الاسكندرية .. برزت النظرية التي نعرفها عن المجدد افلوطين (ت270م) الذي حاول ايجاد علاقة جدلية بين الفلسفة والدين لدعم ومساندة معتقده المسيحي السائد حينذاك ولقد وقع الفارابي (ت339هـ ــ 950م) ومن تلاه في منحدر سحيق في هذا الاشتباه الفادح، لأن : ((تاسوعات افلوطين)) نسبت إلى ارسطوا (ت 322ق . م) إشتباهاً، ودام هذا الأشتباه حقبة تأريخية طويلة من الزمن، وسار على هذا المنوال الفلاسفة الأسلاميين، ولولا هذا الزعم المزور لما ألف الفارابي كتابه : ((الجمع بين رأيي الحكيمين))، وكشف فيه إطروحته على خطأ جسيم .
وأما من منظور الجهة الثانية، فهو ليس على حق، بأعتبار أن الاسبقية للفارابي، وليست لأبن سينا (ت1037م) بل وأعترفوا رواد هذه النظرية من بعده بكل أمانة وصدق بأنه وضع الحلول لنظرية الفيض الإسلامية بخصائصها الجزئية والكلية فقد، عبر عنه ابن سينا :
((أفضل من كل السلف)) [16] .
ويجيء فخر الدين الرازي (ت606) فيسير على نفس الخط وهو يعبر بهذه الكلمة :
((رئيس الحكماء على الاطلاق)) [17] .
ونجد أبو حامد الغزالي (ت505هـ ــ 1111م) عندما حاول ان يفند أقوال الفلاسفة من منظور متكلم أشعري في كتابه : تهافت الفلاسفة .. واستعرض طروحاتهم في كتابه : مقاصد الفلاسفة .. صرح عن نهجه في البحث قائلاً :
((سأقتصر على بيان مذهب الفارابي، وابن سينا، لأنهما أقوم المتفلسفة في الإسلام بالعقل والتحقيق)) [18] .
وهكذا صرح ابن خلكان (ت )، والبيهقي (ت ) والشهرزوري (ت 643هـ)، وحاجي خليفة (ت ) .. أن إبن سينا تتلمذ واستفاد [19] من مؤلفات الفارابي .
إن مسألة ((الابداع)) لم يكن لها أثر بذكر في الفكر اليوناني القديم الذي لا يسلم بالوجود من اللاوجود .. لذلك نجد فلاسفة اليونان قبل افلوطين يصرحون بقدم العالم، وظهرت في القرن الثالث نظرية الفيض التي نعرفها عن افلوطين الاسكندراني ــ كما أشرنا ــ ليطرح حلاً علمياً لمسألة خلق العالم وحدوثه .
ويمكن ـ هنا ـ إيجاز ما استدل به الفيضيون على صحة هذه النظرية بهيكلها العام بما يلي :
يجب أن تكون بين ناموس العلة والمعلول عملية تنسيقية، وخصوصية متجانسة .. قائمة على اساس قاعدة ((لزوم السنخية والتناسب بينهما)) .
توضيح ذلك : ان العلة لأمر ما .. شريطة أن تغدو فيها علاقة وخصوصية تؤثر في عمق تلك العلاقة والخصوصية في معلولها الخاص .. والإ يوجب أن تؤثر كل أمر في كل أمر، وتلك العلاقة والخصوصية الموجودة في العلة هي التي تشخص المعلول الخاص .. وهذه العملية التنسيقية، والخصوصية المتجانسة سواء بسواء، هي علة مقتضية لوجود المعلول .. ولولا وجود العلاقة والخصوصية بينهما لما استدعت العلة وجود معلول خاص، ولكان صدور السعرات الحرارية عن القوة النارية دون المصادر التبريدية، وصدور التبريدية عن الماء دون القوة النارية ترجيحا بلا مرجح، مادامت العلاقة في التيه بين الطرفين .
وعلى أساس هذا العرض .. يجب أن يغدو معلول الواحد المجرد .. واحداً مجرداً شبيه علته، وإلا وجب أن تغدو العلة ذات مسارين، أو أكثر، كما هو الشأن في معلوله .
ثم أن العلة المجردة البسيطة المحضة من حيث هي لم يكن لها اجزاء مادية ولا أجزاء عقلية مطلقاً .. شريطة أن تغدو هيمنتها في المعلولات العديدة بالخصوصيات العديدة، وهذا عكس المطلوب، لأنه يوجب تركيب العلة من الخصوصيات العديدة التي يختلف بها كل معقول عن المعلول الآخر .
وإذا صرحنا من أن العلة المجردة البسيطة المحضة الواحدة .. ينطلق منها اكثر من معلول ؛ بيد أن كل رافد منها يتسم بالحقيقة البسيطة المجردة الواحدة .. فيغدو المقصود من هذا أن المعلولات هذه تأتلف في حالة، او لم تأتلف في حالة أخرى .. فان إتلفت من ناحية المبدأ لم يكن هنا مورداً لأعتراض .. وأن لم تأتلف فعدم الأتلاف يباين الحقيقة البسيطة المجردة الواحدة ..
من هنا .. فالموجود الذي هو في واقع الحقيقة نفس الوجود، لانه في منتهى التجرد لا حيثيات متعددة فيه، ولا إرادات متجددة فيه .. شريطة أن لا ينطلق منه اكثر من واحد، لذا راح أصحاب النظرية إلى أن أول ما إنطلق وصدر عن الواهب الكريم .. شريطة أ يغدو مجرداً بسيطاً لا تركيب فيه من الاجزاء الخارجية، ولا من الاجزاء العقلية .. لأن المركب مفتقر إلى أجزائه، وهو غير مفتقر إلى شيء .
ومن هنا .. صرحوا أن أول ما خلقه الله هو : ((العقل البسيط)) الخالي عن المادة، والمقدار أي : الزمان .. وهذا المعلول الأول لم يكن جسماً .. بيد أن العقل البسيط بعد إنطلاقه من المبدأ الاول يغدو مؤطراً وممكناً .. إعتباره إعتبار المخلوقات الموجودة هنا وهناك .
إذن .. فالعقل البسيط له زيادة شيئان :
واحد : بـ ((واجب الوجود .. وعلى هذا السبيل يغدوا واجباً بالغير وبسيطاً)) .
إثنين : إمكانه بالذات .. بـ ((معنى إعتباره مركباً من الحد والمحدود، ومن العلة المركبة، ويمكن صدور المعلول المركب)).
قال المحقق اللاهيجي :
((إن الفاعل المستقل إذا كان واحداً من جميع الجهات، بحيث لا يكون فيه كثرة الاجزاء، ولا كثرة الوجود والماهية، ولا يكون متصفاً بصفة حقيقية زائدة في الخارج، أو إعتبارية زائدة في العقل، ولا يتوقف فعله على شرط وآلة وقابل .. فلا يمكن أن يصدر عنه في مرتبة واحدة إلا معلول واحد .. سواء كان الفاعل موجباً، أو مختاراً إختياره وإرادته نفس ذاته .. والحكماء يسمون لمثل هذا المختار الفاعل بالرضاء، وأما إذا كانت إرادته وإختياره زائدة على ذاته .. وهو الذي يسمونه الفاعل بالقصد فهو خارج عما نحن فيه ؛ لأنه فيه إثنينية بالفعل : سواء تعددت إرادته، أو تعلقها، أو لا .. فلا يكون واحداً من جميع الجهات)) [20] .
والذي يجب التنبيه اليه، ولا يسوغ الذهول عنه بحال أن رواد نظرية الفيض .. قالوا : ان العقل الاول لم يخلق مباشرة، بل صدر منه عقل ثان، وجسم فلك وصورته ــ نفسه ــ وذلك لثنائيتة، لأنه ممكن بذاته، وواجب بغيره، وتفكيره بكل، وبالله .. ينتج عنه شيئان .
عقل ثان، وفلك بصورته وجسمه ــ الفيض هنا ثنائي .. أو عقل ثان، ونفس، وفلك ــ الفيض هنا ثلاثي ..
وهكذا تتابع فيضان العقول حتى إلى آخر العقول .. هو العقل العاشر الذي يسمى بالعقل الفعال [21] .. فيصد عنه هيولى [22] كافة الموجودات السفلية، او الصدور، او البذور، او النفوس، والطبائع، والخصائص المميزة .. لأفراد واجناس وانواع الحيوان والإنسان والنبات والجماد .. ويولي العناية الكاملة الشاملة بقضاياها، وهذا العقل يفيض على الافئدة البشرية المعقولات حسب طاقاتها وقدراتها، ويشرق على الافئدة النظيفة الطاهرة ذات القابليات الهائلة ليستمد الفيض من العقل الفعال [23] .
ومن ثم .. إنطلقت الايديولوجيات الفلسفية لتفنيذ هذه النظرية من لدن الفلاسفة، والمتكلمين، والنقاد الباحثين القدامى منهم والجدد .. من أمثال : أبو حامد الغزالي [24]، وابن رشد [25]، ونصير الدين الطوسي [26] (ت 672هـ ــ 1274م)، وفخر الدين الرازي [27]، والشهرستاني [28] (ت 456)، وأبو بركات البغدادي [29] (ت ) وابن تيمية [30] (ت 729هـ ــ 1328م)، والبير نصري نادر [31]، وسويتمان [32]، وحمودي غرابة [33]، وسليمان دنيا [34]، وخليل الجٌر، وحنا الفاخوري [35]، وجوزيف الهاشم [36]، وحسام الدين الألوسي [37] وغيرهم .
ولنأت إلى البيان بجملة من النصوص الناقدة الموجزة فقط بـ ((خصوص نظرية : لا يصدر من الواحد الحقيقي الا شيء واحد)) :
واحد : يدحض الغزالي هذه النظرية في المسألة الثالثة من المسائل العشرين [38] وهي في أن قولهم بـ ((ان الله فاعل العالم هو مجاز وليس بحقيقة)) .. وينظر الغزالي إلى هذا الامر في ثلاثة وجوه : في الفاعل، وفي المفعول، ثم ما يصدر عن الواحد .. وبما أننا نناقش المسألة من زاوية واحدة نطرح الوجه الاخير، واهمه الانتقاد العام . وهذا نصه :
((يستحيل كون العالم فعلاً لله على أصلهم، لأنهم قالوا : لا يصدر عن الواحد الا شيء واحد .. والمبدأ واحد من كل وجه، والعالم مركب من مختلفات، فلا يتصور أن يكون فعلاً لله بموجب أصلهم، ويجيب الفيضيون : هذا صحيح من حيث المبدأ .. بيد أننا نرى أن سبب الكثرة تعدد الوسائط [39] .
ويعتقد الغزالي بأنه :
((يلزم عن هذا التعدد للوسائط، ومن قولكم عن صدور الواحد عن الواحد الا يكون شيئاً مركباً، بل تكون الموجودات كلها آحاداً، وكل واحد معلول لواحد وعلة الواحد .. وليس الامر كذلك، إذ عندهم الجسم مركب من هيولى وصورة، وكذلك الفلك له نفس وجسم فمن أين صدر المركب ؟!.. فأما يبطل قولهم : لا يصدر عن الواحد الا واحد .. وأما يلتقي واحد بمركب)) [40] .
ونرغب أن نذكر .. أن للغزالي تعليقة حين فند مذهب الفيض بكل قنواته، وبواسطة الاعتراضات الفلسفية العديدة، إذا كتب قائلاً :
((ما ذكرتموه تحكمات .. وهي على التحقيق ظلمات فوق ظلمات لو حكاها الإنسان عن منام رآه لاستدل به سواء مزاجه)) [41] .
وفي موضوع آخر يتساءل :
((فماذا تقولون أنتم ؟!.. أتزعمون أنه يصدر من الشيء الواحد من كل وجه شيئان مختلفان ؟!.. فتكابرون المعقول .. او تقولون المبدأ الاول ــ الله ــ فيه كثرة ؟!.. فتتركون التوحيد .. او تقولون لا كثرة في العالم ؟!.. فتنكرون الحس .. او تقولون لزمت بالوسائط ؟!.. فتضطرون إلى الأعتراف بما قالوه)).
وبالطبع أجاب الغزالي :
((أنه لم يخض في هذا الكتاب خوض ممهد ؛ وانما غرضنا التشويش، وقد حصل على أن نقول القول صدور إثنين عن واحد هو مكابرة للعقول، دعوة باطلة لا تعرف بنظر أو بضرورة .. وما المانع في أن يقال : أن الله عالم قادر مريد يخلق المختلفات والمتجانسات، وقد وردت به الأنبياء المؤيدون بالمعجزات، فيجب قبوله .. أما البحث عن كيفية صدور الفعل من الله بالأرادة، ففضول، وطمع في غير مطمع)) [42] .
إثنين : وابن رشد يفند هذه النظرية بأكثر من مائة صفحة .. منها قائلاً:
((إن أصحاب هذه النظرية انما إنتبهوا اليها من جراء تشبيههم الفاعل الذي في الغالب ــ الله ــ بالفاعل الذي بالشاهدٍ، فلزم عن ذلك أن الفاعل ذاك يخلق موجوداً واحداً بعينه، وفي ذلك ما فيه من غض من شأن الله، وتقييد لفاعليته المطلقة، إذ أن الله فاعل مطلق يصدر عنه فعل مطلق لا يختفي بمفعول دون مفعول، فلم يمتنع عليه إيجاد الكائنات البسيطة منها والمركبة)).
وأضاف يقول :
((ثم ان دعواهم أن الكثرة، او التركيب تدخل على الموجودات من جراء العقل الاول باطلة أيضاً، لأن العاقل والمعقول هو شيء واحد لدى العقل البشري ناهيك بالمعقول المفارقة .. فمن أين تطرقت الكثرة إلى الكون ؟!)) [43].
ثلاث : ونصير الدين الطوسي .. إتخذ من ملاك العملية الاستدلالية إثبات النظرية حجة عقلية على نقضها حين يقول :
((لا يصدر من الواحد الحقيقي غير الواحد، لأنه لو صدر منه معلولان في رتبة واحدة، وجب بالضرورة أن يكون صدور كل منهما عنه بحيثية غير الحيثية التي صدر بها الآخر .. فهاتان الحيثيتان إن كانتا داخلتين في ذات الواحد الحقيقي لزم أن يكون واحدا حقيقياً، وهذا خلاف المفروض، وان كانتا خارجتين، فالكلام فيهما كالكلام في نفس المعلولين، فإذا بطل الفرضان، فالصادر الاول واحد، وهو العقل الاول .. هذا تقرير كلام الحكماء، ومقتضاه : أن تكون العلية مطلقاً بالحيثية، لا بالذات، لأن العلية بمعنى واحد، وسنخ فارد في جميع المورد، فعليه يجب أن يكون صدور المعلول الواحد بحيثية واحدة، كما كان صدور المعلولين بحيثيتين إثنين .. فهذه الحيثية الواحدة التي لو قطعنا عنها النظر لم يوجد معلول أصلاً، إن كانت داخلة في ذات الواحد الحقيقي لزم خلاف المفروض، وإن كانت خارجة، فالكلام فيها كالكلام في نفس المعلول .. فالحكماء غافلون عن هذه القواعد التي مهدوها، إن صحت توجب أن لا يصدر من المبدأ الاول ــ الله ــ الذي هو واحد حقيقي معلول أصلاً، وتسد في جوههم باب المعرفة ولم نجد دليلاً لما إدعاه الحكيم من الفرق بين الصورتين بآن ذات الواحد الحقيقي بنفسها وبحسب حقيقتها البسيطة تكون علة للصادر الأول الواحد، وإذا تعدد المعلول في مرتبة واحدة كانت ذاته علة بالحيثية لا بنفسها ..فالسنخية في زعمه مخصوصة بعالم التكوين، وبمحيط المادة والمدة .. وجل المبدأ الاول تعالى عن ذلك علواً كبيراً)) [44] .
أربع : رفض الفيضيون تفسير صدور كثرة عن الله بواسطة تعدد الآلآت، أو المواد .. على أساس أن هذه إن كانت فعل الله، فقد صدر عن الله أشياء كثيرة، وإن كانت ليست كذلك لم يكن الله مصدر كل شيء .. واختاروا حلاً ثالثاً وهو : أن صدور اكثر من واحد عن الله سببه تعدد الوسطاء والاعتبارات .. ويعترض : ((سوتيمان)) بأن نفس المشكلة التي إنتقدوا بها التفسيرين السابقين قائمة وهي : [45]
أ ــ من أين للوسيط الاول القدرة على فعل أكثر من شيء، وليس لله نفس ذلك ؟.. من أين جاءت هذه القدرة، إن كان من الله فقد صدر عن الله شيء يتصف بالوحدة والكثرة معاً، أي أنه موجود متكثر، او فيه قدرة للكثير، وإن كانت ليس من الله، فالله ليس مصدر كل شيء، فان قيل إن معلول الاول كثرته مستمدة من صلته بالله، ومن الوجود الذاتي ــ كواجب وممكن ــ أي بسبب إعتبارات عقلية، فيجب نسبة هذه الأعتبارات إلى الله، كما فعل الصوفية، حيث ميزوا في الله بين الأحدية والهوية والانية .
ب ــ الصدور عملية بلا إرادة ــ تكرار لنقد المتكلمين والغزالي .
خمس : وراح الدكتور حسام الدين الآلوسي .. يقدم عرضاً مسهباً في دراساته عن مذهب الفيض .. وبالتالي يعرض خمسة نقاط سلبية فيه .. ويهمنا من ذلك ما يلي :
((قولهم لا يصدر عن الواحد الا واحد .. هو نفس مسلمة الماديين الاول .. فالمادة عند الأخيرين شيء واحد، وتعذر بعد ذلك عليهم تفسير تنوع الأشياء .
وبالنسبة للفيضيين غلب عليهم المنطق الشكلي الأروسطي مبدأ ذاته، وعدم التناقض من جهة، وتجافوا معها واقع الاشياء وتغيرها الخ .. من جهة ثانية : عندما ألغو هوية الاشياء، وأرجعوا المادي إلى العقول والعصور، وأرجعوا الاشياء إلى بعضها في خط تجريدي، ينتهي بالغاء المادة وهويات للاشياء ولكنهم من جهة أخرى فسروا الاشياء تفسيراً شكلياً دون النظر إلى محتوى الاشياء، يتضح ذلك في معالجتهم الواقع والاشياء الطبيعية معالجة ميتافيزيقية لا هوية، وتحت تأثير منطق شكلي نظري بعيد عن الواقع، لأن الواقع متغير وتكثر وهنا نعيد نقد إبن رشد لهم من أنهم رتبوا العلم الطبيعي على مباديء العلم الألهي، وكان أولى بهم أن يبدأوا من العلم الطبيعي من المتحرك، والطبيعي لفهم عالم الطبيعة والاشياء)) [46] .
إن هذه النظرية لا موجب من التسليم بها .. التسليم بخلق العالم الاكبر والأصغر .. وفق حلقات التسلسل العقلي الذي سلم بها مذهب الفيض .
لو تنازلنا على سبيل الفرض : أن هذه النظرية من حيث المبدأ حقيقة بديهية مسلم بها في ملامحها، وفي خصائصها يمكن أن نقول : بان عالم الوجود بما أنه في مساره حقيقة واحدة لا نزاع في حقيقته، بيد أن القوة والضعف هما اللذان يشخصان بين أفراده فـ ((ان الواحد الأزلي البسيط لم يصدر منه غير الواحد)) الذي هو الوجود المشترك لعنصر الحقيقة الواحدية الوجودية التي يتشخص بعضها عن البعض الآخر بـ ((القوة والضعف)) .
ولكن .. هذا الطرح الايجابي مع كونه يحتوي على القدرة العقلية، والطاقة الفكرية .. بيد أنه لا يجد مردوداً إيجابياً من المشائيين رواد الفلسفة الارسطوطاليسية، الذين راحوا إلى أن لعنصر الوجود حقائق متضادة في جوهره واعراضه .
أجل .. لقد غدا هذا الطرح الإيجابي مدعوماً من لدن الاشراقيين رواد الفلسفة الأفلاطونية الذين راحوا إلى أن لعنصر الوجود كله حقيقة واحدة لا غير .. مادام الكون في جميع درجات وجوده عبارة عن درجات متفاوتة في الضعف والقوة .. كالنور والظلمة اللذان يضعفان تارة ويقويان تارة أخرى .
وعلى أية حال .. فان اطروحة خلق العقل قبل كل شيء آخر في هذا الوجود لا تعارض المنظور الإسلامي، فقد صدرت النصوص الدينية تؤيد ذلك على رأي بعض الأعلام .. بيد أن الورطة لازالت باقية، وهي تصور مسألة الخلق من العدم والابداع، وفق حلقات التسلسل العقلي الذي راح اليها أصحاب مذهب الفيض لتفاديهم بنظرية : لا يصدر من الواحد الحقيقي مباشرة إلا شيء واحد، بيد أنهم وقعوا في منحدر الورطة السحيقة مقرونة بالويل والثبور، فتنقلب تلقائياً مشكلة حائرة محيرة لا مجال لحلها .
أجل .. لست أدري بأي عقل نفسر هذه العقول ؟!..
يقول النص القرآني المبارك :
((والله خالق كل شيء، وهو الواحد القهار)) .
ويقول المذهب الفيضي :
الله فاض عنه عقل واحد ليس إلا، فوجد فيه ثنائية الأمكان بالذات، والواجب بالغير .. وعن هذا العقل صنعت العقول العشر على مراحل التدرج، فتعالى الله عما يشركون .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
( [1] )
( [2] ) أنظر : المنظومة، الآمدي، ص : 178
( [3] ) شرح اللئالئ المنتظمة في علم المنطق والميزان، لهادي السبزواري
، ص : 198، ط : 1367 .
( [4] )الملل والنحل، ج : 1، ص : 142، ط :
( [5] ) قالوا : بين هذه المسألة وتلك رابطة ((جدلية)) يريدون أن الرابطة حتمية .. وان الاولى لابد أن تفضي إلى الثانية .. وأن كليهما مشدودان مترابطان .. أنظر : العربية تواجه العصر، للسامرائي، ط : 1982 بغداد.
( [6] القوة .. عبارة عن : ((إمكان الشيء)) .. والفعل .. عبارة عن : ((وجوده حقيقة)) .
( [7]) مصطلح يطلق على كل آيديولوجيا، أو حكم لا يعتمد على الحس والتجربة .
( [8] )هي نظرية الاحزاب الماركسية التي أسسها ماركس وانجلز، وجددها لينين .. وتسمى هذه النظرية مادية، لأن منظورها الفلسفي إلى الكون مادي، وديالكتيكي، لأن نهجها في دراسة الظواهر الطبيعية، والاجتماعية، والفكيرية ديالكتيكي لا ميتافيزيقي .
( [9] ) ان الفيلسوف المسلم صدر الدين الشيرازي هو الذي اكتشف هذه الحركة .. والذي يلتقي معه في رافد واحد منظري المادية الجدلية في نظرية الحركة العامة، ومرد كل تطور أو صيرورة اليها .. بيد أن صدر الدين يفترق من ناحية المبدأ مع المادية الجدلية، ويستدل بـ ((حدوث العالم المسبوق بالعدم المشمول بالزمان)) مما نكتشف على عدم الصلة من اكتشاف الحركة بصورها المختلفة وبين التصريح بـ ((القدم أم الحدوث)) ..
وقبل لحظة صرحنا يلتقي مع صدر الدين الشيرازي المنظور الماديون الدياليتيكيون في نظرية الحركة العامة، لأن وفاته عام ((1050هـ))، وولادة كارل ماركس العام 1818م .. إذن وفاة صدر المتألهين لها الاسبقية من ولادة مؤسس المادية الدياليكتيكية بـ ((288)) عام، وذلك بدءاً من شروعنا في كتابة هذه السطور عام 1403هـ .
إذن .. أين يذهب زعم الدياليكتيكيون الخلف أنهم وحدهم لا غير الذين اكتشفوا الاشياء، والظواهر الطبيعية حالة حركة وتطوراً أو صيرورة باستمرار !!!..
( [10] ) بحار الانوار، للمجلسي، ج : 4، ص : 78، ط : حجرية .
( [11] ) المصدر السابق، ج : 4، ص : 78 .
( [12]) تاريخ الفلاسفة الاسلامية، لديبور، ترجمة : محمد عبد الهادي أبو ريدة، ص : 149، ط : القاهرة، 1948 م .
( [13]) المصدر السابق، حاشية المترجم على ص : 150 .
( [14]) روزنتال :
Rosenth Di 0E 0 I 0 I 0 : Poiticdi Thoujht In Me Dievdi Isiam 0 Snded 00 Cambvidge 0 Ig62 0 P 0
( [15] ) تهافت التهافت، لأبن رشد، ص : 152، ط : بويج 1930م
( [16])
( [17] ) مناظرات في بلاد ماوراء النهر، فخر الدين الرازي، ص : 20، ط : حيدر أباد 1355هـ .
( [18] ) تهافت الفلاسفة، ص: 8، ط : بويج / ومقاصد الفلاسفة، المقدمة، ط : القاهرة 1961م .
( [19]) انظر : تاريخ الفلاسفة الاسلامية .. وستجد مصادر تصريحات هؤلاء الاعلام في بداية حديثة عن ابن سينا . ( [20]) الشوارق، للآهيجي، ج : 1، ص : 191 .
( [21] ) هو الذي يهب عناصر هذا العالم الرهيب بما فيه من إنسان وحيوان ونبات وجماد صورها .. وهو الذي يشرف على أصقاع الارض وما فيها .
( [22] ) هي كلمة يونانية مرادفة للمادة والجسم القابل للصورة الجسمية والنوعية (بمعنى تمام حقيقة الشيء وماهيته التي بها هو ما هو) وكل جسم يتألف من عناصر المادة والصورة .. وبأختصار : هي واحدة في كل الاشياء حتى في الحيوان والنبات والجماد، وانما تتباين الكائنات بـ ((الصورة)) ليس إلا .
( [23] ) بما أن هذه النظرية الفيضية القديمة هيمنة على أفكار الفارابي، وابن سينا .. فقد ذكر (الالوسي في كتابه : دراسات في الفكر الفلسفي الاسلامي، ط : المؤسسة العربية للدراسات والنشر) كتب الفارابي التي ترد فيها النظرية مع تأشيرات رئيسية هامة فلتراجع .
( [24] ) إنظر : تهافت الفلاسفة، ص :
( [25] ) أنظر : تهافت التهافت،ص : 160، ط : بويج بيروت 1930م .
( [26] ) أنظر : تحقيق المذهب الحق، للطوسي، ص : 15 .
( [27] ) أنظر : محصل افكار المتقدمين والمتأخرين، للرازي، ص : 150، ط : القاهرة 1363 / وتقرير مذهبهم، ص : 145 وما بعدها .
( [28] ) أنظر : نهاية الاقدام في علبم الكلام، ص : 56 وما بعدها نشر : جيوم أكسفورد 1934 .
( [29] ) أنظر : المعتبر في الحكمه، لأبي البركات، ط : حيدر آباد 1358، ج : 3، الفصل : 4، ص : 156 .
( [30] ) أنظر : رسائل ابن تيمية، ج : 5، ص : 153، ط : منار القاهرة 1349، ج : 4، ص : 16، وعن عدم علم الله، ج : 3، ص : 160، وكذلك كتابه : الرد على المنطقيين، ص : 118 وما بعدها، ص : 270 وما بعدها، و ص : 231 وما بعدها و ص : 463 وما بعدها، ط : بمبامي 1949 .
( [31] ) أنظر : مقدمة وتحقيق كتاب : آراء أهل المدينة الفاضلة لنادر، ص : 10، وما بعدها، ط : بيروت 1959 .
( [32] ) أنظر : سويتمان :
Sweet man 1 . w . : Isiam And Christian The Ologr Tondon 1945 . Vol . L . P . 113ff Waizer . R . : Creek Into Ar Abic . Oxford . Ig62 . P . 3 .
( [33] ) أنظر : ابن سينا بين الدين والفلسفة، لغرابة، ص : 186 ــ 197، ط : القاهرة 1948 .
( [34] ) أنظر : مقدمته للجزء الأول من الارشادات، ص : 48 ــ 58، ط : 1957 .
( [35] ) أنظر : تاريخ الفلسفة العربية، للجر، وللفاخوري، ص : 120، ج : 2، 1958، ط : بيروت .
( [36] ) الفارابي، للهاشم، ص : 102 وما بعدها، ط : بيروت 1960 .
( [37] ) أنظر : دراسات في الفكر الفلسفي الاسلامي، للآلوسي، ص : 114 وما بعدها، ط : المؤسسة العربية للدراسات والنشر1400هـ .
( [38]) تهافت الفلاسفة، ص : 110 .
( [39]) المصدر السابق، ص : 110 .
( [40] ) المصدر السابق، ص : 111 .
( [41] ) المصدر السابق، ص : 113 .
( [42] ) المصدر السابق، ص : 131 وما بعدها .
( [43] ) تهافت التهافت، ص : 160 وما بعدها .
( [44] ) تحقيق مذهب الحق ــ باختصار، ص : 15 .
( [45] ) أنظر : نفس ((تعليقات وحواشي رقم : 26 // الكتاب ذاته، ص : 107، 109 .
( [46] ) دراسات في الفكر الفلسفي الاسلامي، ص : 161، 162 .
العودة الى الصفحة الرئيسية
في بنت الرافدينفي الويب