الحرية و"الأحزاب الشعاراتية"
نحن العراقيون توقعنا أن يكون التغيير والتحرير والإطاحة بصدام وزمرته سهلا سلسا وعفويا، لكن كان من المنطقي جدا أن أنصار وأعوان شاركوا نظاما حكم البلد بالنار والحديد واشتركوا في جرائمه أنهم سيحاولون وبكل أنواع الإرهاب وتارة باسم القومية العنصرية وباسم الدين والعقيدة تارة أخرى أن يوقفوا قيام النظام الجديد الذي يقوم على أساس الحرية والديمقراطية وحرية الفرد وحقوقه.
لكن الأهم والأخطر هوأن على الشعب أن يعي حقيقة أن أكبر ثمرة جاء بها التغيير هو"حرية نقد السلطة" وأن مسألة طرح كل المشاكل ـ الحقيقية والكاذبة ـ على طاولة البحث وتوفير الإعلام لكل الناس فرصة الاطلاع الحر على كل ما يجري في البلد سواء كانت قضايا تتعلق بأعلى رجالات الحكم ـ الذين جاءوا عبر انتخاب الشعب لهم ـ وحتى بمشاكل الحياة اليومية للمواطنين، فالحرية هي أكبر قيمة يجب أن يحصل عليها المواطن دون الحقوق القومية والدينية "المصطنعة" والتي يتم توفير حلول لها من خلال حرية الأفراد وحقوقهم.
إن الزعماء القوميين والدينيين ـ مع استثنائي لرجال دين يؤمنون بالحرية والدولة الحديثة إلا أن القوميين لا استثناء لهم ـ يتحجج هؤلاء دوما بأن الشعب لا زال غير مؤهل للحرية، بينما سارع بعض القوميين "العلمانيين بالشعارات فقط دون الفعل" إلى توفير كمية كبيرة ـ استخدمت كلمة كم للسخرية ـ من السكارى والمتسكعين على الشوارع لإثارة المواطن البسيط الذي يتعامل مع كل قضية بعواطفه دون عقله وبالتالي خلق قناعة لدى قطاع كبير من الناس ـ والعراق مليء بالأميين طبعا ـ بأن هذا "السكير" و"المتسكع" هوالديمقراطية والحرية اللذان سيجلبان "سوء الأخلاق" وخصوصا أن الشبان لا يمكنهم الزواج في ظروف صعبة كهذه ـ بينما بعض رجال الدين لديه أربع زوجات ـ وكل هذه البلبلة والفوضى والضجيج وخطابات الخطباء بأن "الديمقراطية ستجلب لنا الزنا والزواج المثلي" وغيرها من الأراجيف هومجرد حجة لإجهاض الديمقراطية.
صحيح أن النظام الديمقراطي لن يخلق ملائكة ـ بل إن الملائكة ليسوا بحاجة للديمقراطية ـ وصحيح أنه يحوي الكثير من الإشكالات والأزمات، إلا أن هذا النظام رغم كل عيوبه ونواقصه هوالوحيد القادر على أن يوفر الأمل للمواطن والوطن لكي يواجه كل مشاكله بصراحة تامة حتى لوعادلت جبلا ومن خلال الديمقراطية ـ وهي قائمة على تجربة الناس للحكام فإن فشلوا خرجوا سلميا من السلطة ـ سيتم إزاحة المفسدين والمرتشين، لكن لا بد للشعب من ثقافة واطلاع لكي لا تضيع حقوقه.
يقول الفيلسوف الألماني الكبير عمانوئيل كانط: "إني أعترف بأني لا أفهم جيدا هذا القول الذي يردده قوم عقلاء: هذا شعب ليس ناضجا للديمقراطية! عبيد الإقطاعي ليسوا ناضجين للحرية! الناس ليسوا ناضجين لحرية الشعور! ففي فرض مثل هذا لن تأتي الحرية مطلقا لأنه لا يمكن أن يكون ناضجا للحرية إن لم يكن قد عرف الحرية من قبل. ستكون المحاولات الأولى ولا شكّ فظة ومرتبطة عادة بظروف أقسى وأخطر من تلك التي وجد فيها الإنسان عندما كان يتلقى الأوامر وعندما كان يعهد به إلى الآخرين لرعايته، ومع ذلك لا يتضح العقل للإنسان إلا بمجهوده الشخصي... إن وضع مبدأ يسلب الحرية قيمتها على الإطلاق واستبعاد الخاضعين منها دائما يكون تعديا على الحقوق المطلقة لله نفسه الذي خلق الإنسان للحرية.." ـ في الفكر الغربي المعاصر \ حسن حنفي\ ص 140 ـ 141
العودة الى الصفحة الرئيسية