احمد الحسني البغدادي

alsaed_albaghdadi@yahoo.com

ان المنهج الاسلامي .. منهج عبادة ، والعبودية الحقيقية لله الواحد القهار فيه ذات أسرار .. ومن أسرارها أنها زاد الطريق ، وانها مدد الروح ، وأنها مفتاح القلب لتذوق هذا التكليف في التفاني في مرضاة الله تعالى، ويغدو الإنسان بذلك محبوباً من قبل الكل من دون أن يكون في البين واسطة وشفيع، بل يغدو الإنسان بها محبوب الممكنات، وتشرق عليه الشوارق من خالق الكون والحياة .

إن استغراق الإنسان في العبودية لله وحده ، ورفض العبادة والدينونة لغيره من الخلق ذو بعد حركي رسالي عظيم في صيانة الجهد البشري من أن ينفق في تأليه الأرباب المصطنعة ، وحيث لا يجد المدعون لعبودية المبدأ الفياض سبحانه، هذا المقام في أنفسهم، ويعترفون بعدم وجدانه له ، فلا بد أن يعترفوا بعدم وجدانهم بمقام العبودية الحقيقية ، فإن عدم المعلول يكشف عن عدم العلة كيف يصل أحد إلى هذا المقام وهو يقع في فوره في شر أشكال العبودية لغير الله في كل صورة من صور الحياة .. انه يقع فرائس لشهواته بلا ضابط ، وبلا شروط .. ومن ثم يفقد خاصته الادمية ويندرج في عالم البهيمية !!..

والعبودية الحقيقية هي التي تظهر آثارها على الإنسان ، فلا تصدر منه مخالفات شرعية ، ولا يخطر في ذهنه .. إلا الجهاد في سبيله تعالى ليعبده وحده في الارض ، وليتحرر من عبادة الجبت والطاغوت .

وإنها ليست شعائر كما يتصور البعض .

وانما هي قضية دينونة وشريعة ونظام ودستور، وأحكام وأوضاع حركية في واقع الحياة .

وإنها من أجل أنها .. كذلك استحقت كل هذه العناية إلى أبعد الاغوار في المنهج المتمثل في هذا الدين القويم .. واستحقت كل هذه الرسل والرسالات .. واستحقت هذه المخاوف والتضحيات .. ولترفع الحياة الحرة الكريمة إلى الأفق الرحب الذي أراده المبدأ الفياض للإنسان نوع الإنسان .

وإنها إذا هيمنت على القلب النابض، فلا يشغله شاغل من الشواغل الدنيوية المحدودة الزائلة ، ولا يعيقه عائق من البذل والعطاء في سبيل الواحد الاحد سبحانه .

والعبودية الحقيقية إضافة بين الله والانسان، وهي دواء لجملة من الحالات المرضية النفسية .. وفيها الخلوص والإخلاص .

إنها العلاقة المباشرة بين المعبود والعابد .

إنها الموعد المختار لالتقاء القطرة المنعزلة بالنبع الذي لا يغيض .. والانسان يبذل المال اليسير .. والإنفاق في سبيل المبدأ الفياض، ما زال عنصراً فاعلاً متدفقاً مؤثراً في تكيف الحياة وتوجيه مساراتها الحقيقية .

وعلى ضوء هذا ينشد بذلك مع عالم لا نهاية لعظمته، ولا حد لجهة من جهاته، فيضاعف بنفس الإضافة التشريعية أضعاف مضاعفة لا في الدنيا فحسب ، بل في كل عالم لم يظهر فقر الإنسان الذاتي من كل جهة .. فعنصر ممارسة الانفاق إما في سبيل حبه لهذا الشيء من حيث أنه يستهدف تكاملية الإنسان وترقيه الادمي بوصفه حضاري النزعة .. وإما في سبيل تطهير قلبه من الشح ، والاستعلاء على حب الملك ، والثقة بما عند الله الواحد القهار .. وكل هذه ضرورة ملحة لاستكمال معنى العبودية الحقيقية، ثم انه ضرورة ملحة كذلك لحياة الامة ، فالعمل الرسالي الحركي كفاح ، ولا بد من التكافل في هذا الكفاح .. وفي بعض الأحيان يغدو هذا التكافل شاملاً كاملاً بحيث لا يبقى لأحد مال متميز بأي حال من الاحوال .

إن العبودية الحقيقية في الشريعة العملية ، إنما هي ألطاف المبدأ الفياض لتكاملية النفس الإنسانية القابلة للتقوى، والعمل الصالح ، والوصول إلى العلة الغائية المنشودة من خلق الإنسان كخليفة في الأرض، بل وخلق العالم بروحانياته وجسمانياته ، فلا كمال ارفع وأجل من العبودية لواهب الحياة .. فهي في واقع الأمر فوق الرسالة والنبوة، بل يكسب العبد مقام العبودية التي ينال بها شفاء الروح وإزالة الحجب الجسمانية الظلمانية بين الظاهر، والباطن وبما أنها غير متناهية، وليست لها حد خاص، وهي التفاني في مرضاة الله الواحد القهار .

إن العبودية الحقيقية لا يعلم أسرارها إلا الله تعالى، بيد أن منطلقاتها ومساراتها عظيمة، فهي التي تهييء الإنسان لسعادة الدنيا ونعيم الآخرة ، ومن ثم تظهر آثار العبودية على الإنسان حينما يعبد ربه شكراً له على هدايته إليه، وعلى اطمئنانه للقرب منه ، والانس به ، فما كان هنالك جزاء فهو فضل من الله ومنةً واستحقاقاً على الايمان أو العبادة .

والانسان المؤمن لا يجرب إلهه فهو قابل ابتداء لكل ما يقدره له، مستسلم ابتداء لكل ما يجربه عليه، راضٍ ابتداء بكل ما يناله من السراء والضراء .

إذن .. لا يعقل لمثل هذا الإنسان العابد أن يدعو إلى الدينونة لغير الله في الاعتقاد والتصور معناها الخروج عن الفطرة السليمة ، ومعناها الوقوع في منحدر الدين الموروث، والتقاليد البالية، والخرافات السخيفة التي لا تنتهي .

ومن هنا .. العبودية تستجيش وجدان التقوى ، فالانسان هو الرابح بـ ((العبودية الحقيقية)) في دنياه وأخراه ، يعبد فيرضى ويطمئن ويستريح، ويعبد فيجزى بعد ذلك الجزاء الاوفى .. والنصوص الاسلامية ترشد إلى نبذ الكذب والغش والخيانة والتهرب والجبن والجزع والاستلاب والجشع والأثرة والتجسس ، وتدعوا إلى العبودية الواقعية المبنية على الخلوص والإخلاص، والخضوع، والخشوع، والتوجه والانقطاع، والانقياد إلى رب الأرباب الواحد الأحد الفرد الصمد خالق الكون والانسان .. ومدبر السماوات والارض، وما بينهما وما فيهما من خلائق لا يعلمه الا هو سبحانه وتعالى .

إن العبودية لله وحده تطلق الناس كل الناس أحراراً شرفاء .. والعبودية لغير الله مسخ إنسانية الإنسان وكرامته، بل ثم يقع فريسة لألوان مختلفة من العبودية للعبيد ثم يقع في شر ألوان العبودية للحكام والرؤساء، الذين يضعونه وفق اطروحات من عند أنفسهم لا غاية لها، الا حماية مصالح المشرعين أنفسهم، فالنظرة على المستوى الانساني تكشف عن هذه الظاهرة في كل حكم بشري، لا يستمد عبوديته من الله وحده .

إذن .. متى استقرت هذه العبودية الحقيقية في قلب الإنسان المؤمن، فقد انتهى كل شيء بالنسبة إليه ، وقد انقطع الخوف .. إلا في جناب رب الأرباب سبحانه .. فهو كاف عبده ، وعليه يتوكل وحده ؟..

ثم أنها الطمأنينة بعد هذا ، والثقة واليقين ، والطمأنينة التي لا تخاف، والثقة التي لا تقلق ، واليقين الذي لا يتزعزع .

والخلاصة .. هي المرتبة الايمانية التي تحصل من تذكر الحبيب في الباطن والحاضر، ومن مناجاة ذاته المقدسة .

وعند ذلك .. تزداد نورانية العبادة تنزيهاً، وتقديساً، وتمجيداً، وتضرعاً، وإنقطاعاً تاماً .

وعند ذلك .. ينكشف لقلب السالك ــ ما دام في السلوك والسير إلى الله بوصفه المطلق ــ سر من أسرار العبودية الحقيقية .

وعند ذلك .. يتجاوز مرتبة الطمأنينة والعرفان ، ويصل إلى مرتبة الشهود والعيان ، ويتجلى الحق لسد قلبه بالتجلي الفعلي .

وعند ذلك .. يحس لذة الحضور الوجداني ، والحب الاختياري ، والقرب الملكوتي ، والتجلي المثالي .. ومن ثم يعشق الحق الربوبي .

وعند ذلك .. يحتجب السالك عن نفسه، وعن العبادة ، ويفني عن العالم، ويشتغل بالتجلي الفعلي .

واعلم هداك الله إلى الحق اليقين : إذا وصلت هذه الحالة إلى حد دائرة الإمكان ، وخرجت عن المسالك الخاطئة بـ ((الرياضات والمجاهدات))، فيظهر على القلب السالك بصورة تدريجية نموذج من رؤية التجليات الاسمائية، التي هي في حقيقة الامر هي المرتبة الاخرى من حضور القلب في المعبود ، وبعدها تحصل التجليات الذاتية، التي هي آخر مرتبة حضور القلب في محضر الحق وحضرته المقدسة الربوبية .

قال رسول الله (ص) :

((اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك))

وقال أمير المؤمنين علي (ع) :

((طوبى لمن خلص لله العبادة والدعاء، ولم يشغل قلبه مما تراه عيناه، ولا ينسى ذكر الله مما تسمع أذناه، ولم يحزن صدره بما أعطى غيره))

وقال أيضاً (ع) :

((إن قوماً عبدوا الله رغبة ، فتلك عبادة التجار ، وإن قوماً عبدوا الله رهبة، فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً، فتلك عبادة الأحرار))

وقال الإمام الصادق (ع) :

((إن الناس يعبدون الله عز وجل على ثلاثة أوجه : فطبقة يعبدون رغبة في ثوابه، فتلك عبادة الخرصاء، وهو الطمع .. وآخرون يعبدون خوفاً من النار، فتلك عبادة العبيد وهي الرهبة .. ولكني أعبده حباً له عز وجل، فتلك عبادة الكرام ، وهو الأمن لقوله عز وجل : وهم من فزع يومئذ آمنون.. ولقوله عز وجل : قل إن كنتم تحبون الله فإتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم فمن أحب الله عز وجل أحبه الله ، ومن أحبه الله تعالى كان من الآمنين)).

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com