د. زهير المخ/كاتب وأكاديمي عراقي

 zmuch@hotmail.com

في النهاية سيجدونهن. في أزقة البصرة أو العمارة أو في مكان آخر قريب. لا همّ، سيثمر "البحث" أياً تكن المهلة المحددة له. سيجدون رفات نساء مغدورات لأن علم رياضيات الأشلاء فخرنا الجديد بين الأمم، لا يطرح على نفسه إلا الأسئلة التي يعرف جوابها. سيجدون اللحم الحيّ المتناثر على أرصفة الطرق وفي المقابر المقفرة.

وبعد سماع تصريحات رسمية تتوعد القاتل - المحهول بالثبور وعظائم الأمور وتلقى في هذه المناسبة كلمات دبلوماسية تراعي شعور الجميع ولا تعني شيئا. وسينتهي، أو هكذا يأملون، الفصل الدامي من مسلسل العيب الذي بدأ ذات يوم من 2003 وما يزال مستمراً في مدن الجنوب العراقي التي غدت أرضاً مباحة لفرق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولمليشيات شيعية متشددة، وعصابات وأفراد محيطة بها، تنامت وتكاثرت "كالفطر بعد الشتاء" وبلغت أرقاماً من الصعب التدقيق في صحتها بحيث انخرط في صفوفها جهات حكومية، ومؤسسات أمنية، وميليشيات، وأفراد متشددين مدّعين بقضيتهم، وكذلك قتلة مأجورين.

لقد أدركت هذه القوى مجتمعة، ربما بغريزتها، أن فعاليتها السياسية تستند، من حيث الجوهر، على قدرتها في تحريك الحواس الشعبية والعصبية ضد الجنس الآخر أكثر مما تقوم على منطقها السياسي الداخلي. هذا الارتفاع بالوصف، لحال أهلية معينة، يفتح باب النقاش، ولا يقفله، وينقل السجال، ذا الجدوى، إلى مطارح جديدة.

لا تحتاج جريمة قتل النساء إلى تبرير أكثر من كلمة ينطقها احدهم بأنها منحلة أو زانية،
لكن لغة الواقع تشير إلى حقيقة أن طلائع القتيلات هن من حملة شهادة الدكتوراه وطبيبات ومهندسات  وناشطات في منظمات المجتمع المدني، إضافة طبعاً إلى موظفات وكادحات، وأخيرا من بائعات الهوى.

لا، لا يجوز. لن يكون مقبولا ولا مسموحا، في مجتمع رفض حتى الآن إخضاع نفسه لفحص ضمير، أن تمر هذه الجرائم دون أن يُسال عنها احد، دون أن نسأل أنفسنا عن مسؤولياتنا في استمرار هكذا جرائم.

ليس المطلوب هنا محاسبة القتلة والمجرمين جنائيا. ففلسفة العفو التي اختارتها الحكومة المركزية سبيلا إلى تمتين السلم الأهلي تستلزم طي الملفات القضائية كلها، وبخلاف ما نصت عليه حرفية قانون العفو نفسه. غير أن إغفال المحاسبة القانونية بسبب هذه الفلسفة المتيقظة إلى مستلزمات الخروج من العنف الأهلي أو بسبب الانتماء السياسي للقتلة لا يعني غياب المحاسبة الأخلاقية والمجتمعية.

وإذا كان الوسط الأصولي الشيعي المتماهي مع المصالح "الديبلوماسية" لإيران ومع غيرها من الحسابات الإقليمية الضيقة يتحمل المسؤولية الأولى في المصير الذي آلت إليه القتيلات، فإن هذا الوسط ليس وحده في قفص الاتهام. إليه تنضم كل القوى السياسية العراقية بشكل عام، التي لجأت يوما إلى سلاح العنف. وإلى من سيتذاكى ويعيب علينا عدم ذكر أفعال تنظيمات عراقية مسلحة أخرى في معرض هذه المحاسبة، نكتفي بالقول أن لا لوم عليها، فهي العدو، ومقارعته واجبة لا المقارنة به.

في قفص الاتهام، إذاً، كل من عزم على ألا يرى في الجنس الآخر سوى جنس آخر، قريبا كان أم بعيداً، كل من أغرق الفرد العراقي في عباءة الانتماءات المفروضة، كل من رفض وجود الجنس الآخر إلا جسدا للذّة أو المقايضة أو القتل. في قفص الاتهام ممارسة يجب وضعها في مرتبة القتل الجماعي، حتى لو كانت تجري أحيانا على قاعدة فردية. هي ممارسة القتل التي سدلت الستار، سنة بعد سنة، على حياة الآلاف من العراقيات قبل أن تحجب السلطات المملوكية عددا آخر منهن في أقبية الابتزاز الاستراتيجي. وهي، كالقتل الجماعي والقصف العشوائي للأحياء المدنية، ممارسة يثور عليها العقل بقدر ما تشمئز منها النفس.

ثمة  مقولة لهيغل ما تزال عصرية جداً: العقوبة حق المجرم، فهي اعتراف بإنسانيته، وإقرار ضمني بأنه تجاوز حدود آدميته. ما الإرث الذي خلفته لنا هذه الحقبة؟ عدنا القهقرى إلى عصر جديد من البربرية. كلنا مسؤول عن جرائم القتل هذه. فثمة خلل عميق في قيم المجتمع العراقي وأساليبه في التفكير.

ثمة إحراج كبير في التذكير بالمفارقة الأليمة التي جسدها القتل المجاني للنساء، والتي ما زالت ترمز إليها الضحايا. لم يكن يستحقن أن يعشن أحراراً في المدن الجنوبية التي نشأن. كن يستحقن أن يعشن أحراراً بمجرد كونهن بشراً. وما كان يجب أن يتغير شيء في انفعال من انفعل بيننا لو كان موتاً "عاديا". فموتهن في ذاته دليل بين دلائل عدة على درجة الهمجية التي بلغها مجتمع العراق، بمعزل عما كان يفترض أن يجعل النساء في منأى عن هذه الهمجية. إنهن لم يكن يستحقن القتل أقل من غيرهن. لكنهن بالتأكيد لم يكن يستحقن الموت أكثر من غيرهن.

بيد انه لا يمكن الهروب من مفارقات القتل الجماعي للنساء. فهي، إن لم تكن تضيف شيئا إلى امتهان كرامة الإنسان الذي تشكله ممارسة القتل، تلفتنا على الأقل إلى هذا الدرس اللاذع من العنف المجاني السائد في عراق اليوم: إن إلغاء الجنس الآخر ونفيه وقتله ما هو في النهاية إلا انتقاص من الذات المجتمعية. لذا وجب طلب الغفران مرتين، مرة من النساء المغدورات من خلال عائلاتهن وأصدقائهن ورفاقهن، ومرة أخرى من أنفسنا. 

 

كاتب وأكاديمي عراقي

zmuch@hotmail.com

المقال الاسبوعي المنشور في جريدة السيمر الالكترونية بتاريخ 24 . 06 . 2008

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com