البستاني، قرن وربع القرن من الزمن
محسن ظافرغريب
algharib@kabelfoon.nl
May 22, 2008 : وجه رئيس جمهورية العراق"جلال طالباني" برقية الى الزعماء اللبنانيين قائلا فيها:" إننا، أيها الأخوة الأعزاء، نعرف مدى قسوة التناحر بين أبناء الوطن الواحد، ولذا فأننا نشعر بأهمية ما أبديتم من حصافة في الدوحة لبلوغ تفاهم يبعدكم عن مزالق الإقتتال ويقترب بكم من ذرى التفاهم والإخاء الحقيقي وقبول الراي الآخر، والإقرار بدولة جامعة تحفظ لمواطنيها كافة حقوقا متساوية"!.
العراق أشبه ما كان وبان في لبنان بفارق قرن من زمان العراق وإيران، بدء بالفتنة الكبرى؛ (باشا الجزار)، الذي في ظله، ضاق لبنان ذرعا، بحفيد شرف الدين العاملي(صدر الدين جبل عامل) الشهير بالفارسي لجسارته على فاشية وشوفينية الدولة العربية التي غيبت في ليبيا الفرعون المعمر(قذافي) لاحقا حفيده الإمام موسى الصدر ، فنزح الى العراق سنة 1782م وتوفي سنة 1846م. حسن الصدر توفي في الكاظمية ببغداد سنة 1935م ونجله رئيس حكومة العراق الملكية محمد الصدر سنة 1956م الذي إفتتح أول برلمان عراقي سنة 1925م المتوفى. الصدر الأول؛ العلامة المفكر المفكك للماركسية بشقيها الفلسفي والإقتصادي محمد باقر الصدر قتله وأخته "صدام المعدوم" في 9 نيسان 1980م تاريخ فرار صدام في ذكرى مولده ومولد حزبه نيسان 2003م بعد تثنيته بإغتيال الصدر الثاني؛ محمد صادق الصدر سنة 1999م ونجليه مصطفى ومؤمل وأبقى نجليه الأصغرين مقتدى والفتى مرتضى !. ونتذكر الشهيد الأول؛ "محمد بن مكي" قتل سنة 1384م والشهيد الثاني "زين الدين العاملي" قتل سنة 1558م. ويذكرنا التسلسل بالمحقق الأول؛ "جعفر الحلي"(ت 1533م) والمحقق الثاني "نور الدين الكركي"(ت 1277م وأيضا بدء بنكبة 8 شباط الأسود 1963م. في ذكرى قرن وربع القرن من زمن وفاة رائد النهضة العربية المدنية المبكرة المتقدمة العلم المعلم بطرس البستاني عشية غرة آيار 1883م وكف يراعه عن إتمام الجزء 7 من أول أنسكلوبيديا عربية أوروبية الطراز، جددت"مكتبة لبنان" سنة 1977م طبعة معجمه لتكون في متناول الساعين الى العلم والمعرفة، موسوعته العلمية«دائرة المعارف». لأن العرب يجب أن يصبحوا مواطنين في عالم العلم والإختراع، ولأنهم يفتقرون ل«معارف الزمان وأسباب اتقان زراعته وصناعته وتجارته وهلم جرّاً مما هو من أسباب النجاح والثروة» إذ كانت نازلة لبنان فتنة 1860م الطائفية، فبادر البستاني لإصدار صفحة صحيفته صفحة واحدة أسبوعية(نفير سورية) عربية غير رسمية/ العدد الأول في 29 أيلول 1860م تضمنت مقالاً واحداً حرره البستاني بتوقيعه«من محبّ للوطن» والحديث«حب الوطن من الإيمان»:«يا أبناء الوطن إنكم تشربون ماء واحداً، وتتنسمون هواء واحداً، ولغتكم التي تتكلمون بها واحدة، وأرضكم التي تطأونها، فهي واحدة. وإذا كنتم لا تزالون الى الآن طائشين من عظيم المصائب الواقعة عليكم، فلا بد من أنكم ستستفيقون من هذه الغفلة وتدركون صالحكم العمومي، وأن شر الحروب وأقبحها وأشنعها الحروب الأصلية، لأنها تنافي كل المنافاة أسمى وأشرف الحقوق، كحقوق الجيرة والأخوة الوطنية».
ولد المعلم بطرس البستاني لأسرة مسيحية مارونية شهيرة برجالاتها الفطاحل في لغة القرآن العربية المبينة، وكان مولده هذا في قرية"الدبيبة" اللبنانية، في غرة شهر آيار قبل قرن و 9 عقود(1819م) وتعلم في مدرسة"عين ورقة" الشهيرة آنذاك؛ الشرع الكنسي واللاهوت والفلسفة، واللغات؛ اللاتينية، السريانية، الإيطالية، وتعلم ذاتيا الإنجليزية. سنة 1840م إتصل بالمبعوثين الأنجلوساكسون في العاصمة بيروت معتنقا مذهبهم، معلما للعربية ومستخدما في إدارة المطابع الأميركية. في سنة 1846م عاون دكتور كرنيليوس فاندايك في تأسيس مدرسة"عييه" ليعمل مدرسا فيها سنة 1860م. ثم نقل خدماته مترجما لدى القنصلية الأميركية في بيروت.
البستاني أول من أنشأ أول مدرسة وطنية عام 1863م في منطقة زقاق البلاط في بيروت، بإسم الحرية واحترام التنوع الديني والطائفي في ظل راية شجرة الوطن التي صارت لاحقا الأرز. «تربية محبة الوطن في قلوب تلامذتها، جاعلة الوطن علة الضمّ بينهم. وليس المقصود أن تكون مدرسة طائفية، بل إن أبوابها مفتوحة لجميع أبناء الوطن وغيرهم من كل جنس وملّة وطائفة من دون تعرُّض لمذاهبهم الخصوصية».
جمعت هذه المدرسة أساتذة وطلاباً من كل الطوائف، ومن أساتذتها الشيخ يوسف الأسير والشيخ أحمد عباس الأزهري وناصيف اليازجي وشاكر الخوري وسليم البستاني، وكان من تلامذتها أبناؤه سليمان البستاني مترجم الألياذة وسليم تقلا مؤسس صحيفة«الأهرام ونسيبه».
والبستاني أول من دعا العرب لتعليم المرأة وحقوقها الإجتماعية والإنسانية وكانت تعاني أفدح القهر والميز والمين والحرمان. «خطاب في تعليم النساء» في الجمعية السورية عام 1849م رأى ان الذين يصرّون على إبقاء المرأة في حالة الجهل والعبودية انما «ينزلون المرأة دون منزلتها المعيَّنة من باري الكون ويختلسون منها تلك الحقوق التي أقامها الله عز وجل. فالمرأة لم تخلق لكي تكون في العالم بمنزلة صنم يعبد أو أداة زينة تحفظ في البيت، وانما يجب ان تكون عضواً يليق بجماعة متمدنة». وانتهى البستاني في خطابه الى أنه يستحيل الإصلاح من دون تعليم المرأة، لأنه لا يمكن وجود العلم في عامة الرجال من دون وجوده في النساء.
عام 1870م أصدر البستاني مجلته«الجنان» جاعلاً شعارها الحديث النبوي الشريف«حب الوطن من الإيمان» سنة ثم صحيفة الجنة، مذكراً أن القصد «انفجار ينبوع الإفادة الحقيقية وترقية أسباب تقدم الوطن»، عكس على صفحاتها آراء وأفكار الأنتلجنسيا العربية في النصف الثاني من القرن 19م، واستقطب جل روّاد النهضة العربية من معاصريها، على صفحاتها، ومنهم فرنسيس ومريانا المراش.
ما دعا إليه البستاني من روح ثقافة وفكر النصف الثاني من القرن 19م، ما زال في القرن 21م مشروع عرب المستقبل. اعتبره المستشرق الروسي ذ. ل. ليفين بحق «أبا التنوير العربي». يقول ألبرت حوراني في «الفكر العربي» أول كاتب تكلم باعتزاز عن دمه العربي» في عصر النهضة» وأول من ألف قاموساً عربياً مرتباً وفق الأحرف الأبجدية. أعطى البستاني للغة العربية دوراً أساساً في النهضة والتمدّن، إذ لا تمدن في رأيه من دون لغة تسايره وتواكبه، واللغة العربية هي «شامة في وجه اللغات» وإذا ما قيست بغيرها «كانت هي كالبحر وهو كالجدول» لكن أهلها الذين «رضعوها مع اللبن» يصرفون في تعلم أصولها أكثر مما يصرفون في اكتساب اللغات الغربية. ما حدا بالبستاني الى تأليف قاموسه«محيط المحيط» الذي ذكر في مقدمته أن جلّ اهتمامه«أن يرى أبناء وطنه يتقدمون في المعارف والآداب والتمدن تحت لغتهم الشريفة، وأن تكون وسائط ذلك متيسرة لخاصتهم وعامتهم على أتمّ ما يرام». ثم أتبع هذا القاموس بآخر «قطر المحيط» هيِّن المراس، سهل المأخذ«ليكون للطلبة مصباحاً، يكشف لهم عما أشكل من مفردات اللغة التي معرفتها نصف العلم». واستحق أن تقول فيه «المقتطف»: «إذا أعملنا النظر في الأعمال التي اصطنعها هذا الرجل، لفاقت أعماله أعمال ثلاثة رجال من فضلاء الناس بعيديّ الهمة، ماضيّ العزيمة، غزيري العلم والمعارف. ويرثيه أديب إسحق بقوله: «إن المصيبة فيك مصيبة الوطن يا من أنفقت العمر في خدمته، فأي أثر أدبي لم تكن أنت البادئ به أو الداعي اليه وأي مشروع مفيد لم تكن أنت الشارع فيه أو المعين عليه»، ويصفه مارون عبود بـ «الفرد الذي قام بأعمال تعجز عنها الجماعات» . فقف للمعلم وفه التبجيلا/ كاد المعلم أن يكون رسولا!، كما قال أمير الشعر العربي/ الكردي الأصل أحمد شوقي بيك. وقى الله أطياف العراق ولبنان في ظل سيدة الشجر عمتنا النخلة وفي ظل الأرزة، من جور الزمان وأبناء العم والجوار والجار الجنب.
العودة الى الصفحة الرئيسية
في بنت الرافدينفي الويب