رسالة حب إلى صديقي الدكتور عدنان الظاهر



فلاح أمين الرهيمي
abu.zahid1@yahoo.com

قد يبدوا الأمر شخصيا أو مجرد رسالة لصديق ليس محلها أن تنشر في الحوار المتمدن،ولكنها ليست شخصية بقدر ما هي استذكار لأيام سلفت،وشهادة عن فترة عصيبة كان لصديقي الظاهر فيها أكثر من أثر.ولمناسبة انطلاق موقعه الخاص رأيت أثبات شهادتي عنه من خلال علاقتي الطويلة معه.

إلى صديقي الرفيق الحبيب الدكتور عدنان الظاهر أبو (قرطبة وأمثل) الذي أستقر في حنايا قلبي منذ لقائي الأول به ولحد الآن، فقد عرفته مناضلا منذ زمن بعيد،تعلوا يمينه شمسا أفقها رحب،وباليد الأخرى ترفرف الراية الحمراء مطرز عليها وطن حر وشعب سعيد،تلك القامة الشامخة،والهامة الجريئة الجسورة التي لم تنحني لعاصفات الرياح ،ولم تلويها المحن والمصائب والجبروت،وذلك الوجه الباسم الذي تطرز محياه ابتسامة تنبع من قلب تتجسد فيه كل المعاني الإنسانية،أتذكر ذلك اليوم المشئوم الذي تجمع فيه حثالات الأوباش من صنائع الرجعية وأعداء الثورة للاعتداء عليك ،ولكنك كنت كالأسد الهصور تزداد عنفوانا وعزيمة...كانوا يخافون الاقتراب منك،لكن ذلك الأبكم الشرير الذي لا يحسب حسابه جاء من خلفك في غفلة منك وضربك على رأسك فسالت الدماء الزكية لترسم خطوطها على ذلك الوجه الجميل،أرادوا أن يقتلوا الابتسامة على محياك،وأرادوا أن يثبطوا عزيمتك وأرادتك وأقدامك حيث كانت تلك الأيام من سنة 1961 يجري التحضير لانتخابات نقابة المعلمين،فكنت اللولب والدا ينمو والمحرك والجريء الشجاع والصوت الهادر الذي تتكسر على أمواجه سهام تلك العصابات المأجورة،فخاب فألهم وفأل من ساندهم ابتداء من متصرف اللواء وانتهاء بأداة الجريمة الأبكم الذي سخره أبناء السوء لارتكاب فعله الجبان،فكنت المناضل المقدام الذي لا تثنيه الصعاب،ولا تخيفه الأراجيف،وواصلت مهمتك

الشريفة وأنت معصوب الرأس.

عرفتك شيوعيا قبل ثورة تموز وبعدها،باسلا مقداما ومناضلا شجاعا من خلال مسيرتنا الدائبة في سفر النضال الطويل ،ننهل من معين المبادئ،ونتنسم رحيق العقيدة،فكان انتماؤنا وانحيازنا للمبادئ الإنسانية،يتجسد فيه وبين ثناياه كل الحب والإخلاص للإنسان وعظمته وكبريائه ،وكان نضالنا وتفانينا من أجل ذلك الرمز العظيم(الحزب الشيوعي العراقي) الذي يمثل ما هو أكبر وأوسع من انتمائنا لأي رقعة جغرافية أو عرقية أو دينية في المجتمع الإنساني،وتوجهنا بكل طاقاتنا وأمانينا وآمالنا ،يحدونا الأمل والرجاء لتحقيق أهدافنا في خلاص الإنسان من العبودية والاستغلال والحرمان،وتحقيق أماني الشعب في الوطن الحر والشعب السعيد،حتى وأن كلفنا ذلك حياتنا،وكنا نتمناه ونفرح به ونسعى إليه بدون خوف أو تردد وأصبحنا كما يقول الشاعر:

يجود بالنفس أن ظن الجواد بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود كنت أحترمك وأعتز بعلاقتي معك،فأصبحت ليس رفيقا فقط بل الصديق الحميم والأخ الشفيق،وكنت أحمل البريد الحزبي إلى داركم (مقابل معمل الكوكا)فتستقبلني العائلة الكريمة بلطف يجعلني أبنا من أبنائها ،فكان تعاملهم يسمو كما تسموا مكانتك في قلبي،وكانت أخلاقهم مثل أخلاقك ومثلك وقيمك الروحية،ثم افترقنا فذهبت في بعثة الى الإتحاد السوفيتي لأن طموحك من أجل التقدم العلمي والتطور الإنساني يدفعك للبحث عن الحقيقة،لإدراكك أن الركود العلمي وحالة السكون والتقوقع تحمل جمودا،فذهبت باحثا عن الجديد في العلم والتقدم والمغرفة من خلال استخدام أسلوب التثوير لأدوات البحث العلمي،وافترقنا وكأنك انتزعت من قلبي،ومضى كل منا في طريق،لكنه في المحصلة النهائية طريق واحد هو طريق الشعب...وسارت الأيام تعصف بي وأعصف بها حتى انتهيت الى السجن الذي ما انتهى في 8 شباط 1963 والردة الرجعية السوداء التي ابتلعت الجمهورية الفتية ونحن معها الى واد سحيق ،وظلام دامس ،هائمين في الصحارى والوديان وبعد أن قضيت سنة ونصف خرجت منه أصم الأدنيين نتيجة تمزق الطبلة،فاستطعت مغادرة العراق الى لبنان وتشاء الأقدار أن التقي في مصيف بحمدون صيف1964 بالدكتور الراحل كاظم محمد الجاسم العائد من موسكو مع والده محمد جاسم الربيعي،فدعوتهم الى مصيف فالوغا لتناول الغداء،فلبوا الدعوة مشكورين،فسألتهم عن أخبارك،فأخبرني بأنك في لبنان الآن،وفي صباح اليوم التالي نهضت باكرا وتوجهت الى بيروت أفتش عنك في سوق (سرسق)وهو سوق تتبضع منه العوائل العراقية ما تحتاجه من ملابس ومواد،فقضيت اليوم الأول وأنا أتجول ناظرا في الوجوه أبحث عن وجه صبوح بشوش حتى جن المساء دون جدوى،وفي اليوم التالي أخبرني شخص أعرفه بوجودك في السوق،فأسرعت باحثا عنك،ولمحتك عن بعد بقامتك المعروفة،ومعك المرحومة الراحلة شقيقتك وأبنتها الراحلة أيضا – استشهدتا في حادث سيارة في مدينة السليمانية حينما كانتا في زيارة له – فالتقيت بك بالدموع والقبل وعدت معهما حيث يسكنان قرب السيدة في دمشق،والتقيت بك في اليوم التالي في بيروت وذهبنا معا الى مصيف فالوغا الذي اخترته لإقامتي لجوه الرائع وموقعه البديع،وبعد أن قضينا يوما جميلا نستعيد ذكريات الماضي بحلوها ومرها،عدنا بعد الظهر مشيا على الأقدام الى مصيف(هانا) الذي يقع أسفل الجبل،وفي اليوم الثالث التقيت بك في بيروت لشراء ملابس وهدايا لزملائك في موسكو،،وفي اليوم الرابع ودعتك حيث سافرت عائدا الى الاتحاد السوفيتي،وتشاء الصدف وأنا في عمان لإكمال دراستي، أن التقي بأخيك الراحل عبد الجليل فكان لقاء حميما كنت أنت محور أحاديثنا،وعدت الى العراق لألتقي بك مع زوجتك الفاضلة فذهبنا الى مدينة بابل الأثرية وتناولنا الغداء في مطاعمها،وافترقنا مرة أخرى،وبقيت أتطلع الى أخبارك بشغف وحنين،الى أن هيأة الظروف والصدف وحدها أيضا أن أتعرف على إنسان يجمع من الشمائل أطيبها ومن الأخلاق أرفعها،أخي وصديقي محمد علي محيي الدين ،الذي كان ينشر مقالاتي في المواقع الإلكترونية،وأخبرني عن مراسلاته معك وما يعرف من أخبارك فكان واسطة الخير لتبادل الأخبار فيما بيننا فألف شكر لرفيق الدرب أبا زاهد على ما تجشم من عناء للتقريب بين أحبة أبعدتهم السنين العجاف.
والآن بعد أن هدأت العاصفة وسارت الأيام والليالي بعقود من السنين وأنا وأنت وجميع الرفاق أصبحنا غرباء حتى مع أنفسنا،وكأنها هي القياس ،بعد أن أصبحت الحياة والقيم الروحية للإنسان والمجتمع على أكثر من وتيرة،ودارت قواعدها على أكثر من محور،ولقحت بأكثر من عبرة وتجربة،حتى أصبحت الحياة تسير بشكل مقلوب،فاستذكرت قول الشاعر:

ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا تجاهلت حتى قيل أني جاهل

وبعد أن تكلمت معك بأحاديث الشباب،الآن أتكلم معك بحديث الشيخ الذي يعيش في خريف العمر،ويركب راحلته ليواصل رحلته الأخيرة الى القبر، وحينما يأخذ من التعب والإرهاق مأخذه،ويمس روحي الحنين والشوق، وتنتعش النفس بالفيض من الذكريات،أجلس على أطلال ماضينا،وأترك العنان لنفسي لتقول ما يعتمل فيها من ألم الذكرى ،فتنسكب الدموع،وتنطلق الآهات،فأتذكر أبو عبيس وأبو رهيب وطالب عبد الأمير ووهاب القاضي وغيرهم من أولئك الأبطال الشجعان الذين أرسوا القيم الوطنية والنضالية على قاعدة صلبة لا تنال منها عوادي الأيام،فأخاطب نفسي وأقول:

( لست أدري...أين نحن الآن أم أين أنا..ضاعت أيامي وأحلام المنى) وختاما أقول :السلام على ذياك القلب المثقل بحب الإنسانية ....السلام على ذلك الإنسان الذي تتجسد فيه كل القيم الروحية والمثل العليا والرجولة والشجاعة الدكتور عدنان عبد الكريم الظاهر ...الطاهر.. ودمت لأخيك ورفيقك المخلص...

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com