|
د. حامد العطية يقولون بأن الحكومة العراقية ستوقع على الاتفاقية الأمنية، أو مذكرة تفاهم أو ملحق أمني، وبالشروط التي تمليها أمريكا، وعلى الرغم من أنوف كل المراجع، مهما عظموا، ورغماً على إرادة العراقيين، ولو أجمعوا على رفضها، وعندما سيخير الأمريكان الساسة العراقيين بين التوقيع على الاتفاقية وخسارة مناصبهم فلن يتخلف عن التوقيع سوى المجاهرون بمعارضتهم اليوم، لذا من المهم معرفة مصير العراق بعد خمس سنوات من التوقيع، لا رجماً بالغيب، وإنما استشرافاً للمستقبل على أساس المعطيات الحالية والمعلومات المتوفرة، فهل ستتحقق وعود أنصار أمريكا بأن العراق وبفضل الرعاية الأمريكية سيصبح شبيهاً بكوريا الجنوبية وسنغافورة أم سيصيبه العجز الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي انهك النظامين الربيبين لأمريكا في الفلبين ومصر؟ لنبدأ بالوضع السياسي، لأنه المحرك الرئيس للتغيير، وكذلك المرآة العاكسة للحراك العام، ومن المتوقع أن تشهد السنوات الخمس القادمة تغييرات جذرية، من أهمها ترسيخ النظام الفدرالي من خلال تقسيم العراق إلى أربعة أقاليم رئيسة، شيعي في الجنوب وسني في الغرب والشمال وكردي في الشرق والشمال واقليم بغداد المختلط، مما سيزيد من تعقد الوضع السياسي، وستضطرب العلاقات بين المركز والأقليم وبين الأقاليم أيضاً، بسبب تطاول الأقليم على سلطات المركز، وتعزز نزعة الانفصال في الأقليم الكردي، الذي سصبح مرتبطاً بالمركز شكلياً فقط. ستسفر التطورات السياسية ما بعد الاتفاق عن خاسرين ورابحين في العملية السياسية، ومن المتوقع تدني شعبية الأحزاب الشيعية ذات الصبغة الدينية المؤيدة للاتفاقية، وعلى رأسها المجلس الشيعي وحزب الدعوة، وستمهد خسارتها لمعظم مقاعدها في البرلمان الطريق لاتخاذ الحكومة العراقية، التي ستتشكل في أوائل العقد الثاني من هذا القرن، وبتشجيع وإسناد من السفارة الأمريكية، قراراً بفصل السياسة عن الدين وحظر الأحزاب الدينية ومنع رجال الدين من العمل السياسي، وسيضطر بعض قادة هذه الأحزاب والجماعات لمغادرة العراق واعتزال السياسة. وكما هو منتظر فستوطد الاتفاقية الأمنية الهيمنة الأمريكية على أوضاع العراق، وستغدو السفارة الأمريكية صاحبة القرار السياسي والاقتصادي فعلياً، وستنجح بواسطة الترغيب والترهيب في السيطرة تماماً على البرلمان والحكومة، فيصبح الولاء لأمريكا وسياساتها في العراق ثمن الفوز بمقعد في البرلمان، وستمتليء مقاعد البرلمان بالمنافقين والوصوليين من شيوخ العشائر واثرياء الاحتلال، وتتدهور فاعلية العملية السياسية، نتيجة ترسخ النزعات الطائفية والعشائرية في النفوس، وغياب البرامج السياسية الجادة، واشتداد حدة تهافت السياسيين الوصوليين على المناصب الوزارية، والتبدلات السريعة في التكتلات البرلمانية، وقصر عمر الوزارات العراقية، مما سيدفع العراقيون للترحم على الأوضاع السياسية غير المستقرة في العراق آبان العهد الملكي، ولن يستبعد بعض المراقبين حدوث موجة من الانقلابات العسكرية وبموافقة أمريكية للخروج من الدوامة السياسية. ستجبر السياسات الحكومية القمعية معارضي الهيمنة الأمريكية على التحول إلى العمل السري، وستنشط المعارضة المسلحة في الجنوب بصورة خاصة، والنتيجة تكبد القوات الأمريكية المرابطة في العراق خسائر بشرية ومادية جسيمة، ولن تفلح المؤسسات الاستخبارية والأمنية الأمريكية والعراقية في وضع حد للمقاومة الشيعية المسلحة، وستؤدي الاجراءات الأمنية الاستثنائية، بما فيها فرق الموت والاعتقالات العشوائية والسجون السرية، إلى إشاعة الذعر بين العراقيين وتصاعد سخطهم على الأمريكان والحكومة العراقية التابعة لهم. كان الهدف الرئيس لاحتلال أمريكا للعراق ضمان وجود نظام تابع لها وتحصين البوابة الشرقية بوجه إيران بعد تخلخلها نتيجة وهن النظام البعثي، ولكن لن يتحقق لها من ذلك غير اليسير، فسيخيب أمل أمريكا في ايقاف البرنامج النووي الأمريكي، وبالتحديد بعد تسرب وثائق عن البرنامج تؤكد امتلاك إيران لعدد غير محدد من القنابل النووية والصواريخ الباليستية الحاملة لها، وعلى الرغم من انكار إيران لذلك رسمياً فسيجمع المختصون على صحة الأنباء المسربة، وفي نفس الفترة الزمنية سيزداد اهتمام روسيا والصين والهند بمنطقة الخليج، وستنشط هذه الدول في معارضة السياسات الأمريكية في المنطقة، خاصة بعد استئثار الشركات الأمريكية والأوروبية الغربية بعقود الاستثمار النفطية والبتروكيماوية الخليجية، مما سيجعلها تقتنع أخيراً بأن أمريكا عازمة على التحكم بالاقتصاد العالمي من خلال السيطرة على نفط الخليج، كما من المتوقع تضعضع جبهة حلفاء أمريكا نتيجة تعمق الخلاف داخل العائلة السعودية حول نظام وراثة الحكم، وتصاعد مطالبة السعوديين بالحقوق السياسية، وسيساهم هذا الوضع في تفاقم الصراع داخل الكيان الصهيوني، وبالتالي تزايد حركة الهجرة اليهودية المعاكسة. في الاقتصاد، كما في السياسة، ستثبت الحقائق المادية بطلان توقعات أنصار امريكا والاتفاقية الأمنية أو مذكرة التفاهم بحدوث ازدهار اقتصادي، فلايزال العراق وبعد خمس سنوات من توقيع الاتفاقية الأمنية مثقلاً بالديون الضخمة التي تستنزف فوائدها مليارات الدولارات من عوائد النفط سنوياً، وستضطر الحكومة العراقية لدفع مليارات الدولارات للحكومة الأمريكية مقابل عمليات التدريب والتطوير والدعم الأمريكي للقوات العراقية والإدارة المدنية، كما أن توزيع نسبة كبيرة من المتبقي من إيرادات الميزانية على المناطق سيترك القليل للصرف على مشاريع التنمية الشاملة المستدامة. سينعكس الاضطراب السياسي وتغلغل الانتهازيين وأصحاب المصالح الخاصة في العملية السياسية على مجمل الوضع الاقتصادي والإداري والاجتماعي، ولن تنجح السياسات الاقتصادية في ايجاد حلول لمشكلات العراق الاقتصادية شبه المزمنة، فنسبة البطالة مرتفعة، خاصة بين الشباب وخريجي الجامعات والكليات، ولن تساعد المشاريع والبرامج التنموية في تشغيل سوى نسبة محدودة من جيوش العاطلين المزمنين والزيادة السنوية في طالبي الوظائف والعمل، وعلى النقيض من توقعات المستشارين الاقتصاديين الأمريكيين العاملين لدى الحكومة العراقية ستكون استجابة رأس المال الخاص للحوافز الحكومية ضئيلة، وستبقى مشاركة القطاع الخاص في تكوين رأس المال التنموي محدودة وعند نسب متدنية، وفي الوقت ذات ستزداد مخاوف العراقيين من هجمة رأس المال الأجنبي والخليجي على اقتصادهم المحلي، ولن يكتفي الخليجيون بشراء الحصص المقررة لرأس المال الأجنبي في المؤسسات الحكومية المخصخصة والشركات العراقية، بل سيسعون للحصول على أسهم وحصص تزيد على ذلك متسترين بشركاء عراقيين، ويتبين استياء العراقيين الشديد من هذا الوضع باطلاقهم تسمية "اليهود الجدد" على الخليجيين، إشارة منهم إلى سيطرة اليهود على اقتصاد العراق ما قبل أواسط خمسينات القرن الماضي. وبسبب الغلاء والبطالة والفساد ستتدنى مستويات معيشة معظم العراقيين، وسنشهد اختفاء الطبقة المعاشية الوسطى بصورة نهائية، وستضطر أعداد كبيرة من العراقيين للهجرة طلباً للعمل في دول الخليج الأعرابية وغيرها، وستزداد نسبة النساء العاملات بينهم، وسنسمع لأول مرة بنساء عراقيات يتنافسن مع الفليبنيات والسريلانكيات على وظائف خادمات في دول الخليج، وسنقرأ عن تعرض البعض منهن للاغتصاب والتعذيب، مما سيزيد من نقمة العراقيين على الحكومة العراقية والأمريكيين والخليجيين. سيكون للتدهور السياسي والاقتصادي نتائج متباينة على الصعيد الاجتماعي، وسينقسم المجتمع العراقي لا على أساس طائفي أو إثني بل على خلفية دينية-أخلاقية، فمن جهة سيجد الانتهازيون والوصوليون والطفيليون مجالاً رحباً لاصطياد الفرص وجني المنافع وجمع الثروات على حساب الأكفاء والمخلصين، مما سيضعف الإلتزام بقيم العمل الجاد والأخلاق السامية بين بعض أفراد المجتمع، وفي الوقت ذاته سيزداد التدين بين قطاعات واسعة من الشعب العراقي، الذين سيعتبرون الدين وأحكامه وأخلاقياته خلاصهم الوحيد من الانحطاط الحثيث في مجتمعهم، وسينضم العديد من هؤلاء للمقاومة المسلحة ضد القوات الأمريكية والحكومة العراقية. قد يجد البعض في هذه التوقعات الاستشرافية لمستقبل العراق في السنوات القليلة القادمة بعد توقيع الاتفاقية الأمنية أو مذكرة التفاهم أو الملحق الأمني إسرافاً في التشاؤم أو تجاهلاً لتجارب أخرى، ولسنا بحاجة إلى البحث بعيداً للتيقن من موضوعية وتوازن هذه التوقعات السلبية فلازالت ذاكرتنا تختزن تجربة السنوات الخمس الماضية، وما أسفرت عنه من نتائج كارثية على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العراق، فلماذا نتوقع خيراً في السنوات القادمة مع استمرار الاحتلال والطائفية السياسية وعودة البعثيين وصحوة الإرهابيين وتوزير أشباه الأميين وتوظيف المرتشين والفاسدين؟
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |