ولادة نوارس دجلة .. ولادة ضوع فرح
 

فرات المحسن

f_almohsen@hotmail.com

مساء جميل شفيف. زخات مطر صيفية. لا دلائل هناك تشير لرحيل الشمس، فنهارات السويد الصيفية طويلة تمتد دون حساب وشمسها لاتعاف السماء بسهولة.قرصها الكبير بألق ألوانه ينحدر نحو الأفق ببطء شديد.. فارش فوق سطوح البنايات العالية غمامة من لون وردي مصفر..الساعة قاربت الثامنة مساءا ولكن سطوع الضوء وحركة الناس لاتدل على أن الظلمة ستتسرب قريبا الى الشوارع.. ضجيج الناس يملأ المكان...الأسواق..المقاهي المطاعم ..تجمعات لصبية وشباب، مثلما تجلس للدردشة في زاوية الشارع البعيدة بعض عجائز... كل شيء يوحي بحيوية الحياة وعنفوانها في تلك الضاحية من العاصمة ستوكهولم.الوجوه الكثيرة المارة توحي بتنوع الأقوام لسكان هذه المنطقة المسماة هوسبي.الترجمة الحرفية للكلمة تعني قرية البيت..أي بيت هذا، كيف كان وأين يقع وهل كانت المنطقة سابقا غابة يتوسطها بيت فلاحي تقطنه عائلة واحدة مما جعل سكان المناطق الأخرى يطلقون تسمية ( قرية البيت )على البقعة من تلك الغابة الكثيفة ..أم ياترى أن البيت كان قصرا لأحد ملاك الأراضي أنفرد به وسط الغابة فأطلق الفلاحون على بيته تسمية قرية ربما أنشأة لاحقا..

فجأة سحبني صاحبي من يدي ونبهني بأن برنامج الحفل سيبدأ فعفت مشاهداتي وانطباعاتي عما يدور حولي في تلك المنطقة..ألتفت نحو الحضور الكثيف أمام باب قاعة الفعاليات وهي الصالة الواقعة في قلب منطقة هوسبي حيث يقيم نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي احتفاليته السنوية (أيام الثقافة العراقية ).عفت ورائي حيوية الشارع وولجت القاعة من بين الزحام الكثيف والحضور غير العادي لهذه الفعاليات.اليوم هو ثالث أيام الثقافة العراقية.بدأ بمعارض منوعة للفن التشكيلي وصور تاريخية عن العراق وعن تأريخ العملة السويدية وصور للعراق الحديث ثم تم عرض فلم سيرة زعيم عن شخصية الشهيد عبد الكريم قاسم وكان بعده محاضرة للدكتور عقيل الناصري أعقبها محاضرة للأستاذ محمد القحط عن نصب الحرية رمز الثورة للنحات جواد سليم.

الدور الآن لشيء مختلف كليا ..شكل استثنائي ..متعة من نوع أخر لا علاقة لها بمعلومة بحثية أو حديث عن تاريخ وفرصة كبت ومضت.. لا شيء يجمع الفقرة القادمة بما دار الحديث عنه في فقرات الحفل السابقة سوى مشاركته اياها يوم الاحتفال بالذكرى الخمسين لثورة 14 تموز.فعالية أخرى بخصوصية تجمع بين الدهشة والفرح وبهجة لروح تواقة للسعادة.هكذا وعدنا.

لم أكن أعرف أن للفرقة تسمية خاصة لذا اتفقنا في البداية داخل اللجنة الثقافية لنادي 14 تموز الديمقراطي العراقي والتي أعدت وأشرفت على تنفيذ المشروع، أطلاق تسمية فرقة الإنشاد التراثية على الفرقة النسوية التي أسستها جمعية المرأة العراقية في ستوكهولم والتي أعلمتنا بأنها سوف تشارك بها في مهرجان أيام الثقافة العراقية الذي يقيمه النادي سنويا.أذن موعدنا اليوم مع فرقة جديدة وسوف تقدم النساء أغان تراثية..أغان من الزمن الجميل..هكذا كانت المعلومة، مجرد أخبار وإعلام لاغير..أما كيف ستكون عليه الفرقة..كيف يتسنى لها تقديم أغانيها..ما هو المظهر الذي سوف تواجه به الجمهور، كل ذلك كان مخفيا في جعبة جمعية المرأة العراقية.تلك الجمعية التي أسستها نسوة عراقيات في ستوكهولم قبل أكثر من العشر سنوات قدمن خلالها جهدا كبيرا في مختلف النشاطات النسوية والجماهيرية.قدمن ومازلن نشاطا مميزا أكسبهن احترام الجالية العراقية وأعطين انطباع جدي عن قوة أرادة وتصميم المرأة العراقية وتعلقها بأبناء وطنها ليس في الخارج فقط لا بل أن روابط ونشاط هذه الجمعية أمتد ومنذ الأيام الأولى لتأسيسها نحو داخل الوطن ولذا فأن الجمعية تمد يد العون بشكل دوري لأبناء العراق عبر مساعدات طبية أو مالية.

أعلنتُ عن الفقرة وطلبتُ من قائد الفرقة الفنان المبدع الوديع عبد النور أن يعتلي المنصة ليقدم زميلاته..مقدمة عبد النور كانت قطعة جميلة من كلمات منضودة حشد فيها تعابير محبة ووهج فرح وعرفان لنسوة استعدادهن فاق كل توقع.

وضع عبد النور فوق رأسه سدارة بغدادية وأمسك عوده. بدت مظاهر القلق ظاهرة فوق وجهه الأسمر الدقيق القسمات.هذه اللحظة لها من الخصوصية الكثير في قلب هذا الشاب الطيب والمثابر، فهي تجربة من نوع جديد. شاب يافع يقود مجموعة من نسوة ليشكل معهن فرقة إنشاد خلال فترة قصيرة جدا، أكون صادقا أن قلت أنها لم تتعدى أسابيع معدودة. شجاعة وبسالة غير معهودة تسجل لهذا الشاب وقبله لهذه المجموعة من النسوة اللاتي تجمعن ليفصحن بقوة عن مشهد جديد.عن أبداع جديد.عن قدرة جديدة...وليطرزن معه سماء القاعة بملايين الفراشات والزهور.

تقدمت الفرقة..تقدمت النسوة مثل شجرات ورد تميس فوق العشب..واحدة أثر الأخرى بخطوات ثابتة أعتلين خشبة المسرح..تقدمن بوقار وكياسة. ألوان طافحة بالبهجة تختلط مع الوجوه الباشة والثياب التي تتدلى منها عناقيد وخيوط مذهبة طرزت الهاشميات العراقية التي ارتدينها. تتفتح فوق وجوههن آلاف البراعم..يزهر وينبثق من عيونهن نرجس البراري..وجوهن تضيء مثل الدرر.. يتلفتن باحثات بين الجمهور الذي امتلأت به القاعة عن ردة الفعل.. بادرهن الجمهور بما يليق. فمع دهشة البعض وفرحه وقف الجمهور تحية لهن وضجت القاعة بالتصفيق والهلاهل.

بدأت لحظات الحسم . مالذي ينوين تقديمه الآن..هل ياترى يستطعن أنجاح التجربة. ياترى يستطعن أن يقدمن مايرضي الجمهور...كيف سيكون مستوى أدائهن..

أسئلة دارت بخلد لجنة النادي المشرفة على المشروع وحتما في ذهن الجمهور لحظتها..دقائق ويكون هناك ما يحسم الموقف..بداية الظهور كانت رائعة، مثلما أعلنت عنها وجوههن عبر طمأنينة وقوة عرضنها بابتسامات رضية وعيون طافحة بالفرح والثقة.

دندن عود عبد النور لتشرق لحظتها أصوات موسيقى متوهجة مبهجة..حمائم ساحرات طارت فوق صمت الجمهور وترقبه..بدأت الأغنية الأولى ...الليلة حلوة ... حلوه وجميلة..أصوات شذية تتسرب من شفاه مفعمة بالحياة..ربوة من زمرد تلتمع وهسيس سعف النخيل يعيدنا لتخوم ذاك الألق العراقي الذي فاض في القلب حد الوله المجنون حتى وأن كان بمفردات الوجع والتعب...ثم كانت الأخرى.. عيون عيون بكَلبي ..صارن من عيونك ...أية لغة مذهلة فواحة بعطر البساتين صاغها الراحل سيف الدين ولائي ليضعها في قلوب أهله العراقيين..أية عيون تلك التي طبعت قُبلها فوق قلوبنا وأعادت اليوم فرقة نوارس دجلة النسائية نثرها بمودة وحنو في أرواحنا.أكمل رسم لوحة العشق الأزلي الفنان عبد النور لينفرد صادحا بأغنية الوجد والهيام بالعراق الحبيب لتضج معها القاعة بالتصفيق عرفانا بمحبة أزلية لوطن ليس ككل الأوطان.ثم تتالت الأغاني حيث تسقي الحبيبة بكفيها محبوبها بماء العشق، سارية معه نحو مدينة الكون والحضارة الأولى مدينة الناصرية.. ثم نقترب من نهاية قصيدة الصفاء ونشيد الحب حين تتألق الفرقة بترديد أغنية يا عشكَنه فرحة الطير اليرد لعشوشه عصاري...وكأنها ترنيمة لغفوة طفل فوق ذراع أمه توعده بأن الوطن لن يكون غير بعد خطوات مهما طال الزمن وأن الطيور لما تزل تعيش على هذا الأمل.

أنهت الفرقة الغناء ووقفت النسوة والفنان عبد النور يحيون الجمهور الذي غصت به القاعة.. لقد قدمن أخواتنا، زوجاتنا، بناتنا، رفيقاتنا وزميلاتنا ما جعل القاعة تضج بالتصفيق وتقف أجلالا واحتراما للمرأة وهي تفصح عن طبيعة الحياة الحرة وحيويتها وروح واشراقة الأمل في قلوب العراقيين، لابل الفرح والسعادة والنجاح المبهر والتألق الذي قدمته وكانت عليه فرقة نوارس دجلة جعل فوضى السعادة والانبهار تعم قاعة الفعاليات وكان العرفان والرضا واضح فوق وجوه الجميع. كان نجاحا بكل ما تحمله كلمة نجاح من معان..

احتفينا بسعة قلوبنا ليس فقط بالنجاح الهائل والغناء الأصيل والحرفية المبهرة التي قدمتها الفرقة وإنما كان فرحنا وسعادتنا دون حدود بولادة فرقة نوارس دجلة التابعة لجمعية المرأة العراقية في ستوكهولم.

كنا بحاجة ماسة لأن نطلق نوارس أخرى جديدة ... أن نسمع هدير يكتسح دياجير العتمة في أرواحنا...أن يزهر فينا ألق لفرح تمنيناه أن يكون دائما صنونا فوجدناه اليوم يطلع علينا مثل البروق الفواحة عبر زوجاتنا وأخواتنا وبناتنا...أنهن نساء العراق الجميلات الجليلات، فتتن ولو لدقائق تعب الشعور بقسوة غربة ووجع وطن تتلقفه عيوننا الباكية كل يوم.

لنحتفي جميعا بتلك الفرقة الباسلة ولنسعى أن تكون اشراقة تلتمع فاتنة معطاء في أيامنا جميعها .. لنصونها ونحافظ عليها ونرعاها في حدقات العيون..

لهن ولعبد النور ولجمعية المرأة العراقية في ستوكهولم ولنادي 14 تموز الديمقراطي العراقي الشكر الجزيل والعرفان الدائم.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com