بنت الرافدين

الدكـاترة‏ .. ‏إسمـاعيل سـراج الدين

سنـاء البيـسي

ما إن كنا نسمع وقع خطاه قادمة من نهاية الممر إلا ويعتدل كل منا في جلسته ليبدو في مظهر المنكب علي عمله لا يخرجه عن إطار التجويد فيه كائنا من كان حتي ولو كان الدكتور إسماعيل سراج الدين ذات نفسه رئيس العمل ونائب رئيس البنك الدولي‏,‏ من سعدت بالعمل تحت إشرافه في ذلك الصرح العالمي بمدينة واشنطن في عام‏1998‏ ضمن أفراد البعثة الفنية المصرية التي استدعاها للقيام بتصميم كتب مناهج التعليم في المملكة العربية السعودية‏,‏ وأبدا لا أنسي ذلك الفخر الذي كنا نتجول به‏,‏ ونتحدث من منطلقه كمصريين في أروقة الأجانب نعمل مع مثقف مصري وعالمي وصل بمواهبه الخاصة إلي أعلي منصب دولي يمكن أن يصل إليه واحد من العالم الثالث‏,‏ المنصب الذي يكاد يكون احتكارا أمريكيا‏..‏ في العمل معه تجده هادئا كسطح بحيرة‏.‏ حازما كقائد كتيبة علي وشك المواجهة‏.‏ منصتا باهتمام لآخر ما في جعبتك من ركام‏.‏ متحدثا يجبرك علمه الغزير في ميادين المعارف علي متابعته بشغف‏,‏ والحسرة علي أن أي وقت معه يفوت أو فات‏.‏ مبتسما بوجه طفولي جميل القسمات كأن لقاءك به كان في انتظاره‏,‏ وكأن معرفته بك قد سبقت زمانها‏,‏

وكأن لا فارق في منزلتك عنده ومكانة عشرات من علماء نوبل من أصدقائه ومعارفه‏..‏ محمد إسماعيل أنيس سراج الدين مهندس الحياة المجامل إلي حد تعليقه الإنساني الحميم عندما اقترحنا أمامه وقتها من باب المداعبة ــ وكان كل منا قد تم التأمين علي حياته كمستشار من قبل البنك بمائة ألف دولار ــ أن يضحي أحدنا في سبيل المجموع بالموافقة علي أن يدفعه زميله من الرصيف لأرض الطريق الجنوني ليقسم مبلغ التأمين علي حياته في حالة البقية في حياته علي بقية الزملاء من باب التكافل والترابط وفك الأزمات المالية‏,‏ فسارع بقوله المتخم بكرامة وعزة المصري‏:‏ والله ولا مليون دولار في مقابل أن ينال من أحدكم الأذي‏..‏ وصدقناه أو حاولنا تصديقه‏..‏ وساعة أن تقدم الدكتور إسماعيل في عام‏1999‏ بترشيح نفسه لمنصب الأمين العام لمنظمة التربية والثقافة والعلوم العالمية اليونسكو استبشرت خيرا من إسناد ذلك المنصب الإنساني إليه‏,‏ فقد لمست عن قرب كيف يحول هذا الرجل المنصب إلي إنسانية دون أن يستخدم لا سيف المعز ولا ذهبه‏,‏ فقد ذهب المعز منذ أكثر من ألف عام إلي رحاب الله‏,‏ وقد احتكر النظام العالمي الجديد بقواته المحمولة جوا وصواريخه الذكية وأسواق أمواله العالمية كل شيء‏..‏

لكنه ترك هامشا يضيق هنا ويتسع هناك للذين مازالوا في عالمنا يحترمون الإنسان ومقدراته كأثمن رأسمال‏.‏ ويعد إسماعيل سراج الدين واحدا من هؤلاء‏..‏ واحدا من أبناء مصر الحقيقيين الذين ورثوا أرقي وأنقي ما في تراثهم المصري والعربي والإسلامي من قيم رفيعة أهلتهم للتفاعل مع القيم الكبري لحضارة العصر‏..‏ مصريون خلفهم عمق حضاري وعلم مستقبلي ينتج عنه المصري العالمي هبة مصر والنيل ومياه الأمطار الإفريقية والبحر المتوسط للعالم‏,‏ حيث تلتقي عبقرية الفرد وعبقرية المكان وحداثة الزمان و‏..‏ وتنتهي معركة اليونسكو التي أسفرت عن فوز ماتسورا سفير اليابان بفرنسا بعدما ألقت اليابان بكل ثقلها وراءه وكان لها ما أرادت خاصة في غيبة أمريكا عن الاهتمام بمثل هذا المنصب‏,‏ ويدلي سراج الدين برأيه‏:‏ كان لي تصور مختلف في النظر إلي هذا المنصب يقوم علي أنه إذا لم يكن للمثقفين رأي في اختيار رئيس منظمة الثقافة فمن يكون له رأي إذن؟‏!‏ والذي حركني من البداية للنهاية التفاف عدد كبير من العلماء والمثقفين من أنحاء العالم حولي ومن ضمنهم مجموعة من الحاصلين علي جائزة نوبل‏,‏ وقد طالبوني بالترشيح‏,‏ واتصلت بالمسئولين في مصر وأعربوا عن استعدادهم لترشيحي وحصلوا علي موافقة الدول الإفريقية علي دعمي‏..,‏

وإذا ما كانت النتائج قد أسفرت عن خيبة أمل مثقفي العالم فإن تلك الانتخابات قد أزاحت الستار عن أعمال وشخصية سراج الدين وإنجازاته العلمية التي لم تكن معروفة ولا يوفي بقدرها الرفيع في مصر مما لفت الأنظار للاستفادة من خبراته بأسرع وقت‏..‏ وكان الدور علي إحياء مكتبة الإسكندرية‏..‏

سراج الدين من مواليد شارع الهرم بالجيزة في‏9‏ من مايو‏1944‏ حتي الانتقال إلي منزل آخر قريب من كوبري الجامعة عام‏1950.‏ والده المهندس المعماري والمقاول أنيس سراج الدين أول من شيد حمامات السباحة فوق ظهر العمائر‏,‏ ومؤسس اتحاد الانزلاق علي الماء واتحاد ةهواة صيد السمك ووكيل نادي اليخت المنتمي إلي عائلة سراج الدين الوفدية‏,‏ فهو ابن عم فؤاد سراج الدين القطب الوفدي البارز‏,‏ ووالدته ليلي إبراهيم أستاذة الآثار الإسلامية بالجامعة الأمريكية وخبيرة الآثار المملوكي ابنة الدكتور علي باشا إبراهيم رائد الطب الشهير‏..‏ التحق إسماعيل صغيرا بالمدرسة الناصرية الابتدائية الخاصة التي تقع في شارع شامبليون بوسط القاهرة وأنشأها أمين باشا سامي ناظر المعارف ليتخرج فيها من المشاهير مصطفي وعلي أمين والجراح الكبير إبراهيم بدران‏..‏ التحق بها إسماعيل بعد استشارة الأهل عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين عندما لمسوا حب الصغير للعلم فوافق علي دخوله المدرسة قبل السن المحددة ليتميز فيها بالخط البديع وحبه للفن والتاريخ‏,‏ حيث كان يجمع أقرانه لزيارة المتاحف‏,‏

وما أن فهم أن الهيدروجين والأوكسجين يكونان الماء معا بنسبة‏2‏ ــ‏1‏ الذي منه كل شيء حتي سمحت له والدته بأن يقيم في البيت معملا للتجارب‏..‏ وفي تلك السن الصغيرة في المرحلة الابتدائية قام بإصدار مجلة حائط اسماها المستقبل وصمم لها شعارا مكونا من فلكي يرصد بمنظاره الأفق متابعا مسار الكواكب والنجوم‏,‏ ويتسع تبويب المجلة ومساحتها المتصدرة لحوار أجراه ابن السابعة مع الصحفي الكبير فكري أباظة في النادي الأهلي‏..‏ وفي الأورمان الثانوية النموذجية كانت كل مجموعة من التلاميذ تتحلق حول مشروع‏,‏ وكان مشروع سراج الدين تقطير المياه الإرهاص المبكر الذي جعله يري أن المياه هي قضية البشرية المقبلة لتبرز مجلة نيوزويك ومحطة الـسي‏.‏ إن‏.‏ إن في عام‏1995‏ تحذير إسماعيل صاحب أول الأصوات التي نجحت في إدراج قضية المياه في أجندة التنمية الدولية‏,‏ حيث قال‏:‏ إذا كانت حروب هذا القرن علي النفط فإن حروب القرن القادم ستكون علي المياه‏,‏ إلا إذا قمنا بتغيير أسلوب تعاملنا مع إدارة المياه‏,‏ وينجح سراج الدين في إنشاء المجلس العالمي للمياه ليرأسه خلال سنواته الأربع الأولي‏,‏

ثم يتولي رئاسة اللجنة الدولية للمياه التي جمعت أكثر من مائة منظمة وخمسة عشر ألف شخص حول العالم لتصدر تقريرها المهم نحو عالم يسوده الأمن المائي الذي تمت مناقشته بحضور ستة آلاف شخص في لاهاي في مارس‏2000,‏ وفي قمة جوهانسبرج عام‏2002‏ يكون للمياه النصيب الأكبر من المناقشات‏,‏ وفي عام‏2003‏ يشارك ما يزيد علي عشرين ألف شخص في المنتدي العالمي الثالث للمياه الذي عقد في اليابان‏,‏ وكانت الشرارة الأولي قد انبثقت من مشروع سراج الدين في الأورمان الثانوية التي تخرج فيها وعمره لم يتجاوز الخامسة عشرة بترتيب الرابع علي الجمهورية‏..‏ ويلتحق بكلية الهندسة جامعة القاهرة ليدرس العمارة ويتخرج أول الدفعة ليتسلم جائزة التفوق من الرئيس عبدالناصر في عيد العلم عام‏1964..‏

وحول تعاطيه السياسة مثل كثير من أبناء جيله يقول الدكتور إسماعيل‏:‏ كانت فترة الخمسينيات والستينيات ثرية جدا‏,‏ فهناك معركة الاستقلال والكفاح ضد الاستعمار المتوغل في الشرق الأوسط وإفريقيا‏,‏ وقد عشنا بوجداننا قضية فلسطين وجلاء الإنجليز عن مصر وحرب استقلال الجزائر والوحدة مع سوريا‏,‏ ثم الانفصال وأحداث كبري عديدة‏,‏ لكن ممارستي السياسة بالمعني الحقيقي بدأت في الخارج‏,‏ وكنت مسئولا عن النشاط الثقافي بمنظمة الطلبة العرب في أمريكا مما جعلني في وش المدفع‏,‏ وفي صدام دائم مع الطرف الصهاينة في الإعلام الأمريكي خاصة بعد النكسة التي كان لها وقع قاس علينا لدرجة رغبتنا في قطع البعثة والعودة إلي مصر‏,‏ لكن الرئيس عبدالناصر طالبنا بالاستمرار في الدراسة‏,‏ لأن معركتنا تحتاج إلي التسلح بالعلم والحضارة إلي جانب العتاد‏.‏

صاحب رسالة الدكتوراه حول دور التعليم في التنمية من جامعة هارفارد عام‏1972‏ و‏60‏كتابا و‏21‏دكتوراه فخرية لم يتم منحه أيا منها بسبب مناصبه الرسمية بل علي إنجازات متفردة‏,‏ فعلي سبيل المثال حين منحه المعهد الهندي للبحوث الزراعية درجة الدكتوراه‏,‏ كان إسماعيل سراج الدين ثاني شخصية غير هندية يحصل عليها الأول كان نورمان بورلاوج الحاصل علي جائزة نوبل‏,‏ والشيء نفسه مع الكونسرفتوار الوطني للفنون والمهن بفرنسا الذي قام بمنح سراج الدين درجة الدكتوراه مرتين‏,‏ وهي سابقة لم تحدث طوال تاريخ الكونسرفتوار الذي يمتد لمائتي عام إلا مع سراج الدين وروبرت سولوا الحاصل علي جائزة نوبل‏,‏ كما منحته الحكومة الفرنسية وسام الآداب والفنون برتبة ضابط‏,‏ وكانت أحدث دكتوراه حصل عليها الدكتور إسماعيل في عام‏2007‏ في تنمية المجتمع من جامعة خازارباكو أذربيجان‏..‏ وتعد فرنسا أكثر الدول التي قامت بتكريمه‏,‏ فإلي جانب رتبة الضابط ودرجات الكونسرفتوار منحته جامعة بول ساباتييه بتولوز عام‏2004‏ الدكتوراه في الآداب وجامعة نانت عام‏2006‏ دكتوراه مماثلة‏,‏

وكانت للدكتوراه التي منحتها له الهند عام‏1998‏ من جامعة تاميل نادو طبيعة خاصة فهي لعلوم الحيوان والطب البيطري‏,‏ وتفردت دكتوراه جامعة مينوسوتا بالولايات المتحدة الأمريكية عام‏2005‏ بأنها في الحقوق‏..‏ وكان سراج الدين وثيق الصلة بالعديد من الشخصيات الدولية المرموقة ومنها جورباتشوف وكارتر ومانديلا الذي يصفه بالمناضل العظيم‏..‏

ونسأله عما إذا كانت الحضارات كائنات تضعف وتهرم وتموت‏,‏ وعما إذا كان القرن الذي نعيشه مقبرة لبعضها‏,‏ فيجيب‏:‏ إن مثل هذا المصير قد حدث وسيحدث‏,‏ فقد بدأنا القرن الماضي بستة آلاف لغة‏,‏ لم يبق منها علي قيد الحياة في نهاية القرن سوي‏600‏ فقط‏,‏ ولا أتخيل استمرارها جميعا‏,‏ فغالبيتها محصورة في مجموعات ضيقة‏,‏ بينما الناس تتحرك والانفتاح يزيد‏,‏ لتتطلب الحاجة لغات تفهمها الغالبية‏,‏ ومن هنا سيشتد الطلب علي الإنجليزية لغة العلم والتجارة‏,‏ التي ستصبح بمثابة اللغة الثانية لجميع الدول‏,‏ وقد يبدو في ذلك نوع من الهيمنة لكن علينا ألا ننسي أن الأمر كان هكذا بالنسبة للإغريقية في فترة وبعدها العربية‏,‏ وهذا الأمر لا يضيع الهوية‏,‏ ولكنه يزيد فرص الانفتاح علي الآخر‏,‏ وأنا ــ والكلام علي لسانه ــ كمثال لست متخوفا‏,‏ فقد عشت أكثر من ثلاثين عاما خارج الوطن‏,‏ لكني مازلت أحمل جواز سفري المصري‏,‏ واقرأ الثقافة الإسلامية العربية‏,‏ وأمارس شعائر ديني‏,‏ ولم تضع ذاتي‏,‏ لكني كسبت انفتاحا علي الآخر وليس أجدر منها في صحبتنا إلي كواليس الدكاترة إسماعيل سراج الدين‏..‏

شقيقته الدكتورة هدي رئيس الجمعية المصرية لحماية الملكية الفكرية ــ الشقيقة الثانية مني أستاذة التخطيط بجامعة هارفارد ــ التي نبحر معها في رحلة التكوين للأخ الأكبر إسماعيل فنجده كما تقول د‏.‏ هدي في جميع أطوار حياته نموذجا للجدية التي لا يدعيها في العمل أو البيت‏,‏ حتي إنه قام بتعليم نفسه الفرنسية ليجيدها التقاطا من كتب الشقيقتين اللتين كانتا تدرسان في مدارس الراهبات‏:‏ حب المعرفة كان أساسيا في تركيبته الإنسانية‏,‏ لا يكتفي بالمنهج الدراسي وإنما يدور من حوله يوسع مداركه بالاطلاع علي الكتب والمراجع التي يشتريها من مصروفه‏..‏ لم يلحقه الوالدان بالتعليم الأجنبي بإصرار منهما علي المدارس الحكومية ليزداد اهتماما بقضايا الوطن‏..‏ منذ طفولته وهو في صحبة الكبار‏..‏ قام بحمل المسئولية صغيرا بعد رحيل الوالد المأساوي إثر حادث سيارة حيث كان قادما من رحلة صيد بالغردقة وشاء القدر أن يقضي نحبه وحده بينما بقي صديقاه علي قيد الحياة‏..‏ لم يرث إسماعيل عن الوالد هواية صيد السمك معترضا علي قسوة انتهاك سلام لوحة الحياة المائية وسكانها‏,‏ وإن ورث عنه عشقه للماء والغوص في البحر الأحمر ليؤلف كتابا عن الشعب المرجانية‏,‏ وأطلق استغاثة دولية لحمايتها‏,‏

ولاتساع صدر الماء وأغواره له كشفت له شواطئ المرجان وخلجانها عن كنوزها ليطلق علي أحد أنواعها اسمه لتضمه الموسوعة العالمية‏..‏ و‏..‏ كان مما لفت نظري أثناء الدراسة أن أخي إسماعيل رغم التحاقه بكلية الهندسة هناك كان يمضي غالبية الوقت بين المحاضرات عندنا في كلية الآداب بحجة أن الكافيتريا فيها أفضل منها عندهم‏,‏ واكتشفت أن المسألة ليست لها علاقة بمستوي الخدمة أو رحابة المكان أو الإطار العام‏,‏ وإنما لأن قلب الأخ العزيز قد مال لإحدي الزميلات في قسم الأدب الفرنسي وهي نيفين مدكور ابنة العالم الراحل الدكتور إبراهيم بيومي مدكور رئيس المجمع اللغوي التي نجحت بتفوق لتغدو معيدة بالكلية‏,‏ ولم ينتظر إسماعيل انتهاءه من الدكتوراه التي سافرفي بعثة لنيلها من جامعة هارفارد فأرسل ليتزوج نيفين بالتوكيل من هناك لتغدو شريكة حياة مستقرة واعدة وأما لابنه الوحيد عمر محامي القانون الدولي في واشنطن وجدة للأحفاد طارق ومالك‏..‏ وسأظل أبدا أتابع نصيحة إسماعيل عندما قال لي لا تحكمي علي كتاب أو بحث عن طريق سماع آراء الآخرين فيه‏,‏ ولكن قومي بقراءته بنفسك ودققي وتأكدي ومن بعدها اطلقي حكمك‏...‏

إسماعيل سراج الدين رئيس العمل الذي لمست بنفسي دأبه علي العمل لمدة‏18‏ ساعة يوميا في عام‏1998‏ ـ يعطيه الله العافية وامسكوا الخشب ـ لايزال منضبطا علي تلك السرعة وذلك المستحيل من الإنجاز‏,‏ وقلبي علي الفريق الذي يعمل معه ومن قياداته الدكتور محسن يوسف أبرز واجهة لمفهوم الدينامو‏,‏ الفريق الذي استطاع تحت قيادة المايسترو سراج الدين كمدير لمكتبة الإسكندرية في مدة لا تزيد علي خمس سنوات استقبال أكثر من مليون زائر سنويا وتنظيم أكثر من خمسمائة حدث ثقافي في كل عام‏..‏و‏..‏و‏...‏ لقد كان اسم مكتبة الإسكندرية بمثابة الكلمة السحرية التي لها وقع خاص بوجدان إسماعيل‏,‏ ولولاها لما ترك منصبه الدولي في واشنطن ليحقق هدفه منها في أن تكون نافذة العالم علي مصر ونافذة مصر علي العالم‏,‏ وملتقي للحوار‏.‏

المؤمن الملتزم بعودة الروح لمكتبة الإسكندرية ـ التي تقوم مطبعتها الإلكترونية الحديثة ـ الثانية من نوعها علي مستوي العالم وثمنها مليون دولار ـ بطبع أي كتاب من جميع التخصصات في‏10‏ دقائق باستخدام الليزر‏,‏ كان دائما منفتحا علي جميع الثقافات والفنون الرفيعة‏,‏ فهو ابن الأسرة التي غرست لديه حب الشعر والتاريخ والتراث والفلسفة والعمارة حتي أن زكريا محيي الدين رئيس الوزراء وقتها‏,‏ سمح له بالسفر للحصول علي الماجستير بعد أسابيع من تعيينه معيدا في هندسة القاهرة ـ تقديرا لنبوغه ـ فالتخصص في رأي إسماعيل لا ينفي توسيع دائرة المعارف‏,‏ وهو في ذلك الحفيد الذي أورثه الجد علي باشا إبراهيم رائد الطب اهتماماته المتشعبة‏,‏ حيث جمع بين مهنته في مداواة البشر وعشقه للآثار الإسلامية‏,‏ فإلي جانب حمله لقب الجراح الاستشاري للحضرة العلية السلطانية بعدما إجرائه جراحة ناجحة للسلطان حسين كامل ليكافئه باللقب ومبلغ ألف جنيه ذهبا‏,‏ وتأسيسه لنقابة الأطباء المصرية ليغدو أول نقيب لها‏,‏ وتشييده لقصر العيني الجديد عام‏1928‏ بعد نجاح علاجه للملك فؤاد‏,‏

حيث أقنعه بالتنازل عن الأرض التي كان قد خصصها لبناء قصر منيف لولي العهد فاروق‏,‏ وإنشائه لجامعة فاروق الأول بالإسكندرية والجمعية الطبية المصرية‏..‏ إلي جانب ذلك كان الجد عضوا بمجمع اللغة العربية وعاشقا وخبيرا في الآثار المصرية خاصة السجاد‏,‏ وقد أهدي مجموعات نادرة من مقتنياته إلي متحف الفن الإسلامي بالقاهرة ومتحف الآثار بكلية الآثار بجامعة القاهرة‏,‏ وكان له عدة بحوث حول عالم النسيج‏.‏

سراج الدين الذي انتخب شخصية العام في مهرجان القرين الثقافي بالكويت عام‏2002,‏ المتعدد المتنوع الاهتمامات‏..‏ من المياه إلي العولمة‏..‏ من البيئة إلي التنمية‏..‏ من العمارة للأدب‏..‏ من حقوق الإنسان إلي التراث الإنساني‏..‏ من الطاقة للبطالة‏..‏ من ناطحات السحاب لبيوت من رمل في جائزة أغاخان‏..‏ من المرأة إلي الكتاب‏..‏ من بنك الفقير إلي حرية التعبير‏..‏ من أبي العلاء المعري لوليم شكسبير‏..‏ الشاعر الإنجليزي العالمي‏1564‏ ــ‏1616‏ الذي ألف عنه إسماعيل كتابا فريدا معجبا به كواحد من أكبر الأدباء الإنسانيين العظماء الذين حاولوا في كل ما كتبوه أن يعالجوا المشكلات الكبري للإنسان والحياة‏.‏ ولو أغمضنا عيوننا بعد قراءة شكسبير وتساءلنا ما هو المختصر الذي يريده الأديب العظيم‏,‏ فالإجابة الصحيحة سوف تكون أن رؤية شكسبير الكبري ما هي إلا دعوة إلي التواضع الإنساني الصادق فمنطقه‏:‏ تواضعوا فلن تكونوا أكبر من ملوك سقطوا عن عروشهم وهم في أوج مجدهم وقوتهم‏,‏ ولن تكونوا أقوي من أصحاب سلطان تدحرجوا من فوق القمة فجأة وأصبحوا لا يملكون من أمر أنفسهم شيئا‏..‏ و‏..‏ من طبع وطبيعة محمد إسماعيل سراج الدين التواضع الجم‏.‏

ويبلغ العدد المائة من ندوات منتدي الحوار في مكتبة الإسكندرية‏..‏ كانت الندوة الأولي في يونيه‏2003‏ بعنوان تطور علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بالعالم خلال القرن العشرين التي تحدث فيها الدكتور إسماعيل سراج الدين والدكتور عبدالمنعم سعيد‏,‏ وآخرها هذا الأسبوع بعنوان حرية التعبير التي قال فيها الدكتور سراج الدين كلمته الشاملة‏,‏ حيث يمتلك ناصية الاستيلاء علي مجامع سمع الحاضرين كصاحب لقب أفضل محاضر في العالم الذي حاز عليه من الدنمارك في عام‏2001,‏ والتي أورد فيها قبول التراث العربي الإسلامي للتعددية والرأي الآخر حتي لو وصل إلي صور استفزازية‏,‏ واستشهد بأقوال وأشعار من التراث تجاوزت حتي علي المقدسات دون أن يفضي بأصحابها إلي الاعتقال أو الترهيب‏,‏ وضرب مثلا باتساع أفق الدولة الإسلامية عن طريق التراجم في مرحلة مبكرة من تاريخها مما فتح النوافذ أمام العقل المسلم والحضارة الإسلامية علي كل مواريث العلوم في مختلف الحضارات التي سبقت ظهور الإسلام ــ حتي ليذكر ابن النديم في مؤلفه الفهرس أسماء أكثر من سبعين من التراجمة عن اليونانية والسريانية والفارسية والهندية إلي العربية‏,‏ وهي لغات العلم العالمي في ذلك التاريخ‏,‏

ورأينا عند ابن رشد‏:‏ إنه يجب علينا أن نستعين علي ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك‏..‏ سواء أكان مشاركا لنا في الملة أو غير مشارك في الملة‏..‏ فننظر فيما قالوه من ذلك‏,‏ فإن كان صوابا قبلناه منهم‏,‏ وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عليه‏..‏ وحتي جمال الدين الأفغاني قد قال‏:‏ إن أبا العلم وأمه هو الدليل‏..‏ والحقيقة تلتمس حيث يوجد الدليل‏..‏ ومن قبل جميع هؤلاء قوله صلي الله عليه وسلم‏:‏ الحكمة ضالة المؤمن‏,‏ أني وجدها فهو أحق الناس بها‏..‏ و‏..‏ تتصارع المنصة في منتدي الحوار حيث لم يستطع الدكتور جابر عصفور القائم بإدارة الندوة بما جبل عليه من التصدي بروية لتصحيح ما يراه من وجهة نظره خروجا علي نتائج قد توصل إليها‏,‏ فيقوم في النهاية بتعقيب فحواه أنه كان قد أمضي أكثر من عام من حياته في رصد الشعراء والأدباء والمفكرين الذين سحلوا وبترت أيديهم من خلاف عقابا علي تجاوزاتهم فوجدهم بالعشرات‏,‏ وأنه لم تكن هناك تلك الحرية الواسعة في التعبير المكفولة في التراث العربي كما قد يبدو من كلام الدكتور إسماعيل‏..‏

الدكتور الذي يبادر باستعادة الكلمة فهو من له الكلمة الأولي والأخيرة ورئيس المكتبة والداعي لحرية التعبير ليقول بأنه عندما ساق بعضا من الأقوال الشجاعة من التراث قد ضربها كأمثلة لها مدلولها لكنه لم يعمم‏,‏ وهو الآخر يستطيع ذكر عشرات في التراث العربي والإسلامي ممن لاقوا عذابهم عقابا علي تجاوزهم‏..‏ وظلت المواجهة سجالا للذاكرة الحديدية لقمتي الثقافة المصرية‏,‏ المحفور علي جدرانها المعلقات‏,‏ وقصائد التراث في المديح والرثاء والفخر والقهر وتحرر الفكر‏.‏

وما بين البداية والنهاية أنصت في الندوة المائة للجدال‏,‏ فعند الحديث عن حرية الرأي فإن مظهره حق الجدال‏,‏ والجدال في العربية فيه معني الصلابة‏,‏ والجدل هو عنف الخصومة في المناقشة‏,‏ وأكثر ما يستعمل الجدال والمجادلة في صراع الآراء والأفكار‏,‏ حيث يحاول كل مجادل أن يحكم رأيه ويناضل عنه في صلابة‏,‏ وفي القرآن الكريم ما نفهم منه أن كثرة الجدل ظاهرة إنسانية من تلك الخواص التي تميز الإنسان عن غيره من الكائنات ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل‏,‏ وكان الإنسان أكثر شيء جدلا‏,‏ ومن هنا قدر الإسلام ــ وهو دين الفطرة ــ طبيعة الإنسان التي تختلف عن طبيعة الملائكة وبقية الكائنات فأفسح له وجه العذر حين يكون جداله عن رأي حر وفكر حر ونية خالصة‏,‏ لأن هذا الجدال من لوازم إنسانيته التي حمل أمانتها‏..‏ ولقد جادلت امرأة مسلمة رسول الله صلي الله عليه وسلم في زوجها حين ظاهر منها‏,‏ فلما لم تجد لدي الرسول ما يفرج كربتها اشتكت إلي الله فسمع سبحانه قولها ونزلت فيها آيات المجادلة‏:‏ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلي الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير‏..‏ ويروي عن عمر رضي الله عنه أن الرسول صلي الله عليه وسلم كان إذا دخلت عليه تلك التي جادلته‏,‏ أكرمها وقال‏:‏ لقد سمع الله لها‏.‏

العودة الى الصفحة الرئيسية