|
الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي وتحدياتها
د. جواد بشارة / باريس تسلمت فرنسا رسمياً في الأول من شهر تموز 2008 رئاسة الاتحاد الأوروبي لفترة ستة أشهر، وهي فترة قصيرة، بالقياس إلى ما تحتاجه لتحقيق جميع المشاريع التي تعدها إبان رئاستها للاتحاد ، لاسيما أنها تصادفت في موسم الصيف والعطلة الصيفية التي تمتد لشهرين ـ تموز وآب ـ وهما شهران ميتان في بروكسل بالعرف الدبلوماسي والسياسي حيث يذهب الجميع إلى العطلة السنوية ولاتوجد نشاطات تذكر عدا النشاطات السياحية، لذلك كان أول مظهر للرئاسة الفرنسية هو إكساء برج إيفل بالحلة الأوروبية وتغيير إنارته من الأصفر إلى الأزرق وهو لون الاتحاد مع نجوم الاتحاد السبعة والعشرين. وستكون رئاسة صعبة بسبب الرفض الإيرلندي لمعاهدة لشبونة ورفض الحكومة البولونية التصديق علة المعاهدة ذاتها، ولهذه الأحداث تبعات وانعكاسات سلبية على البرنامج الفرنسي الذي أعدته الرئاسة الفرنسية قبل أشهر عديدة لكي تكون رئاسة فرنسا للاتحاد ، على حد قول جان بيير جويه Jean Pierre Jouyet ، سكرتير دولة مكلف بالشؤون الأوروبية،:" رئاسة مواطنية، عصرية ، وبيئية". أوروبا المواطنة: ماذا تعني للفرنسي العادي صيغة " المواطنة الأوروبية"، خاصة بعد رفض الفرنسيين بالاستفتاء للدستور الأوروبي؟ قد تعني تحقيق مصالحة بين أوروبا والمواطن الفرنسي حتى وإن لم تظهر هذه الغاية بوضوح صريح ورسمي في أولويات الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي، فهذا الانشغال والرغبة باديتان للعيان ومعلنتان من جانب الحكومة الفرنسية، وهو هدف ليس سهلاً تحقيقه خاصة عندما نعلم أن أكثر من ثلث الفرنسيين ينظرون إلى البناء الأوروبي بنوع من الخشية، وكمصدر للمتاعب، وتعقيد لحياتهم اليومية وتكبيلها بالقيود والتضحيات، كما ثبت ذلك من استطلاعات الرأي ونقله تييري شوبانThierry Chopin الذي اعترف في نفس الوقت أن علاقة الفرنسيين بأوروبا تطورت خلال السنوات العشرة المنصرمة. أعرب الفرنسيون عن قلقهم من أوروبا ، كما ذكر ألان لاماسورAlain amassoure النائب الأوروبي وصاحب تقرير المواطن والحق الجماعاتي "Le citoyen et le droit communautaire" بمناسبة الاستفتاء على الدستور الأوروبي سنة 2005 وتضمن تقريره 61 مقترحا ملموساً وتوصيات عملية. ومما لاشك فيه أن رفض الأيرلنديين في 11 حزيران الماضي لمعاهدة لشبونة قد زرع الشك في نفوس المواطنين الفرنسيين الذين لم تدعوهم حكومتهم للإدلاء بآرائهم بشأن هذه المعاهدة. فقد أعرب 41% بالمائة من الفرنسيين المستجوبين من قبل مؤسسة استطلاع الرأي BVA عن موقفهم بأنهم يعتقدون بضرورة التخلي عن معاهدة لشبونة ورفضها، ولكن من الصعب على الأعضاء الـ 27 في الاتحاد الأوروبي التخلي عن نص الاتفاقية أو المعاهدة التي توصلوا إليها بشق الأنفس بعد عشر سنوات من المفاوضات الدستورية المكثفة ويشعروا أنهم توصلوا إلى أفضل صيغة تسوية جماعية ممكنة. ستكون مهمة فرنسا الرئيسية للخروج من الأزمة في اجتماع المجلس الأوروبي في أكتوبر القادم هو إيجاد الحل أو المخرج الدستوري للتخلص من هذا المأزق الدستوري الذي دخل فيه الاتحاد الأوروبي والمناورة لاختيار رئيس المجلس الأوروبي القادم الذي سيتم اختياره بعد يناير 2009 . ستكرس الرئاسة الفرنسية نفسها في الأشهر الستة القادمة لخدمة 26 بلداً أوروبياً شريكاً. فإلى جانب الأزمة الدستورية الناجمة عن الرفض الأيرلندي، ستعد فرنسا، بالتشاور مع جمهورية التشيك والسويد اللذين سيعقبانها في الرئاسة على التوالي، برنامج أولويات من شأنه تقديم الإجابات على التحديات المطروحة حالياً والتي يواجهها الاتحاد الأوروبي. وعلى رأس تلك الأوليات تأكيد موقع ومكانة ودور الاتحاد الأوروبي على المسرح الدولي لاسيما حيال جيران الاتحاد من غير الأعضاء كروسيا والصين على سبيل المثال لا الحصر.وفي هذا السياق ذاته محاولة إنجاز ، وبأفضل السبل الممكنة، مشروع الاتحاد المتوسطي الذي تكفلت به الحكومة الفرنسية ورعته، والذي سيعلن عملياً في 13 تموز القادم بمناسبة القمة الفرنسية ـ المتوسطية التي ستعقد حول هذا الملف، كما صرح هنري غينو Henri Guaino المستشار الخاص للرئيس ساركوزي. كما أدرجت فرنسا في جدول أعمالها واهتماماتها الرئيسية مسألة الدفاع الأوروبي المشترك، وهو الموضوع الذي يلاقي تجاذبات وتباينات شديدة داخل الاتحاد الأوروبي وهو الموضوع الذي قدم كأحد الأسباب والتبريرات والذرائع للرفض الأيرلندي لمعاهدة لشبونة.والمعروف أن فرنسا ترغب في إنهاء مسألة عودتها للقيادة المركزية الموحدة للحلف الأطلسي قبل نهاية عام 2008 بالتوازي مع تطوير مشروع الدفاع الأوربي المشترك وتحقيق تقدم حقيقي في سياسة الدفاع الأوروبية.. ومن بين الملفات العاجلة التي تريد الرئاسة الفرنسية معالجتها في هذه الفترة الوجيزة، التقدم في إدارة تدفق الهجرة غير الشرعية من خلال تبني حلف أو ميثاق أوروبي مشترك حول الهجرة واللجوء. وكان تصويت البرلمان الأوروبي في 18 حزيران الماضي 2008 على توجيهات تخص " عودة وإعادة" المهاجرين واللاجئين ، بمثابة الخطوة الأولى نحو سياسة أوروبية مشتركة بخصوص هذا الملف. وكان تبنى هذا القرار قد أثار زوبعة من ردود الأفعال لاسيما من جانب مؤسسات المجتمع المدني ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان ومكافحة العنصرية والتمييز العنصري. وستستغل فرنسا فترة الأشهر الستة القادمة لرئاستها للاتحاد الأوروبي لتقديم حصيلة ختامية للسياسة الزراعية المشتركة المعروفة باسم "باك Politique Agricole Commune PAC " والبدء بإعادة ترشيد وتوجيه هذه السياسة على ضوء النقاشات والسجالات التي ستنظم لمناقشة مستقبلها بعد العام 2013. تحتل البيئة وحمايتها مجمل اهتمامات المواطنين الأوروبيين وقد أظهرت استطلاعات الرأي أن 27% من الفرنسيين يعتبرون هذا الملف من أهم المواضيع ويجب أن يتبوأ صدارة أولويات الرئاسة الفرنسية للاتحاد. حسب تصريح ناتالي موريزية سكرتير دولة مكلفة بمسألة البيئة Nathalie Kosciusko-Morizet, Secrétaire d'Etat chargée de l'Ecologie والتي صرحت أن فرنسا واعية لذلك ويتعين عليها أن تلعب دور المحرك في المفاوضات الدولية المتعلقة بالتغيرات المناخية. لذلك تسعى فرنسا لإقناع الأعضاء السبعة والعشرين في الاتحاد للتوقيع على ميثاق " الطاقة ـ والمناخ " والذي يتضمن الخطوات والإجراءات التي تبناها المجلس الأوروبي في آذار 2007 والتي قدمتها اللجنة الأوروبية في يناير الماضي والتي من شأنها فتح الطريق ، في حالة إقرارها باتفاق سريع بين الشركاء، أمام موقف مشترك للاتحاد، ضروري ولابد منه، استعداداً للمفاوضات الدولية بخصوص التغيرات المناخية التي ستتم في يناير 2009 في كوبنهاغن. ليس من السهولة التوصل إلى هذا الوقف المشترك لأن بعض الدول الأوروبية ، لاسيما تلك التي انضمت حديثاً للاتحاد من دول أوروبا الشرقية سابقاً، تقدر أنها لاتمتلك المصادر الاقتصادية اللازمة والكافية لبلوغ الأهداف التي حددها الميثاق البيئوي " الطاقة والمناخ " . وستقترح فرنسا تنظيم عدد من المؤتمرات والندوات والطاولات المستديرة في فترة رئاستها لهذا الغرض بعد أن كانت مهدت لها بنشاطات مماثلة في 19 ايار 2008 حول المصلحة العامة وحماية المواطن هو بوابة الحكومة. و أخرى بعنوان المواطن وتطبيقات الحق الجماعاتي في 8 حزيران 2008 برئاسة آلان لاماسور. والتنسيق الأوروبي في مجال الهجرة واللجوء برئاسة بيير هنري Pierre Henri في 1 تموز 2008. وفي الثالث من حزيران تبنت لجنة الثقافة في البرلمان الأوروبي مشروع تقرير حول التكثيف والتعددية في وسائل الإعلام داخل الاتحاد الأوروبي وكانت صاحبة المشروع النائبة الأوروبية ماريان ميكو Marianne Mikko عضوة الحزب الاشتراكي الأوروبي ولم يجر إقرار هذه المبادرة رسمياُ بعد ولاتعكس رأي البرلمان الأوروبي رسمياً التي ستمس بحرية أصحاب المدونات على الشبكة العنكبوتية الانترنيت، بذريعة البحث عن النوعية والارتقاء بمستوى المدونات والقضاء على الفوضى والإسفاف السائد في هذا الميدان. وهناك موضوع إضافي يتعلق بالنشاط التعليمي والتربوي الأوروبي المشترك ومحاولة التقريب والتوحيد بين المناهج المدرسية والجامعية في دول الاتحاد، حيث سيتناقش وينسق وزراء التعليم في الدول الأوروبي، بالتعاون مع المجلس التعليمي في الاتحاد، سبل تحقيق هذه المهمة الصعبة وتحقيق الفضاء الأوروبي التربوي والتعليمي الموحد، والتكوين أو التأهيل المهني للكوادر والأطر الأوروبية القادرة على العمل في مجمل الصرح الأوروبي المشترك، واكتشاف إيجابيات الأنظمة التعليمية والتربوية الأوروبية المتنوعة والمختلفة، واكتشاف ثقافات وآداب الدول الأعضاء ونشرها وتعميمها في جميع البلدان الأوروبية الأعضاء في الاتحاد لتسهيل وتشجيع التبادلات الثقافية. لذلك ستنظم وزارة التعليم الوطني الفرنسي لهذا الغرض خمس مؤتمرات حول عناوين مختلفة مثل: التوجهات، التمرن والتدريب على تلقف العلوم والتطوير والتقانة، بالتعاون مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وتعليم التلاميذ من ذوي الاحتياجات الخاصة والمعوقين والمصابين بعاهات وتنظيم أسابيع أوروبية داخل المدارس والكوليج والاعداديات والثانويات لإشاعة الوعي الأرووبي والتآلف معه. وكان الرئيس ساركوزي قد ركز على موضوع الاتحاد الأوروبي في مؤتمر السفراء الفرنسيين في الخارج الذي عقد في 27 آب 2007 مشدداً على أن البناء الأوروبي سيبقى، لأمد بعيد، الأولوية المطلقة للسياسة الخارجية الفرنسية. فبدون الاتحاد الأوروبي لن يكون بمقدور فرنسا تقديم الأجوبة على التحديات الإستراتيجية التي تواجه عصرنا الحالي. وبدون أوروبا قوية تتحمل مسؤوليتها ودورها كقوة عظمى سيحرم العالم من قطب توازن ضروري للبشرية، لذلك سيدفع ساركوزي أوروبا إلى الأمام من خلال اقتراحه للمعاهدة المبسطة التي لولا تعاون ودعم ألمانيا برئاسة أنجيلا ميركل لما تم تمريره،ا وكذلك بفضل نشاط وتحرك ومثابرة رئيس اللجنة الأوروبية جوزيه مانويل باروزو مما فتح المجال لعقد مؤتمر تكنيكي بين حكومات دول الاتحاد الذي سوف يحدد الأطر القانونية والقضائية للاتفاق السياسي الأوروبي المشترك. ومن المؤمل أن ينهي أعماله قبل اجتماع المجلس الأوروبي القادم في أكتوبر 2008 حتى يتاح دخول المعاهدة الجديدة حيز التنفيذ قبل الانتخابات الأوروبية في ربيع 2009 . وقد اقترحت فرنسا تشكيل لجنة حكماء للتأمل في مسألة غاية في الأهمية وهي " أي أوروبا نريد بين 2020 و 2030 ولأي مهمة ؟ وينبغي أن تقدم لجنة الحكماء هذه تصوراتها وتوصياتها ومقترحاتها قبل انتخابات حزيران 2009 لكي يتاح للبرلمان الأوروبي المنتخب لتوه، وللجنة الأوروبية الجديدة ، الاستفادة من ثمرات تقرير لجنة الحكماء المزمع تشكيلها المكملة للمعاهدة المبسطة، وأعمال التجديد والإصلاح في سياسات الاتحاد وإطاره المالي والتمويلي. ولو أطلقت مهمة التفكير والتأمل بخصوص مستقبل الاتحاد من قبل الدول الأعضاء السبعة والعشرين، لن تعترض فرنسا على فصل جديد من المفاوضات، يمكن أن يبدأ بين الاتحاد وتركيا في الأشهر والسنوات القليلة القادمة. شريطة أن تكون فصول وثيقة التأملات لاتتعارض بل وتتوائم مع الرؤيتين الممكنتين لمستقبل العلاقات الأوروبية ـ التركية، أي: إما الانضمام إلى الاتحاد بعد استيفاء الشروط، أو الشراكة الوثيقة التي لاتصل إلى حد الانضمام . والجميع يعرف أن الخيار الثاني هو المفضل لدى ساركوزي والذي دافع عنه ودعا له خلال حملته الانتخابية الرئاسية كأفضل صيغة للتعاون بين تركيا والاتحاد الأوروبي . كما شدد الرئيس ساركوزي على أن المهمات التي اضطلعت بها أوروبا على المسرح الدولي، في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا تبين أنه لايوجد تنافس بل تكامل بين الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي في مواجهة تعدد الأزمات. فكان يشكو من الغياب النسبي من جانب أوروبا للمساهمة في حل مشاكل الكوكب. وتمنى أن تتحمل أوروبا مسؤوليتها الكاملة وتلعب دورها في خدمة الأمن الدولي، وهذا يتطلب تعزيز قدرات التخطيط وقيادة العمليات وتطوير أوربا الدفاع والتسلح والاكتفاء العسكري الذاتي برفدها ببرامج جديدة ومتطورة حيت تتحمل كل دولة أوروبية حصتها في تأمين وضمان الأمن الأوروبي المشترك. وتحتاج أوربا برأي الرئيس الفرنسي إلى رؤية مشتركة وصائبة للتهديدات والأخطار المحدقة بأوروبا والعالم وسبل الرد عليها أو الوقاية منها، ولهذا ينبغي إعداد إستراتيجية أوروبية أمنية جديدة تخلف تلك التي أقرت سنة 2003 تحت رعاية وإشراف خافيير سولانا وأن فرنسا مستعدة للتصديق على النص الجديد تحت رئاستها للاتحاد في النصف الثاني من عام 2008 . وفي هذا السياق والتحرك الأوروبي أنشأت كل من فرنسا وألمانيا اللواء الفرنسي ـ الألماني كنواة للكيان العسكري الأوروبي . وفي سانت مالو تواصل فرنسا وبريطانيا نفس الجهد في هذا الاتجاه ذاته، لأن ميزانيتي الدفاع للدولتين تمثلان ثلثي ميزانية مجموع الدول الأعضاء الباقين في الاتحاد. ويأمل الرئيس الفرنسي بإقناع دول كإيطاليا وإسبانيا وبولونيا وهولندا بالمشاركة في هذا الجهد العسكري الأوروبي المشترك والتزود بما يلزم من أدوات التدخل العسكري والإنساني والمالي، من أجل أن يؤكد الاتحاد الأوروبي موقعه في الصف الأول لتأمين السلام والأمن الدوليين بالتعاون مع الأمم المتحدة والحلف الأطلسي والاتحاد الأفريقي، ولكي يتمكن الاتحاد من إطلاق مبادرات تعاون ومساعدة في مجال الأمن والتنمية للدول الأخرى المحتاجة لاسيما في أفريقيا. والجدير بالذكر في هذا الصدد أنه من أصل 26 بلدا عضواً في الحلف الأطلسي هناك 21 هم أعضاء في الاتحاد الأوروبي أيضاً. ومن المعلوم أن حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي ،وتحت مظلة الأمم المتحدة ومجلس الأمن ، يتعاونان يشكل وثيق في الكثير من الملفات منها ماهو أوروبي كملف الكوسوفو ومشاكل الصرب فيه مثلما يتعين على الاتحاد تحمل وتكلفة ما سيطرأ من تطورات وتفاعلات على الساحة البلقانية. ويأمل الجانب الفرنسي أن يكون لأوروبا في أقرب وقت مؤسسات فعالة ورئاسة دائمية ثابتة للمجلس الأوروبي، وممثل عالي مكلف بالشؤون الخارجية يحل محل الثلاثة الموجودين حالياً ويفتقدون للصلاحيات، ومفوضية حقيقية تتكفل بالدبلوماسية الأوروبية، عندها سيكون بوسع الاتحاد أن يرسخ رؤيته والقيم التي يتشاطرها أعضائه على المسرح الدولي وهذه ضرورة برأي فرنسا لكي يتسنى لأوروبا أن تواجه تحديات القرن الواحد والعشرين . السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، بعد استعراض الواقع الأوروبي والصعوبات التي تواجهه هو: هل بإمكان فرنسا لوحدها تحقيق برنامجها الأوروبي في فترتها الرئاسية القصيرة جداً للاتحاد؟ الجواب قطعاً كلا. ففرنسا بحاجة إلى حلفاء مقربين داخل الاتحاد يسندونها لإنجاز المشاريع الأوروبية الأهم خلال الستة أشهر القادمة. فقبل تسلم فرنسا مهمتها في رئاسة الاتحاد بساعات دخلت بولونيا على الخط لتلعب دور المعرقل وناصب الفخاخ أمام المسيرة الفرنسية. ففي مقابلة مع الرئيس البولوني ليش كازينيسكي Lech Kaczynski يوم الثلاثاء الأول من تموز 2008 أعلن أنه لن يوقع على وثيقة إقرار معاهدة لشبونة والتصديق عليها. وهذا الحدث ، الذي برز في أول يوم للرئاسة الفرنسية للاتحاد، يؤشر على عمق الصراعات الداخلية في كل بلد من بلدان الاتحاد وانعكاسها على الحياة والآلية المعقدة لمنظومة الاتحاد الأوروبي ، وكأن بولونيا أرادت بذلك ، فيما يتعدى الاعتبارات الدبلوماسية والسياسية والمصالح الذاتية، أن ترد الصفعة والإهانة التي تلقتها من فرنسا على لسان الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك إبان حرب العراق سنة 2003 بسبب الموقف المساند للإدارة الأمريكية الذي اتخذته بولونيا بالضد من الموقف الفرنسي. ومن هنا سيحتاج الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى دعم قوي من قبل نظرائه الكبار في الاتحاد لمساعدته على استرجاع " النعاج الضالة إلى القطيع " كما يقول المثل الفرنسي. فالقومي المتشدد كازينيسكي ، الذي حاول نيكولا ساركوزي بنفسه إقناعه بضرورة تصديق معاهدة لشبونة في حزيران 2007، ينوي تصفية حساباته الشخصية مع رئيس وزرائه الليبرالي دونالد توسك Donald Tusk الذي كان وصوله إلى السلطة قد جعل الأوروبيين يستعيدون أنفاسهم ويشعرون بالارتياح. ويستغل الرئيس البولوني تردد نظيره وصديقه الشخصي الرئيس التشيكي المتحفظ على المشروع الأوروبي، فاكلاف كلاوس Vaclav Claus الذي وصف معاهدة لشبونة بالميتة بعد إخفاق الاستفتاء الإيرلندي عليها والتصويت بالسلب ورفضها في 12 حزيران. من الشخصيات التي يعول عليها الرئيس الفرنسي إضافة إلى دونالد توسك، رئيس الوزراء التشيكي ميريك توبولانيك Mirek Topolanek الذي زاره ساركوزي في براغ في 16 حزيران ومن المفترض أن يلعب دوراً مركزياً في إقناع المترددين والمتحفظين من دول أوروبا الوسطى بتبني الموقف العقلاني والواقعي إذا أرادت الاستمرار في الوجود داخل الاتحاد الأوروبي وعدم العمل على تهميشه أو تهديمه بمواقفها المتشدد والعنيدة. ومن مصلحتها إنجاح الرئاسة الفرنسية خاصة وأن جمهورية التشيك هي التي سترأس الاتحاد بعد فرنسا وإن استمرار الأزمة داخل أوروبا سيزيد من تعقيد مهمة الرئاسة القادمة ويخلق لها الصعوباتوالمشاكل.وسيسعى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى إيجاد أرضية تفاهم مشترك مع رئيس الوزراء الأيرلندي بريان كوين Brian Cowen حول كيفية إدارة وامتصاص تبعات الرفض الأيرلندي لمعاهدة لشبونة. وسوف يزور دبلن قي 11 تموز وقد امتعض الأيرلنديون من تدخلات عدد من القادة الفرنسيين إلى جانب أن تضعضع الاقتصاد الأيرلندي لم يساعد في ترسيخ الصورة الإيجابية لرئيس الحكومة بريان كوين حتى لو كان مرتاحاً بعد عودته من بروكسيل من نتائج اجتماع المجلس الأوروبي في 20 حزيران. وقد أوضح للبرلمانيين الأيرلنديين حيرة زملائه الأوروبيين وفي نفس الوقت تفهمهم . اللجنة الأوروبية، التي كان جميع أعضائها حاضرون في الأول من تموز في باريس لمقابلة القادة الفرنسيين ، تعتبر مفاوضاً ومحاوراً لابد منه ولايمكن إهماله أو الالتفاف عليه. فالعلاقات الرسمية بين ساركوزي والرئيس البرتغالي للجنة الأوروبية جوزيه مانويل باروزو ، هي على مايرام . وهذا الأخير يسعى للحصول على تجديد أو تمديد لولايته مرة ثانية سنة 2009 لذلك فهو يستمع لمطالب باريس . وقد أبدى ساركوزي لومه للجنة الأوروبية لتأخرها بالتحرك ومواجهة ارتفاع أسعار المحروقات وحملها جزء من المسؤولية بسبب تقاعسها مما أدى إلى الرفض الإيرلندي. أما أهم شخصية يستند إليها الرئيس ساركوزي لإنجاح فترة رئاسته للاتحاد فهي بلا منازع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل . وقد أفلحت هذه الأخيرة في فرض رؤيتها للاتحاد المتوسطي على ساركوزي وأرغمته على مراجعة نسخته لهذا المشروع قبل إدراجه في سياق وجدول أعمال الاتحاد الأوروبي وفي مجال الضوابط المتعلقة بمستوى التلويث الذي تسببه المركبات والسيارات أقنعت السيدة ميركيل الرئيس ساركوزي بضرورة إيجاد تسوية تخفف من أعباء صناعة السيارات الألمانية. ورفضت فرض ضريبة كاربون اقترحتها فرنسا في الاتحاد الأوروبي. كما ضمن الرئيس الفرنسي دعم وتأيد ومساندة وتعاطف عدد من القادة الأوروبيين من ذوي الوزن الثقيل كرئيس الوزراء البريطاني غوردن براون Gordon Brown الذي جاء لزيارته في 19 حزيران بعد أن حصل هذا الأخير بشق الأنفس على موافقة برلمانه على معاهدة لشبونة. فأوروبا كما هو معروف لاتحظى بأولوية لندن إلا أن تأييدها للمعاهدة ضروري وأساسي. ويعرف الرئيس ساركوزي أنه يمكنه الاعتماد على مساندة ودعم رئيس الوزراء الإسباني الاشتراكي جوزيه لوي رودريغيز زاباتيرو José Luis Rodriguez Zapatero ورئيس مجلس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلسكوني Silvio Berlusconi بعد عودة هذا الأخيرة للسلطة في روما وهو قريب من ساركوزي ويشاطره الكثير من القيم . وأخيراً لم يتردد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في مهاجمة وانتقاد البنك المركزي الأوروبي لعدم طرحه على نفسه مسألة التنمية الاقتصادية في دول الاتحاد وليس فقط مناقشة موضوع التضخم معرباً عن معارضته لزيادة جديدة في معدلات الفائدة . وكان البنك المركزي الأوروبي قد قدر في يوم الخميس 3 تموز ضرورة رفع معدل الفائدة إلى %4 ,25 بالمائة على أمل أن يساهم ذلك في كبح التضخم وكان مجلس إدارة البنك في حالة استنفار وقلقل من ارتفاع الأسعار في حين ارتفع التضخم بنسبة 3،7% بالمائة خلال سنة في نهاية آيار الماضي. وهذا ما يعارضه الرئيس ساركوزي الذي يعتبر سبب الارتفاع ناجم عن انفجار الأسعار للمواد الأولوية وعلى رأسها البترول.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |