المرجعية الرشيدة بين المرحلية والستراتيجية

 

عماد الهلالي

info@markazalshahed.com

تتألف الامة من الامام والمأمومين.. من القيادة والمجتمع والعلاقة بينهما. فالمجتمع ليس فقط مجموع أشخاص افراد الامة بل هو التركيب الثقافي ومستوى الوعي السائد والمثل العليا فيها والطموحات والرغبات التي تتحكم في سلوكها. والقيادة هي إدارة ذلك الهيكل النفسي والقدرة على تحريكه، وكلما تقدم الزمان وتعقدت الحياة وزادت تفاصيل الوعي زادت حاجة المجتمع الى القيادة. ولا تكون القيادة حقيقية حتى تشخص له في كل مكان وترعاه في كل تفاصيل وعيه ولو انحسرت عن جزء منه فسيتحول ولاء المجتمع في ذلك الجزء إلى قيادة اخرى.

والعلاقة بين المجتمع والقيادة هي الولاء.. الطاعة.. الانقياد وهي التي تمسك كيان الامة وتصاغ العلاقات وفقها وهي تعبير عن الاستعداد النفسي للجماهير من جهة وتعبير عن خصائص القيادة ومميزاتها من جهة اخرى.

وتأريخ الحضارة البشرية بما حفل به من احداث وقصص انما هو سجل للتقدم النوعي في وعي الشعوب وعلاقاتها مع الحكومات المتسلطة. وان المتصفح لتاريخ الامم يجد محاولاتها المستمرة للتخلص من ظلم القيادات حين تجد انها غير ممثلة لتوجهاتها وتطلعاتها ووعيها العام، كصياغة القوانين التي تعبر عن رؤيتها المعاصرة لما ينبغي ان تكون عليه العلاقات في الدولة بين القيادة والمجتمع. وكانت القوانين في بعض ممالك العراق القديمة تكتب على مسلة تنصب في مكان عام وهو شيء يدل على تفاقم الارادة الاجتماعية وحاكمية الوجود المفاهيمي للقانون على التجسيد الشخصي له ولكي لا يكون الاشخاص –اشخاص الحاكمين- هم (السلطة) وهم القانون.

وفصل السلطات الذي انتجه تطور الفكر القانوني في القرون الاخيرة هو تعبير أيضاً عن شكوى البشرية من عدم وجود قيادة عادلة معصومة اذ كان كل حاكم يصل الى السلطة يسعى للاستقواء والتفرعن والطموح بشكل يتعارض مع المصالح العامة وما يطمح الشعب له من تدبير معايشه وتحقيق أهدافه.

وكذلك جعل الشعب مصدرا لجميع السلطات، ظناً من الوعي الاجتماعي الاوربي يومها ان ذلك هو الحل لجميع المآسي التي تعرضت لها على يد الملوك حين تخضعهم للمراقبة المستمرة لإجبارهم على تجسيد القوانين العامة.

وما صرخات الاوربيين بالحرية واتخاذها هدفاً أعلى وجعلها الحق الاول للشعوب في بناء الدولة الا تعبير عما ذاقته تلك الشعوب من تسلط الحكومات الظالمة على طول تاريخها ومرارة ذلك التسلط فقاموا بتحديد تدخل الدولة قانونياً بمقدار ما يضمن الامن والامور الضرورية للمجتمع، الا ان التناسب العكسي بين حرية المجتمع وسلطة الدولة بقي قائماً ومرناً وقابلاً للالتفاف عليه واستغفاله.

ومع وضوح القانون المفاهيمي ودقته وفصل السلطات والتمثيل البرلماني وتقييد تدخل الدولة في شؤون المجتمع ومؤسسات المجتمع المدني(1) الا ان المجتمعات الحديثة لم تصل الى السعادة ولم ترفع الظلم ولم تحقق المجتمع العادل المثالي لأنها جميعاً وليدة الوعي الاجتماعي المعاصر لتلك الامم وذلك الوعي بنفسه قد وقع في اسر المقاييس الاعتبارية والمعاني النسبية بعد تخلصه من سلطة الكنيسة المسيحية المنحرفة و(تحرره) من الشموليات العقلية والتاريخية ففقد بذلك الاصل والاساس الثابت الذي تتراكم عليه التجارب والمعارف الانسانية ليتراكم النمو الحضاري الحقيقي للامم. الامر الذي سمح بنشوء سلطة جديدة وحكومة خفية قاهرة تقيد الانسان الغربي وتأسره دون ان يلتفت الى جنودها او الى امكانية الثورة عليها وهي سلطة رأس المال الذي أصبح –ليس فقط اساساً للربح- بل واساساً لبناء العلاقات في المجتمع والدولة.

وقد نشأت تلك السلطة الخفية الجديدة كتعبير عن مستوى الوعي الذي عاشته اوربا في القرون الأخيرة وبعد ظهور الدول بشكلها الحديث ودعم الحكومات لطبقة أصحاب رؤوس الاموال والتجار وتخفيض الضرائب عنهم والسماح لهم باستثمار كل شيء على الارض كي تستقوي السلطات بهم في اوقات الضعف والازمات ثم لتخضع لهم تدريجياً حتى وصل الامر لخوض الحروب لأجل فتح الاسواق امام استثماراتهم والسيطرة على مناطق الثروات في العالم ثم تحولت الدول في الباطن الى دول اصحاب رؤوس الاموال الذين يوجهون القرارات لمصالح اقتصادية بحتة حيث تجد ان المسؤول عن قرار الحرب او الحملة العسكرية مثلا هو صاحب الشركة التي تعاقدت مع الحكومة لتزويد الجنود بالطعام والملابس. وما التوجه العالمي المعاصر للعولمة الاقتصادية وصب العالم بأجمعه في نظام السوق الحرة الا للتمهيد لأخضاعه لهذه السلطة الجديدة وهذا الاستعمار الخفي الذي لا يمكن التخلص منه عسكرياً لأن من الممكن ان يتخلص بلد ما من التبعية السياسية او الاحتلال العسكري لكنه سيعود تحت ضغط الطلبات الاستهلاكية الاقتصادية لجماهير شعبه الى الركوع والحاجة امامه ولا يمكن محاربته اقتصادياً لضخامة القدرة المالية والتكنولوجية التي يتمتع بها. بل السلاح الوحيد الذي يمكن من هزيمته والتحرر منه انما هو الوعي الجماهيري وتحرير ارادة الامة من اسر التعلق بالمادة.. عندها ستصبح (مقاطعة شراء الملح) ضربة قاصمة له و(تحريم التبغ) محطماً لأغلاله.

وتعتبر الولايات المتحدة –خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية- الممثلة الاولى لهذه السلطة والتي تسعى الى عولمة العالم تحت هذا الشكل الاقتصادي الجديد الذي يضمن لها الهيمنة عليه وهي تدعم مشاريعها بقوة عسكرية لقهر القوى العالمية وبعولمة ثقافية وتفوق اعلامي للسيطرة على الوعي العالمي وتسطيحه واعادة صياغة الحياة الاجتماعية فيه وفق انماط معينة تخدم الاغراض الاقتصادية وتشجب على العلاقات الاجتماعية الموجودة وتعترض حتى على نظام الاسرة لأنه لم يؤسس على قياسات اقتصادية. وهي ماضية في هذا المشروع من اجل الهيمنة على العالم وعلى اسواقه وثرواته وشعوبه وهذا المضي ليس مشروعاً لسياسيي الولايات المتحدة فقط وانما هو توجه امة كاملة لأننا فهمنا من تعريف الامة انها ليست فقط قيادة كما انها ليست فقط مجتمعاً بل هي التركيب منهما معاً. فالقيادة وحدها لا تستطيع ان تنفذ عملاً خارجياً الا باسناد الامة لها فالحملة العسكرية البسيطة مثلا لا تستطيع القيادة السياسية او العسكرية تنفيذها الا وفق هدوء في الراي العام وتخدير للمشاكل الداخلية مهما كانت الدولة قوية وقد جربت الولايات المتحدة تداعيات الانفصال عن الراي العام الشعبي وعواقبه في تاريخها القريب.

ونقطة التحول الاخرى في تاريخ الولايات المتحدة هي سقوط الاتحاد السوفيتي وانفرادها بالعالم(2) لا اعني هنا بالانفراد : السياسي كون (رقعة الشطرنج الكبرى) العالمية قد خلت من البيادق الحمراء ولا الانفراد الاقتصادي لتحول الكثير من دول العالم الى نظام السوق الحرة وفتح اسواقها للاستثمارات الامريكية ولا الانفراد في التفوق العسكري بل اعني الانفراد الايديولوجي لأن الايديولوجيا هي التي توجه المشاريع السياسية فالقوة العسكرية والاقتصادية ما لم تكن لها ستتراتيجية ومشاريع مستقبلية تفقد فاعليتها والايديولوجيا ضرورية لتوجيه الشعب بأجمعه باتجاه هدف ما. وان الاتحاد السوفيتي لم يكن يساوي مجموع الدول التي تحول اليها وتقسمت ترسانته النووية بينها بل كان يعني ايديولوجيا عالمية توجه طموحات وآمال الملايين من البشر وطاقاتهم وتبشر بنظام عالمي جديد ومستقبل يشد العواطف المتألمة من تناقضات الحاضر باتجاهه.

ان سقوط الاتحاد السوفيتي قد مهد بصفته سقوطاً لايديولوجيا الشيوعية لطرح فكرة نهاية التاريخ لإيذان الشعب الامريكي بأن نهاية التاريخ الايديولوجي للبشرية قد توقفت وانه ليس بإمكان الذهن البشري ان ينتج شكلاً جديداً للسلطة بعد ان سقط نموذج الدولة التي تتدخل في كل شيء (الشيوعية كنظام اقتصادي وفكري) وبقي نموذج الدولة التي لا تتدخل في كل شيء (الليبرالية الديمقراطية) ووفق هذا الحصر العقلي أعلن عن نهاية التاريخ ليس تاريخ الحوادث بل تاريخ الفكر البشري اعترافاً بأن التاريخ انما تحركه الايديولوجيا كما تقدم ورغم ما تعطيه فكرة نهاية التاريخ من ثقة للانسان الامريكي بصحة مساره واطمئنان لقلقه على مستقبله من أي تعاقب للحضارات الا انها لم تكن في ذهن سياسيي الولايات المتحدة الا مستقبلا بعيد التحقق.

كم ا انها تفتقد الى البعد الحركي لأنها لا تتضمن عنصر (العدو) المخيف الذي يشد مشاعر الجماهير القلقة تجاهه ويثير فيها الخوف او التحدي مما يسمح باستمرار سباق التسلح والميزانيات السنوية الهائلة لوزارة الدفاع وصرف النظر عن مشاكل الامن والصحة والفقر و(التنفيس عن المشاكل الداخلية)، فنشأت اطروحة صدام الحضارات للاعلان عن العدو الجديد هذا العدو الذي لم يكن هذه المرة قوة اقتصادية عظمى او قوة عسكرية او سياسية بل حضارة وفكر ودين وشعوب تعيش تحت وطأة سلطات جائرة انما هي واجهات وعملاء للولايات المتحدة ولدول استعماريةاخرى الهدف منها اخضاع هذه الشعوب والسيطرة على المد الاسلامي فيها دون الحاجة الى التدخل المباشر من الدول الاستعمارية لذلك. الا ان المؤشرات العالمية تنذر بالخطر من هذه الشعوب وهذا الفكر التي بدأ بالانتشار العالمي لما يتمتع به الاسلام من ايديولوجا شاملة للحياة واقعية ومقنعة بشكل يجعل الحضارة الاسلامية غير قابلة للتمييع الفكري وللعولمة الثقافية ثم للعولمة الاقتصادية وشيء آخر مهم ومخيف بالنسبة لقادة الغرب : هو الوجود الشيعي الذي يمثل العرض الاعمق للاسلام وما يتوفر عليه من استمرار الاجتهاد كموجه فكري يربط الامة بالمصادر الاصيلة للشريعة وقابلية على تحريك الجماهير وشدها اليه وإبقاء المنابع الحقيقة للعقيدة الاسلامية طرية وشاخصة سلوكاً ونظريةً والامر الثاني الذي يحمله الوجود الشيعي هو الميزة العاطفية لهذه الكتلة حول الرموز الاسلامية الاصيلة والامر الثالث: هو القضية المهدوية بما يمثله (المهدي) من مستقبل اسلامي حتمي ومشروع عولمة يسير بالمجتمع في بناء تدريجي متقدم ورمز حي في ضمير الامة الشيعية تنتظر اللقاء به كل حين وفتح العالم على يديه.

فالوجود الشيعي يحمل اذن ما تخشاه الولايات المتحدة وهو الايديولوجيا الواقعية والمشروع المستقبلي الذي من الممكن ان تتوجه طاقات الجماهير في طريقه والعمق الفكري والقدرة الحركية والقوة الكامنة التي لم تكن انعكاساً لقوة مادية او وضع اجتماعي معين بل هي خزين عقائدي أصيل ومتجذر جعل هذه الامة التي عاشت قرونا من التغييب والقهر والتضليل تنتفض فجأة وتقاتل جيشاً حديثاً هو الجيش الانكليزي في عام 1920 وهو القوة الاولى في العالم يومها وتنتصر عليه.

فلا بد اذن من تصفية هذا الكيان جسدياً ومعنوياً فتوجه السياسة والاعلام الامريكي لاتخاذ الاسلام عدواً تاريخياً خطيراً ليس فقط لتوجيه عواطف الشعب الامريكي باتجاه مشاريع قادتها ولا لكي يتحول قادتها الى رموز وابطال حين يحملون مشعل الحرية والديمقراطية الى كل شعوب العالم ويزيلون الدكتاتوريات من الارض بل ان ذلك التوجه انعكاس لتوجس قادة الولايات المتحدة من نمو الوجود الشيعي والفكرة العالمية التي تحملها قضية الامام المهدي : القائد العادل المعصوم والايمان الموجود في اوساط الشيعة به ايماناً عقائدياً ضخماً جداً ابتدأ بالتراكم من يوم الغيبة والبدء بالتركيز عليه عليه السلام تركيزاً عقائدياً وزيادة الوعي العام بالامامة والعصمة التي تعني فيما تعنيه عدم الانفصام عن الشريعة الحاكمة والعدل الالهي الكامل وبشكل يوفر له لو ظهر لهم عاجلاً اعلى مستويات الطاعة والانقياد.

فطريق الولايات المتحدة اذن لا يهدف في حقيقته الى ازالة الدكتاتوريات والانظمة غير الديمقراطية وتحويل العالم الى ليبرالية السوق فقط بل يهدف الى تضييق الخناق على الكيان الشيعي وتطويقه بنفسها بعد ان عجز عملاؤها عن ذلك ولتكون قريبة من الارض التي قد تشكل افضل بيئة لنمو هذا المشروع الشيعي العالمي واستنزاف ثرواتها المعنوية والمادية.

نأمل ان لا يجد القارئ العزيز نفسه مستغرباً او بعيداً عما ينتظره من تقديم لهذا الكتاب الذي هو ليس فقط مجموعة خطابات وتصريحات من احد قادة الوعي الشيعي بل هو جزء من مشروع نفذه على ارض الواقع لم يعط البعد الاعلامي المناسب له لكنه يختلف عن المشاريع التي عاشت كإعلانات في وسائل الاعلام لا مصداق لها على الارض ولا ستتراتيجية لها في بنا ء الوعي الشيعي يختلف عنها بأن ملامحه شاخصة ومن الممكن اثباته بالارقام وبالنتائج وبالعرض التأريخي غير المتناقض والانسجام مع حلقات التاريخ الشيعي والبشري.

هذه الخطابات هي نافذة لنؤرخ هذه الحقبة ليس من شباك (الملوك) كما قيل من أن تاريخ البشرية هو تاريخ الملوك بل تاريخ العلماء الذين هم ملوك مملكة الحقيقة ومسيرة الوعي المستمرة والقديمة قدم الانسان نفسه فلا عجب اذن من اطالة البحث في جذورها لأن (النظام) التاريخي البشري حلقات لا يستغني بعضها عن بعض ويفسر بعضها بعضاً فلا بد عند دراسة أي ظاهرة او حادثة من تتبع جذورها للوصول الى رؤية دقيقة وشاملة لها، فكيف بحقبة تعد من اهم حقب التاريخ البشري واخطرها احداثاً وبشعب ينتظر منه ان يكون رائد تحقيق الدولة العالمية العادلة وسنين شهدت أعنف حوار بين أعظم حضارتين وأشدهما تبايناً من حيث القوة والمقاييس.. وببلد أصبح ملتقىً لإرادات ومشاريع عالمية متنوعة حتى عدّها البعض حرباً عالمية ثالثة(3) خفية او معلنة..فما عرضناه من حديث رغم استطالته انما هو عرض موجز -بانتظار ان يتنفس-اردنا به توسيع النظر في تحليلنا لإرهاصات السنين الأخيرة لتكون مقدمة لفهم هذه الخطابات من هذا المجتهد بكل ما تعنية كلمة الاجتهاد من أصالة وإيجابية وتسديد وبشكل يكون معه الخطاب القيادي والافكار القيادية ليست انعكاساً لثقافة العصر او قياساً على مواقف مماثلة بل استنزالاً لكتاب السماء واستنطاقاً له لاستخراج الحلول منه بحسب الحوادث والمشاكل التي يمر بها المجتمع ويلتفت في أجوائها الى اهل الذكر بانتظار قراءة جديدة تعالج (شكوى القرآن) من تراكم غبار الزمان والحاجة الى رؤية عصرية ولتنزيله مع الحوادث الى جميع طبقات الوعي البشري فلا غرابة اذن ان نلاحظ المرحلية والخصوصية في مخاطبة الجماهير لأن كاتبها يعطي من الخطاب بمقدار الحاجة وبما يناسب الحادث وما يقترن معه الكلام بمشروع فتترسخ المعرفة بالعمل وهو الامر الذي ينتج الوعي الحقيقي للامة، فلا العلم او الخطاب وحده ينتج الوعي والتفاعل مع المشروع الى مستوى التضحية لأجله ولا العمل وحده يصبح ذا قيمة ما لم يقترن ببعد معرفي عقائدي مناسب. وستصبح الاحداث بنية ملائمة لفهم الخطاب في هذا العالم الذي لا يكون الانسان وحده سبباً للحوادث فيه. وأسلوب تفريق الخطاب على الحوادث أسلوب قرآني ملحوظ اذ كانت الحادثة تحصل في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيعيشها المجتمع بجميع ارهاصاتها وتشكيك المنافقين وتساؤول المؤمنين الى ان تنزل الآيات القرآنية الشريفة لتعطي الحل المناسب والرؤية المنجية والمشروع الملائم، قال تعالى: "وقرآناً فرقناهُ لتقرأهُ على الناس على مكثٍ ونزلناه تنزيلا".

ان العراق الذي اصبح اليوم مرتكزا للاحداث العالمية كان يبدو قبل عقدين من الزمان في نظر (سياسي الخارج) قبرا مقفلا لا يمكن معرفة ما يغلي في داخله وحكماً مؤبداً بسيطرة الطاغية عليه مع إضعاف مستمر للشعب العراقي بسبب الحصار والاضطهاد والفقر والمرض وكان تغير الوضع في العراق يعد أملاً بعيداً وحلماً لا مجال لتحقيقه بإمكانات محلية كما ان الاجهزة القمعية في قبال ضعف الشعب كانت تزداد قوة وبشكل ينفي معه امكانية قيام تغيير في الداخل وان اطروحة العمل العسكري للتغيير اصبحت أشياءاً ميؤوساً منها تنفذ لإرضاء الضمير واسقاط الواجب وبدا وكأن العراقيين (بعد 35 سنة) كلهم متعايشون مع صدام ونظامه ولا أمل منهم مطلقاً كما ان طرح التربية الدينية من خارج الحدود كما قلنا ان لم يقترن بمشاريع عمل لا ينتج الوعي المناسب للتغيير والجمهورية الاسلامية الايرانية ضربت بلثامين من القومية بشكل لا يجعلها قادرة على تصدير الثورة ورفع لواء العولمة الاسلامية لأن الاختلاف في القومية واختلاف اللغة والاعراف يجعل من الصعوبة نشوء حوار بين الشعبين لنقل الوعي والتربية الدينية لأن ذلك يتطلب وجود الشخص او الكيان الذي يمارس القيمومة والحجية والشهادة على عملية التربية..
هكذا كان العراق يبدو بأنظار المعارضة العراقية في الخارج فلا عجب ان ينزع بعض قادة الاحزاب السياسية هناك الى اللجوء الى الولايات المتحدة كأمل وحيد لإزالة السلطة بعد ان لمسوا توجهاً في الاستتراتيجية الامريكية تجاه ذلك وهم يصورون لها ان الشعب العراقي سيستقبلهم (بالزهور) لأنهم خلصوهم من صدام ونظامه وانه سيكون مرحباً بأي (مشروع أمريكي) بديل طالما انهم تخلصوا من الظلم البعثي الى الأبد دون ان تكون هناك دراسة وثيقة لما يحصل داخل العراق وما حصل في سنينه الاخيرة لذا وجدنا الخطاب السياسي لدى بعضهم متوقفاً في لحظة خروجه من العراق وغير متناسب مع الوعي المعاصر للشارع العراقي.

الى ان قررت الولايات المتحدة الدخول الى العراق وما حصل من انسحاب الشعب عن المعركة لأن النظام البائد في العراق كان يمثل سلطة الشخص وليس سلطة القوانين وكان يعيش حالة العزلة والانفصال عن الشعب الذي اصبح على درجة عالية من الوعي لا يعني له فيها مصير الحكومة شيئاً ولا يقتنع بأي خدعة من خدعه القومية او الوطنية الفارغة وهو المحمل بالحقد عليه لقتله علمائه وشبابه وحجره على شعائره الدينية التي تعني كل شيء بالنسبة اليه.

ان دخول الولايات المتحدة كان نقطة خطيرة في نظر الكثير من القوى العالمية فهو يعني في نظر الدكتاتوريات العربية ان سياسة الولايات المتحدة تجاه اصدقائها قد تغيرت وان خارطة الطريق ستشملهم لا محالة بعد فراغ الولايات المتحدة من العراق وان السياسة التي كانت تحملهم عليها تجاه شعوبهم اصبحت هي المأخذ عليهم في انظار العالم.. واما دول الجوار فانتبهت الى ان الوجود الشيعي الذي كانت تتجاهله وتحاول سحقه حتى حين ظهر في دولة خارج حدود الوطن العربي هذه المرة سيكون له كيان معترف به وبدوره في المنطقة مما يعني إمكانية تمدد العافية الشيعية الى بلدانهم واعتزاز الكتل الشيعية هناك بالاستناد الى (العمق الشيعي) في العراق.

ويعني بالنسبة الى دول المراكز التجارية العالمية مسارعة الولايات المتحدة للسيطرة على مصادر النفط والثروات في العالم-التي يوجد اكثرها في العراق- وانفرادها بالاسواق فيه كل ذلك جعل هذه الارض مسرحاً لتقاطع هذه الارادات السياسية العالمية فهل كان الشعب العراقي مستعداً للحفاظ على عافيته امام تدكدك هذه الحوادث على ارضه او الحفاظ على مصالحه او جزء منها او تأسيس دولة محترمة بعد سقوط دولته او الطموح الى تغيير الوضع العالمي بأجمعه مع الامام العادل الكامل المعصوم الذي يملأها قسطاً وعدلاً في مستقبل الأيام؟ وهل ان الغلامين اليتيمين قد بلغا أشدهما بعد سقوط الجدار ليستخرجا كنزهما رحمة من ربّك.

ان التغير الذي طرأ على سايكولوجيا المجتمع العراقي في السنين العشر الاخيرة من القرن العشرين على يدي السيد الشهيد الصدر الثاني (قده) كان ضروريا وممهداً للدور الذي سيطلب من هذا الشعب وما اعد ليشغله وان التركيز في معالمه يجعل الانسان في دهشة من روعة التخطيط الالهي والعناية المركزة على هذا الشعب فأول تغيير سايكولوجي نشأ في حادث الانتفاضة الشعبانية في 1991 التي لم يكن يطمح لها ان تزيل ذلك النظام الطاغوتي حينها او تؤدي الى بناء دولة بديلة مستقرة مع المحافظة على عدم تمزق العراق،غير ان الشعب العراقي و الكيان الشيعي قد اعلن فيها العداء على الحكومة لتكون كل مظلمة بعدها ترسيخاً لهذا العداء ودرجة في وعي الامة فتتحول الاحداث بهذه الطريقة الى وعي وتجربة خصوصاً بعد مشاركة الحوزة العلمية في النجف الاشرف فيها(4).

ثم بظهور شخصية السيد الصدر الثاني (قدس سره) وما توفر عليه من خصائص جعلته رمزاً تبنى له صورة شيقة في اذهان الامة سببت شدّاً قوياً باتجاه شخصيته الا انه قدس سره كان يتوقع ان الوقت لن يسمح له ببناء كامل لوعي الامة وان (صدام الحضارات) يلوح في الافق فاللجوء الى البناء الفكري مع قلة الكوادر وحداثتها، وما تمتاز به طبيعة الاستدلال الفكري من بطء في الاقناع يحتاج الكثير من الوقت فلا بد اذن من توفير الدفعة النفسية التي تسبب الحركة المطلوبة ثم تتحول بعدها الى وعي حقيقي ثم توفير البديل الذي يتم عملية بناء الوعي هذا البديل الذي انشغل بإعداده قبل بقية فقرات المشروع(5). واذا اردنا ان نشير الى العناصر التي طرأت على نفسية المجتمع العراقي باختصار بفعل ثورة السيد الصدر الثاني (قدس سره) فهي:

1- ظهور (الرمز الاسلامي) كحاكم على ذهن المجتمع وموجه لحركتهم وجاذباً لعواطفهم والرمز يختزل الكثير من الوعي الذي يراد ايصاله للجماهير الا ان المشكلة فيه ان بعض تفاصيل شخصية الرمز ينسجها الذهن بنفسه مما قد يسبب عند بعض الاستعدادات تجاوزاً للحدود الحقيقية لهذا الرمز ويدخل عليه زوائدا ليست فيه قد تشل التفكير المنطقي السليم والوصول الى القانون المفاهيمي الحاكم وكذلك فإن الرمز يسبب وهجاً حول الشخص يقود الى تعميم الكثير من نسبياته وتثبيت المتغيرات التي اتصف بها عمله في حياته والتي تتطلب لمعرفة نسبيتها وتغيرها -من بين الثوابت والمطْلقات- عمقاً فكرياً محدداً.. وكذلك فإنه سيتحول الى نهاية لتاريخ الامة احيانا وقمة تقف عندها دون إكمال الطريق وتراثاً يتاجر به المتربصون.

2- التركيز على الحوزة العلمية وربطها بالأئمة (عليهم السلام) وبالإمام المهدي (عج) والتلفت باتجاهها لإدخالها في كل تفاصيل الحياة وانتظار كل خير منها وتعزيز مكانة الفقيه في المجتمع بغض النظر عن تحديد صلاحيات الفقيه وولايته بالاستدلال الفقهي.

3- التركيز على قضية الامام المهدي (عج) لما عرف به قد س سره من عطاء فكري بهذا المجال ولما يتردد دائما في كلماته من ربط الحوادث والبلاءات بالقضية المهدوية.

4- ترسخ الرفض والتحذير من الولايات المتحدة واسرائيل عن طريق ما ترسخ من هتافات في صلوات الجمعة بمسجد الكوفة (كلا كلا امريكا... كلا كلا اسرائيل..) وربط ذلك الرفض بالعقائد.

5- ترسيخ ان الشعب العراقي هو الشعب المعد لرفع راية الامام المنتظر يوم ظهوره وفي ذلك رفع لمعنوياته ومعالجة عقدة الاستصغار للنفس واعطاء بعد نفسي وهمة عالية تتطلبها المواجهة الحضارية القادمة..

6- ثم كان لحادث استشهاده ابلغ الاثر في ترسيخ طروحاته والتركيز على اهدافه وجلاء الغبار عن شخصيته عن طريق تعميق عظمة هذا الرمز في الاذهان بعد خلو الساحة من رمز اسلامي شاخص مع ما اختلط به من شعور التقصير وألم الفراق ومرارة المأساة والشعور بالثأر..

الا ان هذا الرصيد النفسي لم يكن كافياً لضمان عدم انحراف الجماهير لأن الخطاب العاطفي الذي اعتمده السيد الشهيد في التسعينيات وان ادى الى حركة كبيرة وتعبئة جماهيرية واسعة الا انه لا يقود الى تفاصيل دقيقة في الوعي مما قد يجعل الجماهير عرضة للتضليل عن المصاديق الحقيقية للمفاهيم التي عرفتها بحياته ومن هنا بدأت القيادة الجديدة للمشروع بخصائص جديدة(6) تناسب المرحلة الجديدة من سلسلة (البلاءات المتدرجة في الشدة) التي تمر بهذا الشعب الذي يراد تأهيله لمخطط الهي قديم.

ابتدأ الشيخ اليعقوبي بهذا الرصيد وابتدا عمله بلملة نواة مشروع السيد الشهيد: المكتب وجامعة الصدر(7) ولئلاً يصبحا وسيلة تقذف بهما الحركات الحماسية الانتحارية العشوائية بوجه جدار السلطة فتعطيها المبرر بذلك للقضاء على كل آثاره قدس سره.. ثم بتهذيب المد العاطفي للجماهير ولا يكون ذلك مع تعدد الخطاب فكانت الخطوة الاولى ترك من يحاول وراثة السيد الصدر في الساحة ليطرح مشروعه بعد السيد الشهيد فيتحولوا الى تجارب مفيدة للجماهير حين تكتشف تعثرهم حتى في التقليد الاستنساخي له قده ثم بممارسة الخطاب الهادئ مع الامة وبناء المجتمع النظيف والوعي السليم ثم بالاعداد الفكري للمواجهة الحضارية وقد كانت الفترة من استشهاد السيد الصدر الثاني الى أشراط حرب الاحتلال كافية لتتعرف الجماهير الواعية على معالم القيادة الجديدة وتدرك التغير في حلقات المشروع وتدرك وحدة الروح التي ينطلق منها دورا الشهيد الصدر وتلميذه الشيخ اليعقوبي رغم تنوع الاساليب والخطابات.

اذا اردنا ان نصف مشروع الشيخ اليعقوبي خلال السنين الاخيرة بعنوان واحد نستطيع القول انه مشروع بناء العراق (بناء الدولة وبناء القانون وبناء النظام الاجتماعي وفق الاسس الاسلامية السليمة وبناء الهيكل الثقافي له وبناء المؤسسة الحوزوية وآليا ت الخطاب مع الجماهير) وهي عملية ليست سهلة إطلاقاً بعد أن أصبح العراق ساحة لحرب عالمية ثالثة ومسرحاً لزعامات دينية وفكرية ووطنية متنوعة مع عشرات الاحزاب والمؤسسات الغريبة المفاجئة للمجتمع العراقي وبعد اختفاء الدولة في نيسان 2003 والبلاد ليس فيها بنية اقتصادية ولا بنية سياسية ولا بنية ثقافية سوى عواطف مفعمة وقلوب طيبة..

فكان اول مهماته حقن الدماء من ان تذهب طعاماً للحرب بين نظام صدام (الظالم) والقوات المحتلة (الكافرة) حين بدا من التوجه الاعلامي انه لا مفر من احداهما فكانت اوامره (بالوقوف على التل) والتي وصلت رغم ظروف التقية المشددة آنذاك ليكون الامر بالاعتزال حفظاً للنفوس وحكماً شرعياً وإخفاءاً لحجم قوة الشعب وعلاجاً للآثار السلبية التي قد يتركها الاعتزال في الذهنية العراقية وتقاطع الآراء حول هذه المسألة الحرجة في وقتها.

ويلمس القارئ للبيان الخاص بـ (الاستماع الى الاخبار في اوقات الازمات) -الذي صدر قبل الاحتلال – انتباه الشيخ اليعقوبي للآثار السلبية للإعلام الامريكي الذي مهدوا به للحرب فوجه الى عدم اعطائه اكبر من حجمه او تصديقه بكل ما يصدر منه وهو ينتبه فيه ايضاً الى ان معرفة حتمية زوال الدولة قد يسمح للكثيرين بأخذ المبادرة والتخطيط لانتهاز الفرص فلم تتضمن كلماته الصادرة في وقتها تنبؤاً بذلك رغم أنه كان يعِدّ بعض الكتابات لهذه المرحلة بالذات.

والعناية بالوضع النفسي من الممكن ان تلاحظ في كثير من خطابات سماحة الشيخ ويلاحظ فيها علاجها لما قد ينشأ من هذا الوضع الجديد بالتركيز على أزمة الهوية التي قد يتعرض لها الشعب العراقي والـتاكيد على الهوية العقائدية له فقط باستعراض نقاط القوة في هذا الشعب ودوره في نصرة الائمة وحفظ المذهب ونصرة الامام المهدي (عج) يوم ظهوره ليعزز الثقة بالهوية الاسلامية للامة ويحصنها من تطبيع الوجود الامريكي والتميع أمام هذا الغزو الحضاري ورسائله الاعلامية التي تدخل من كل مكان..

وبعد ذلك كان لتوجيهات الشيخ أكبر الأثر في بنا ءالمنظومة الثقافية بالإصدارات المتعددة التي تصدر بقلمه او تحت إشرافه وإشاراته الى مصادر الثقافة السليمة واختصاره بذلك على الشباب الرسالي إضاعة الوقت في فرز العناوين المتعددة التي ستغرق الساحة الثقافية..

والطرح الثقافي في خطابات الشيخ موضوعي وبعيد عن الترف الفكري ومناسب مع مستوى الوعي المعاصر لأن الساحة أثبتت فشل الثقافة المتقدمة وخلوها من البعد الحركي وتحولها الى طبقية ثقافية معزولة عن الحياة كما ان الطرح المتأخر عن وعي المجتمع يعد ظلماً للطلائع الثقافية التي استوعبت ثقافة الاجيال السابقة وتطلعت الى عطاء فكري طري جديد.

ومع قصر الفترة التي مارس فيها الشيخ الخطاب التربوي الا ان القارئ لهذا الكتاب سيلاحظ التدرج في عمق الخطاب ودقته مما يدل على رصد سماحة الشيخ لنمو المجتمع المتلقي واستحقاقه لعطاء جديد. كما ان ترتيب خطاباته مع ترتيب الاحداث سمح بترتيب منظومة الثقافة في الذهنية العراقية وتصوراتها حول نشوء الدولة وعناصرها.

كما ان خطابه الثقافي متأصل الى العقائد الحقيقية ومن الممكن ان تنسج عليه منظومة معرفية شاملة دون ان يكون لسهولة الالفاظ وبساطة المطالب أثر في حجب المعاني التي قد يبنيها الذهن بالارتكاز الى هذه الثقافة وهو الأمر المفقود في بعض الكتابات الاسلامية في الساحة اعني خلوها من العمق العقائدي عند الحديث باللغة العامة بشكل تتحول معه الثقافة الى ضوضاء وتركة كلامية ثقيلة.

وخطاب الشيخ التوجيهي يهدف الى اعادة صياغة العلاقات الاجتماعية وفق الاسس الاسلامية بإيجاد الفقه المناسب والدفعات الاجتماعية لتتحول الى ثوابت في اعراف المجتمع في وقتها المناسب.. وهذه العلاقات وهذا الفقه ليس مجرد مسائل فقيه بل هي نظريات وفق قوالب واسعة بسعة جسد المجتمع الذي يختزن الذهن الاجتهادي القيادي صورته الاجمالية بوضوح.. وهو ما أشار اليه سماحته حين طرح (الاسس العامة للفقه الاجتماعي) ليفتح فيه آفاقاً واسعة أمام الفقه الاسلامي حين يطلب منه الوقوف أمام جسد المجتمع بتمامه وكافة تفاصيله ليستخرج الحلول من مصادر الشريعة الاصيلة. وفي الوقت الذي جعل فيه الانتصار في الجهاد الاكبر سبباً للانتصار في الصراع الخارجي بين الحق والباطل على صعيد المجتمع وهو شيء اشار اليه في اول بياناته، وهذا البعد الاخلاقي من ابرز ما عرف به سماحة الشيخ وهو الذي جسده عملياً حتى قيل فيه (ان له اخلاق الانبياء) جسد ذلك ايضاً في سلوكه ومشروعه السياسي وهو الذي كان يأمر طلبته في المناطق البعيدة: "أن اذا نوزعتم على منابر الجمعة فاتركوها لهم" رغم ما يوفره منبر الجمعة من آلة اعلامية مهمة لمشروعه غير ان التنازع عليه برأي الشيخ يمس بقداسته فلا يكون اول من ينتهك به وهو الذي تنازل عن منبره ايضاً بعد صلاة الجمعة الاولى في الصحن الكاظمي او الصلاة التي اراد اداءها قرب الصحن الحيدري بعد ايام من سقوط النظام الصدامي. والعمق الاخلاقي والقدرة على ضبط النفس هي التي لوحظت عليه مراراً ومنحته القدرة التفصيلية في النظر الى خصومه وفرز ايجابيات عملهم من سلبياته.

وفي خطاباته التربوية يلاحظ التركيز على العبادات مثل ختم القرآن وصلاة الليل ودعاء كميل ودعاء الندبة في اوقاتها وبعض العبادات التربوية الاخرى وطرحه لـ(شكوى الامام) من ابتعاد شيعته عن كثير من العبادات والاخلاق التي كان السلف الصالح معروفاً بها وهو في ذلك يوفر دافعاً سليماً للسلوك الى الله دون استعمال مفردات الصنعة ومصطلحاتها.

كما ان للثقافة السياسية السليمة و(المبادئ الثابتة في السياسة) نصيبها الاوفر في خطابات الشيخ ومحاولته إيجاد عرف أخلاقي في الساحة السياسية وفي أذهان السياسيين واذهان ابناء المجتمع العاملين في الحقل السياسي بعد ان جعل (العمل السياسي من الواجبات الشرعية) المقدسة.

وفي كل ما تقدم يحاول سماحة الشيخ بناء الهيكل الثقافي والسايكولوجي للمجتمع العراقي-الذي هو الكيان الحقيقي للدولة والرابط الاقوى لمفاصلها والسلطة الحقيقية فيها- ليس فقط عن طريق الخطابات بل وبالمشاريع التي رافقت هذا الخطاب حتى أصبح لديه اليوم عشرات المراكز والمؤسسات الثقافية التي تعرض عليه نشاطاتها وإصداراتها الصغيرة والكبيرة ولو ثنيت له الوسادة لوضع ستتراتيجية ثقافية لهذه المؤسسات فستتمكن بالسير بالوعي الاجتماعي مراحل طويلة جداً في هذا الظرف الذي لم يتح مثله طيلة قرون من عمر الوجود الشيعي في العراق.. والوعي الاجتماعي كما قلنا هو الذي يوجه حركة الشعوب وتأريخها قال تعالى :"ان الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم".

وربما امكن صياغة الشكل النظري للمدينة الفاضلة وللدولة المثالية والمجتمع الكامل عند أصحاب العقول السليمة الا ان السعي لتحقيقه والتعامل مع الممكن للوصول الى ذلك الشكل يبقى مهمة شاقة جداً خصوصاً مع الارادات السياسية المتنوعة والظروف القاسية والتوجهات المتقاطعة على هذه الارض وفي هذه الفترة بالذات.. فلذلك نلاحظ في كثير من خطابات الشيخ الواقعية في المشاريع وفي التوجيهات مع ابقاء الصورة النظرية واضحة في الاذهان تلك الواقعية التي تعبر عن التأني والصبر في البناء والعمل بالمتوفر والرضا بالمتيسر.

وتلك الواقعية والانصاف جعلت مشاريعه تفرض تطبيقها حتى على أعدائه فنجد انه رغم ايمانه بشكل الحكومة المبتنية على ولاية الفقيه يطرح مشروع الانتخابات وتشكيل حكومة مؤقتة تقوم بصياغة الدستور ثم تشكيل حكومة دائمة بالانتخاب(8) قد وجدت الولايات المتحدة نفسها مضطرة لقبوله بعد حين لأنه يمثل لها الخروج من أزمة رفض الشعب المعافى لأي نظام او أي قانون تصدره وأي دولة تقيمها مع أتباعها فإنها ستبقى مرفوضة وقلقلة في الوقت الذي يطالبها الرأي العام العالمي بتحقيق الديمقراطية التي وعدت بتطبيقها بعد انفرادها بقرار الحرب.. وهو الطريقة المناسبة لجمع الاقطاب الثلاثة (الاكراد، الشيعة، السنة) في العراق ولجمع الاطياف السياسية المتنوعة في العراق .. وهو الحل الملائم (لسياسيي الخارج) الذين وجدوا انفسهم حكاماً لشعب ليس لديهم تنسيق سابق معه او معرفة بخصوصياته.. فكان من الطبيعي ان يبدو مستوحشاً منهم ومستنكراً لهم فلا بد اذن من تدخل المرجعية التي تعبر عن الراعي الحقيقي له في تنسيق مشروع مقبول يعطيهم نافذة لتعريف انفسهم للشعب العراقي.. وكان في ذلك الفرصة لهم للاستقواء بالشعب والاخلاص له.

وكان هذا المشروع هو بداية بناء الهيكل السياسي الحكومي وولادة جديدة لدولة العراق والخلاص من الفوضى التي خلفها اختفاء الدولة المفاجئ.

والملاحظ لمن استقرأ هذه الخطابات التي نحن بصدد التقديم لها ان سماحة الشيخ كان يسير منذ اول يوم بمشروع متوازن ورؤية مبصرة وهي بناء الهيكل الطبيعي للعراق : الدولة..الدستور.. المجتمع.. تنظيم المؤسسات الفكرية .. والهياكل الاقتصادية.. ومرافق الدولة وأجهزتها بأسرع وقت وبأقل تضحيات وانتزاع ما يمكن انتزاعه للعراقيين وللاسلام والمذهب.. في الوقت الذي تجد الفراغ والتخبط والتقلب والتناقض او الانطواء والاجمال والغياب وانتظار الحوادث في سائر الخطابات التي انتدبت للقيمومة على الشعب العراقي في هذه السنين.

ومن واقعيته التعامل مع مجلس الحكم بعد ان رسّخ اعتراضه في اذهان الجماهير على الطريقة التي تأسس بها وتعامل معهم بعدها بموضوعية ونظر اليهم بأبوية واعطاهم الفرصة ان يثبتوا بعد ذلك حسن نواياهم.. ونفس هذا الاسلوب في تعامله مع الحكومة المؤقتة حين وثق رفضه لطريقة تشكيلها لكنه قال في نهاية بيانه الخاص بتلك الحادثة ان بإمكان هذه الحكومة ان تكسب رضا الجماهير ان لمسوا فيها اداءاً ناجحاً واخلاصاً في خدمته.

كما ان سماحة الشيخ يجيد اختيار الظرف والوقت والكيفية المناسبة لاحضار الجماهير في الساحة للضغط على المشاريع المضرة بمصالحه وتفويت الكثير من الاطماع التي كان المحتل يطمع بتحقيقها حتى كانت الانجازات التي حصل عليها بعد حرب الاحتلال وانفاقه المليارات من الدولارات والآلاف من القتلى انه أسس حكومة كاملة في العراق وأسس جيشاً وشرطة ووزارات ودستوراً يعترف بالاسلام كمصدر أساسي للتشريع وبعدم جواز سن قانون يخالف ثوابته بعد ان كانت أطماعه دستورا علمانياً ودولة علمانية وشعباً علمانيا وما ذلك الانجاز الا بفضل تنسيق جهود الجماهير وترشيد طاقاتها بمشروع واع موضوعي.

والافتاء بوجوب العمل السياسي خطوة مهمة لاحضار الامة وشبابها الرسالي الى تلك العملية السياسية وجعلها حاضرة في الساحة لتطالب بحقوقها وتحمي مصالحها ليس فقط كمتظاهرين او كموظفين في مشاريع خيرية بسيطة تمثل قمة ما كانوا يتمنونه في زمان سابق لخدمة المجتمع بل بهيكل سياسي ضخم وبحزب منظم هو حزب الفضيلة الاسلامي وبنظريات وأدبيات أصيلة وبمشاركة فاعلة في إعادة بناء الدولة ومؤسساتها وتمكن هذا الحزب من استحصال اكثر من نصف مليون صوت في انتخابات مجالس المحافظات في 15/1/2005 ويمارس الشيخ اليعقوبي التربية والاشراف المستمرين على ادائه وحل مشاكله رغم انه توسع بحيث اصبح له حضور اساسي في ادارات المحافظات الجنوبية وبعض الوزارات الحكومية.

كما ان اهتمام الشيخ بمؤسسات المجتمع المدني وتشجيعه على تكثيرها يدل على أمله في بناء شخصية المجتمع العراقي وإبقائه يقضاً لمراقبة اداء الحكومة وتهذيب الراي العام فيه خصوصاً وإن المجتمع العالمي بدأ يتوجه الى ديمقراطية المؤسسات.. فتجد ان عدد هذه المؤسسات قد تكاثر بشكل لا يوجد الا في البلدان الحديثة وهذه المؤسسات هي التي شاركت بكفاءة في مراقبة العمليات السياسية والانتخابات الاخيرة في البلاد.

ولم يغفل سماحته بالتاكيد عن (دور المرأة في بناء العراق الجديد) وإقامة الحوزات الدينية النسوية والمؤسسات الثقافية الخاصة بالمرأة لما للمرأة من دور اجتماعي كبير جداً ولما عانته المرأة من خلال الازمان السابقة من تغييب ولما يخشى معه ان يكون من تركيز الثقافات المعادية على هذا الجانب للدفع باتجاه سيادة الاتجاهات المنافية للدين من جديد على الامة.

ولم يكن سماحته الشيخ يفكر بالانعزال عن الدولة او اتخاذ دولة داخل الدولة او الثورة عليها وانتزاع الحكم بالقوة بل يفكر باصلاحها وتسخيرها لخدمة المجتمع وتربية ابنائه وايصال العناصر الكفوءة تدريجياً الى سدة الحكم وفق ما يلائم وعي الجماهير واستعدادها فيتحقق بـ(الديمقراطية)ما لم يتحقق بالسلاح مع الحفاظ على وحدة العراق وتعايش اتجاهاته المتنوعة.

كما ان خطابه تجاه الحكومة لم يكن خطاب المعارضة التسقيطي الذي يبني رصيده الشخصي على تراكم اخطاء الخصم بل خطاب تصحيحي ابوي ففي الوقت الذي نجده ينتقد المسؤولين بكثرة عند زيارتهم له يحاول التماس العذر لهم امام الجماهير بل والدفاع الاعلامي عنهم حين يجد انهم يفتقدون القدرة على اقناع الجماهير او ان من الممكن ان يستغل الاعداء بعض الاخطاء لتعميم حكم سلبي على المذهب والاسلام.

وكان هذا الحديث استعراضاً لما واجه به الشيخ اليعقوبي الغزو الحضاري : السياسي .. العسكري.. الثقافي.. وبقي الوجه الاخطر من الاحتلال وهو الاحتلال الاقتصادي الذي لم يغفل عنه ايضاً فعالجه بعدة حلول (الاول) على صعيد المجتمع برفع الوعي العام والثقافة الفقهية فإننا قلنا ان هذا الاحتلال الاقتصادي يعتمد علىالاحتلال الثقافي اولاً وتسطيح الوعي لترويج سلع الترف الاستهلاكية .. فإذا تحررت ارادة الجماهير من هذه التبعية الثقافية سيصبح من السهل عليها التخلص من التبعية الاقتصادية وقد جرب سماحته ارادة الجماهير بتحريمه السكائر الامريكية والبريطانية والفرنسية لعدائها الظاهر للاسلام فحصلت الخسائر المالية الكبيرة لتجار هذه الانواع من السكائر وهو الامر الذي يدل على قابلية شعبنا للتحرر من هذا الاحتلال الاقتصادي.

و(الثاني) اعتراضه على قرار خصخصة منشآت الاقتصاد العراقي تحت ذرائع تقليدية خادعة(9) وهو قرار غريب فعلاً ولا يدل على ارادة مستقلة ففي الوقت الذي تنتظر فيه الحكومة دعم الجماهير ومساندتها في السنين التأسيسية الاولى تتخلى عنه وهو في أردأ الظروف المعيشية تماشياً مع متطلبات التحول الى ليبرالية السوق الذي تتخلى فيه الدولة عن التدخل في كل شيء وهو امر لا يناسب الذهنية العراقية التي تعتبر الدولة راعية للشعب ومسؤولة عن رعيتها فلا مكان لمن اراد ان يتخلى عن مسؤوليته.. الحل (الثالث) الذي عبأ به المجتمع للاستعداد لمشاكل التحول الى نظام السوق الحرة هو التشجيع على انشاء النقابات والمؤسسات الخاصة بأصحاب المهن وهذه المؤسسات هي الضمان لحقوق العاملين في الشركات الخاصة والاجنبية من الهيمنة عليها والتلاعب بها..

والامر الاهم من ذلك كله في انجازات الشيخ اليعقوبي محاولته بناء هيكل المؤسسة الدينية التي عانت ما عانته من تضييق الخناق في عهد النظام السابق وهي الدولة الحاكمة على شريحة كبيرة من الشعب العراقي والقيمة على وعيه وتربيته.. فقد بادر بعد ايام من سقوط الدولة الى امر طلبة الحوزة العلمية بالتصدي للعمل الاجتماعي والسيطرة على الوضع والتحكم بالذهنية العامة واعادة الحياة الى طبيعتها ورعاية المجتمع وتوجيهه ثم طرح مشروع جماعة الفضلاء لتكون ممثلاً للحوزة العلمية في ادارة العملية السياسية لأنه أدرك ان أي خلل في وحدة الاوامر القيادية(10) سيؤدي الى تفكك المجتمع الشيعي الى الابد في وقت بدا فيه مستعداً لكل التضحيات من اجل وحدة الصف وهذه الوحدة التي ضحى الشيخ اليعقوبي في سبيلها بما لم تضح به شخصية دينية اخرى(11) وهو الذي جمّد نشاط الجماعة لفترة نزولا على إصرار بعض وكلاء السيد الحائري على إلغائها الى حين مجيئه الى العراق.. وهو الذي سحب وكلاءه عن منابر الجمعة والجماعات لإفساح المجال للآخرين ان يقدموا أطروحاتهم في ساحة العمل السياسي دون ان يثير عليهم أزمة الشرعية او الاجتهاد.

كل ذلك منه حفاظا على التركيبة الاجتماعية وعدم تقاطع المشاريع العاملة ومحاولة توجيهها باتجاه عدو واحد وليكون سماحته في النهاية هو الكهف الذي تأوي اليه الاتجاهات المختلفة حين يتسع صدره لخصومات الآخرين وتجرءاتهم .

ورغم عدم تفاعل الجهات الحوزوية الاخرى مع مشروع جماعة الفضلاء الا انه اضطلع بادارته لتكون هذه الجماعة جهة مشرفة على النشاط الديني في الوسط العراقي ومراقباً عقائديا وأخلاقياً للمؤسسات الاخرى التي ترتبط بسماحته وعينا وذراعاً للحوزة على المجتمع وهو يدعم كذلك كثيرا من المؤسسات التي لا تنضوي تحت مرجعيته احساساً منه بالابوية على كافة العاملين الرساليين حتى اصبح موئلاً لكثير من الاتجاهات الاجتماعية المختلفة كالفنانين والرياضيين بل ولبعض المؤسسات غيرالاسلامية ذات النشاط الانساني ليعرضوا عليه مشاكلهم فيطرح لهم الحلول المناسبة ويحاول إعادتهم الى جسد المجتمع وتركيز النظر على دورهم الايجابي وتقليل السلبيات التي علقت بمؤسساتهم لجعلهم قوة نافعة للمجتمع دون ان يفصلهم عنه بحاجز يمنع تسرب العافية اليهم.

وكذلك فإنه قام بتوسيع الحوزة العلمية ونشر فروع جامعات الصدر الدينية في المحافظات حتى بلغت ثمانية عشر فرعاً تضم المئات من طلبة العلوم الحوزوية وهي خطوة يقصر المقام عن التفصيل في بيان ثمراتها الحاضرة والمستقبلية.

هذه اهم ما ندركه من خصائص مشروع الشيخ اليعقوبي الذي لم يحض بالتركيز الاعلامي المناسب الامر الذي ربما كان مفيداً الى درجة ما في انجاز بعض الاعمال غير ان من اراد ان يدرس تاريخ العراق القريب سيجد شواهد ما قلناه على الارض فهي ليست امجاداً دعائية صاغتها الفضائيات التي تبحث عن الدراما في الرسالة الاعلامية وتغفل عن عملية البناء التي قام بها الشيخ اليعقوبي في فترة قياسية من حياة الشعب العراقي، ولا هي صور وهمية سببها انحسار الشيخ اليعقوبي عن المجتمع وهو الذي يفتح ابوابه ليستقبل الصغير والكبير والمثقف والجاهل العامل والفلاح والوزير يومياً فتتشكل له بذلك صورة واقعية هي افضل واوضح بكثير من الصور الوهمية التي لا تجد لها معالماً على ارض الواقع وقد كانت كل هذه الانجازات مشاريعاً يعيش المجتمع العراقي اثرها الحاضر وتمارس العمل السياسي والفكري والديني لرفع الوعي العام نحو تأسيس دولة العدل العالمية الكاملة بإذن الله.

وبقي علينا ان نشير الى بعض خصائص هذه الخطابات التي بين يدينا فهي أولاً بلغة سهلة جداً وخالية من المصطلحات السياسية والعلمية المعقدة كما ان مطالبها واضحة جداً وصريحة وبإمكان ابسط الناس ثقافة ان يقرأها او يسمعها ويستوعبها.وهو شيء مثير للانتباه فعلا ان يصوغها مجتهد يمارس اللغة الاصولية مع ما في الاصول من تعقيد نظري وصعوبة لغوية ان يصوغ هذا الخطاب الشعبي السياسي ويطرح هذه الثقافة بهذا الوضوح، لولا انه يريد ان يبني وعياً سياسياً شعبياً ويفهم الامة مطالبها فتكون مبصرة في طاعتها ويعطي زمام الولاء للحقيقة لا للشخص .

وهي تبتعد عن الخطاب الحماسي الذي يسبب وهجاً عاطفياً ليس هذا أوانه وهذا الابتعاد عن الحماسة المفرطة شيء طبيعي لمن يراهن على وعي الجماهير..

ولا بد قبل نهاية الحديث من الاشارة الى شيء ستتراتيجي مهم في مشروع الشيخ محمد اليعقوبي وهو اشارته في اولى الخطابات التي صدرت من سماحته الى ان الحضارة الامريكية هي آخر حضارة قبل ظهور الامام المهدي (عج) وهذه الاشارة ليست تنبؤاً غيبياً محضاً بل هي أمر تشير اليه حتى أيديولجية نهاية التاريخ التي اعطت تصوراً بأن هذا الشكل من الدولة (التي لا تتدخل في شيء) هو آخر ما يمكن ان يصله الذهن البشري(12) فسقوطها يعني نهاية الفترة التي اوكلت البشرية فيها الى نفسها من هذه الناحية كما ان نهاية التاريخ يعني الطلب الاخير من الانسان الغربي لإعطاء الفرصة للفكر الوضعي ان يعدهُ بالسعادة ولن يصبر على سقوط آخر أو وعد جديد من نفس الجهة وذلك الجزع من الانظمة الوضعي سيكون له أكبر الاثر في الاقتناع بالنظام المهدوي لتحقيق العدل في العالم وانحصار الحق فيه كما روي عن الامام الصادق (عليه السلام) قوله: "إن دولتنا آخر الدول حين لا يبقى أهل بيت إلا ويلون أمر الناس لكي لا يقولوا اذا رأوا سيرتنا أن لو ولينا لفعلنا مثل هذا الرجل _يعني الامام المهدي (عليه السلام)". كما ان الولايات المتحدة قد مهدت بشكل كبير لظهور الدولة المهدوية العالمية-من حيث لا تقصد- حين تحاول اقناع شعوب العالم بالنظام العالمي الموحد وتهيئة الاذهان لذلك مقدمة لفرض عولمة نموذجها الحضاري مع ما وفرته من وسائل عالمية لنقل المعلومات والخبرات بشكل أصبح العالم فيه (كالقرية الصغيرة) كما يعبرون. ولذلك نرى تصريح الشيخ اليعقوبي عند رسمه الخطوط العريضة للعمل الاسلامي في هذه الحقبة ان مما يعجل الظهور هو العمل على فضح النموذج الغربي على مستوى النظرية والتطبيق.

ويشكل الامام المهدي في نظر الشيخ اليعقوبي مصدرا لبناء منظومة معرفية كاملة(13) في استشراف المستقبل وفي قراءة التأريخ وفي رسم التكليف الحاضر للامة وفي توفير الشد النفسي للعاملين وتربيتهم تربية أخلاقية سليمة الوجهة… ولهذا نجده يقيم مستوى وعي الامة بالنسبة للوعي المطلوب عند الظهور ويرسم امامها الطريق الى ذلك بشكل أكثر تفصيلاً مما مضى حين كان الامام المهدي في الاذهان مجرد مستقبل موعود لا يدرى متى يتحقق وقضية غائمة خالية من البعد الحركي المطلوب فأصبح الامر بعدها مشروعاً ننتظر تحقق شرائطه وستتراتيجية للعمل من الممكن ان نقيم اقترابنا منها حسابياً ومن هذا نجد سماحة الشيخ يقرر بثقة (أننا نستطيع ان نقول ان اليوم الموعود قد اقترب بشكل ملحوظ) وذلك حين استعرض تحقق بعض شروطه، ويقرر ايضاً (ما الذي ينتظره الامام المهدي من شيعته) وهو بناء دولة المؤسسات والقانون والتفاعل الاخلاقي معها وهو الامر الذي انبثق منه البعد العملي بتوجيهه المجتمع للمشاركة في الانتخابات وتسريع العملية السياسية لبناء دولة العراق الجديد واخذ ابناء الامة والشباب الرسالي للمناصب الادارية فيه و(ايصال الثلة الصالحة الى مراكز القيادة). وهكذا نجد سماحة الشيخ في أغلب خطاباته يعرض القضية المهدوية ليس من ناحية حماسية مجردة نحو مشاريع لا تمت للقضية بصلة بل بزجاجية تامة تجعل الجماهير وكأنها أمام إمامها المنتظر بصورة مباشرة..

وقد احتوى هذا المجلد على بيانات لم تنشر في الاجزاء الخمس التي نشرت من خطابات المرحلة المنفصلة وبترتيب زماني أدق مع الملاحظة ان سماحة الشيخ ربما اضاف بعض العبارات عند مراجعته للخطاب- الذي ينشر بصورة مستقلة في وقت صدوره عادة- بعد فترة طويلة ويضيف اليه ما قد يلمع من افكار يقطفها العقل الاجتهادي في كل حين بإذن ربه.

وعموماً فإن مطالعة القارئ العزيز لهذه الخطابات قد يجعله يدرك أشياءً كثيرة لم يتيسر لكاتب هذه المقدمة ادراكها وقد ورد في الحديث الشريف ان كل شيء من الآخرة يكون عيانه أكبر من سماعه، فهي في الحفيقة تحتاج الى مجتهد لفهمها وتقييمها بما تستحقه لكننا ارتأينا ان نمارس التعليق لها وفق ما فهمناه لنكون شاهداً لهذا القائد من أمته ودليل على أثر تربيته رغم اننا لا ندعي اننا نمثل الوعي السائد في اوساط المثقفين الرساليين الذين تأثروا بهذا المفكر الكبير وعملوا تحت ظله لكنها تبقى شهادة من احد ابناء الامة نأمل ان لا نكون قد أسأنا فهمه فيها او ظلمنا تقدير أفكاره "ان الانسان كان ظلوماً جهولاً".

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com