لمناسبة اليوبيل الفضي لاستشهاد البطل "أبوظفر"

 

 يحيى السماوي

 yahia.alsamawy@gmail.com

أحَبَّـهُ مَـنْ لم يبصرْه .. ورثاهُ مَـنْ لم يلتقِـه ..

تباهى به الجبلُ شقيقا ً له .. وتفاخر السهلُ به إبنا ..

به من الجبال شموخ القِـمَم .. ومن النخل انحناءُ السعف للكادحين ..

شفافٌ كدموع العشـق .. صلبٌ كمطرقة العامل ..حادٌّ كمبضع الجرّاح ..

دافيء كخبز ِ صباحات الفلاحين .. نقيٌّ كالسيف لحظة َ تجَرُّدِه من غمدِه ..

لم يكن بالمسافر ِ فأنتظرُ عودته على رصيف محطة ٍ ، ولا بالميت فأرثيه ..

منذ خمسٍ وعشرين دورة ِ شمس ، و" ظفرُ " تنتظرُ عودته ليمشط لها ضفائرها ..

منذ خمس ٍ وعشرين دورة شمس و" يسار " يؤجِّل أعياده ، مترقبا ً اللحظة التي يحطُّ فيها " هدهد " البشرى على نافذة عينيه ..

منذ خمس وعشرين دورة شمس و"بلقيس" تنسج أهدابها منديلا ً للفارس الذي طوى الدنيا على صهوة " كلاشينكوف " نحوالأبدية حيث الخلود ..

منذ خمس وعشرين دورة شمس والصعاليك المرضى يتعكزون أضلاعهم ..منتظرين عودة "عروة بن الورد" لينسج لهم بأنامل محبته قمصان العافية ..

 ***

ها أنذا الان أكتب في الوقت الضائع من عمري ، عن صديق طفولتي .. وزميل صباي .. ورفيق شبابي .. نافخا ً في رماد ذاكرتي ، بحثا ً عن جمرة المستحيل لأسجر تنور كهولتي أملا ً في رغيف خبز ٍ يليق بمائدة اليوبيل الفضي لذكرى إقامة " د . محمد بشيشي " في دار الخلود ..

لست بالراثي .. فالخالدون لا يحبون الرثاء .. ولا ثمة قبرٌ يمكن أن يتسـع لوطن .. وهل كان " محمد بشيشي " غير وطن ٍ ماؤه المحبة ُ .. نخله النضال .. شعبه الفقراء والأطفال والعشاق والطيور ؟

 ***

في " زقاق دبْعـَنْ " حيث البيوت متلاصقة تلاصقَ قطيع من الماعـز يسير في مسرب ٍ ضيِّق ، ولِدَ الشهيد البطل " أبوظفر " لأبٍ يشعُّ بشاشة ً يعمل حارسا ً لمدرسة " المأمون الإبتدائية " .. وأم ٍ ترى في كل طفل ٍ من أطفال البيوت الطينية إبنا ً لها .. لذا اختار البطل " محمد بشيشي " أن يكون حارسا ً لأحلام الفقراء ، وسادنا في محراب آمالهم ... وأبا ً لكل الأطفال الذين وأد الطواغيت طفولتهم ...

في هذا الزقاق ، عرف الشهيد معنى الفقر الجليل ، حتى إذا صار فتى ، قرأ ول مرة ، وفي خلسة من شقيقه " شهيد الخياط " منشورا سريا ً راح يتلوه علينا قبل أن يعيده إلى " دشداشة " شقيقه .. يومها صار الفتى رجلا يتحدث عن الوطن الحر والشعب السعيد ، وعن الرغيف الذي سيكون أكبر من الصحن .. والصحن الذي سيغدوأكبر من المائدة .. والمائدة التي ستكون باتساع الوطن ..والوطن الذي سيكون جنة أرضية حين تتنظف مراعيه من ذئاب الديكتاتورية وضباع التعسف وأشواك القهر ـ فلا غروحين تخرج طبيبا وعمل في معمل " سمنت السموة " أن يغدومستوصفه الطبي ملاذا للعمال .. ومستراحا للكادحين .. ولا غروحين تكشر ذئاب الديكتاتورية عن أنيابها ، أن تقوم حكومة قطيع الذئاب بنقله بعيدا عن العمال إلى ناحية " الدغارة " دون أن تدرك أن عيادته ستغدوقبلة الفلاحين والكسبة .. ومنتجع محبة ٍ للفقراء ..

  ***

 كان مهيّـأ للشهيد البطل " أبي ظفر " أن يكون شاعرا وروائيا .. شغفه بالقراءة وأسلوبه في التعبير يشيان بذلك ..

حين قـرر مدرس اللغة الإنكـليزية في ثانوية السـموة " عـبد الباقي الصافي " إخراج مسرحية شكسبير " تاجر البندقية " لم يجد أفضل من الشهيد " أبي ظفر " لدور البطولة ـ ليس لأنه الأذكى بين مجايليه في اللغة الإنكليزية فحسب ، إنما ولأن المدرس كان يعرف أن الشهيد يحمل حقدا مقدّسا ً على مصاصي دم الفقراء أمثال " شايلوك " .. ولقد برع الشهيد في المسرحية التي شارك في تمثيلها " محمد فاضل " و" هادي آل يونس " و" محمود شاكر الإمامي " و" سعد شاكر العزوي " .. فالشهيد كان من رواد الحركة المسرحية في مدينة السموة ، مثلما هومن رواد الحركة الطلابية التقدمية ..  

 ***  

 أبا ظفر .. يا صديق طفولتي وزميل صباي ورفيق شبابي ، أتسمعني ؟ إنّ قاتليك قد دخلوا مزبلة التاريخ تحفُّ بهم اللعنة ... وها أنت حيٌّ في ضمير الأبد يحفُّ بك النور وتتهجى كتاب خلودك الأبدية ..

 " بلقيسك " غدت أما ً لكل أطفال الشهداء والعصافير والشجر .. يداها نهران خرافيان يسقيان غراسك .. عيناها مغتبقك .. وقلبها مصطبحك ... و" ظفرك " غدت حمامة جناحاها باتساع آفاقك ... و" يسارك " أضحى نخلة بحجم شهامتك .. فنم قريرا في فردوسك أيها الشفيف كدموع العشق .. الصلب كمطرقة العامل ..الشامخ كجبال بهدينان .. الدافئ كخبز صباحات الفلاحين .. والنقيّ كالسيف لحظة تجرده من غمده ..

 أيها المقيم في صدر الأرض قلبا ً : لن أرثيك ... فأنا أعرف أن الخالدين لا يحبون الرثاء ..

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com