|
تربية أطفال العراق على حب الوطن
خالص عزمي ليس الدليل التربوي على تنمية حب الوطن والتعلق به ؛ هو مجرد صرخات دعوة مفتعلة او شكلية ؛ ولا تلك التي تمتطي صهوة الحرب في غير موقعها ولا مناسبتها الضرورية الحتمية ؛ ولاهو ايضا في بث تمجيد احداث عابرة ؛ على انه جزء من تقوية التشبث برابطة المواطن نحو بلاده في السراء والضراء ؛ دون تحديد مفاهيمها ومواصفاتها ... ذلك ان الدليل التربوي الحقيقي الصادق يتأتى من الاعتزاز بالأنتماء الى الوطن وجودا وهوية ؛و بحيث تكون وسائل التعبير عنه واضحة جلية ؛ ومنها الحث على التأمل والاعتراف بكرم خيراته ونسائمه ومياهه وسهوله وجباله ؛ وكذلك على تقوية وحدة ابنائه وترابط نسيج لحمته الاجتماعية ؛ على اكتشاف كنوزه الثقافية في الآداب والفنون والتراث قديما وحديثا مع التمسك باصالة لغته وحكمه وعبره ؛ على الافتخار بقيمه واعرافه الحقيقية الواقعية الاصيلة لا الشكلية المظهرية العابرة ؛ على ضرورة التقدم المضطرد في سوح المدنية بكل اشكالها وركائزها القيمة المفيدة ؛ على جعل الذكريات الصائبة النقية مصدر اشعاع للحاضر القائم ولمستقبل الاجيال الواعدة .... الخ ان هذه الباقة المزدهرة العطرة وغيرها كثير من رياض حب الوطن والتعلق به ؛ هي ليست صفحة في كتاب مدرسي فتنتزع ؛ ولا هي قصيدة شعر في كتاب نصوص فيشطب عليها وتمنع ؛ ولا هي نشيد مناسبة وقتية فتصمت الافواه عن ترديده ؛ بل انها جذوة احاسيس وارتباط ازلي بتربة الوطن وتاريخه ومعارفه وثقافته ومآثره ونكساته ؛ وهذه وغيرها لايمكن لاية قوة في الارض ان تنتزعها من قلوب وضمائر ومشاعر ابنائه . على الرغم من البداية المتواضعة لنشوء الدولة العراقية في العشرينات من القرن الماضي في ظل الاحتلال ؛ ومن ثم الحماية والانتداب وبعدها الحكم العراقي تحت راية المعاهدات ؛ وأقساها معاهدة 1930؛ حيث انتشر المستشارون في كل اركان الدولة ومنها وزارة المعارف صاحبة الصوت التربوي الجهير في التمسك بعروة البلاد ؛ فأن المعلمين ( ذكورا واناثا ) ؛ لعبوا دورا طليعيا شجاعا في تربية النشأ الجديد ( من تلاميذ المدارس الابتدائية بخاصة والتي نحن في صميم موضوعها) ؛ على حب الوطن وبذل كل الامكانات المتاحة لديهم من اجل تطوره وتقده و الحفاظ على وحدة ترابه . هناك نماذج لا حصر لها على ما للتربية الوطنية الموجهة من اثر في تربية الاطفال وهم في مراحل التنشئـة الأولى من حياتهم الدراسية ؛ ولعل اي واحد من اجيال متعاقبة يمكن له اعطاء امثلة حية وواقعية على عشرات غيرها . لهذا السبب فقد اخترت هنا بعض ما مر بي منها وبما يتناسب وموضوع المقال ويتماشى في ذات الوقت مع هدفه؛ وهي بالتالي تصب في مدى تأثير المعلم المخلص الواعي في تلامذته الصغار ؛ ودفعهم نحو جادة الصواب لكي يتفهموا المعنى الجوهري من حب الوطن . وليس أدل على تأثيرها في نفسي حتى هذا اليوم من أقدامي على استجلابها من خزين الذكريات الكثر وطرحها امام القراء ؛ كنماذج واقعية حية ؛ ...على الرغم من مرور كل ذلك الزمن البعيد على حدوثها . وهنا تصدق الحكمة التي تعلمناها من معلمينا الاجلاء وهي ان : ( التعليم في الصغر كالنقش في الحجر ). كنت في مدرسة الكرخ الابتدائية يوم ضبطنا مدير المدرسة المرحوم صالح الكرخي ونحن نشنف الاسماع بتغريدات طفولية بريئة ؛ كان صوتي عالي الطبقة ؛ فتقدم مني ذلك المدير العطوف مبتسما وهو يقـــول ( حضّر نفسك في يوم رفع العلم ) .وكان ذلك ...ففي يوم الخميس ؛ حيث وقف تلاميذ المدرسة في صفوف متناسقة متساوية الاضلاع على شكل مربع يحيط بقاعدة العلم وصاريته ؛ ثم وقف معلم الرياضة ينادي على ثلاثة تلاميذ وكنت من بينهم ؛ تقدمنا نحو قاعدة ارتكاز العلم و وسلمنا العلم الى أكبرنا سنا حيث أخذ يرفعه بأناة وهدوء الى اعلا ؛ بينما كنا نحن ننشد بحماس : عش هكذا في علو ايها الــعلم فاننا بك بعد الله نعتصـــــــم في حين راح جميع تلاميذ المدرسة يرددون النشيد بصوت جهوري يتردد صداه في ارجاء المنطقة. وما كادنا نختتمه بالبيت الاخير : هذا الهتاف الذي يعلو فتسمعه جمــــيعه لك فاسلم ايها العلم حتى يكون العلم قد رفرف عاليا في سماء المدرسة ؛ ليبدأ بعد ذلك بعض من يحسنون القاء الشعر ؛ بالقاء قصائد من محفوظاتهم او كلمات نثرية مناسبة ؛ مقتبسة من كتابات افذاذ البلاغة . لقد كان يوم رفع العلم من اجل المناسبات وأقربها لنفوس تلامذة العراق ؛ فبمثلها تعلمنا عددا كبيرا من الاناشيد المدرسية لابرز الشعراء العراقيين والعرب وفيها جوانب تربوية ذات اثر عميق في حب الوطن ؛ كتبها ؛ جميل صدقي الزهاوي ؛ ومعروف الرصافي ؛ وابراهيم طوقان ؛ وبشارة الخوري؛ وخليل مردم ؛ وباقر الشبيبي ؛ وناجي القشطيني ؛ وفخري البارودي ؛ ويحيى اللبابيدي ؛ وشبلي الملاط ؛ وعبد الرحيم قليلات وغيرهم وقد تولى تلحين اغلبها يوم ذاك موسيقيون نوابغ من امثال الاساتذة : حنا بطرس وأكرم فهمي وسعيد شابو وجميل سليم وعبد الله جميل ومحمد واحمد سليم فليفل ويحيى اللبابيدي ... وغيرهم . ذات مرة ؛و حينما كنت في اثناء الفرصة ما بين الدروس ؛ اتناول ما عندي من ( جكليت ) حملته معي من البيت ؛ لاحظ على الاستاذ ناجي القشطيني ( الوطني والشاعر البارز ) ذلك وهو يتجول في ساحة المدرسة ؛ فنظر اليّ بكل حنان وتركني وشأني ؛ وفي اليوم التالي دخل الصف وهو يحمل معه كيسا ورقيا ولما فتحه تبين ان فيه بعض ( لب الجوز والتمر ) وقال لو فتحتم هذه التمرة العراقية واخرجتم منها النواة ووضعتم بدلها لب الجوزوهو عراقي ايضا ؛ لتحولت الى حلوى اطيب مذاقا وأنفع للصحة و للاقتصــــاد الوطني من ( الجكليت ) الاجنبي . كان لهذا الدرس الواقعي مع بساطته ؛ دلالته العميقـــــة على اســـلوب تربوي عملي في تعليم الاطفال كيف يكون الولاء للوطن . في احدى المرات جلب لنا معلم الرسم والاعمال اليدوية (قوالب ) لخريطة العراق الأدارية ؛ و الطبيعية ؛ ثم وزعها على مجموعات من تلاميذ الصف ثم أخذ بشرح لنا تفاصيل ما يتوجب علينا عمله ؛ بعدها طلب من كل منا ان نجلب في الدرس القادم نصف كيلو غرام من الجبس ( وهو ما يسمى ب البورك ) . في الدرس المعين ؛ أرشدنا الى اسلوب مزج ما جلبناه من ذلك الجبس بالماء ؛ بعدها وجهنا الى صب ذلك المزيج في تلك القوالب المزيتة مسبقا ؛ وحينما أكتمل عملنا تركها تجف ثم اخذ يخرجها من تلك القوالب ؛ بعد اسبوع من هذه المهمة طلب منا تلوينها طبقا لخرائط الاطلس المدرسي . ولما انتهينا من كل ذلك ؛ شكرنا على اتقان ما انجزناه ؛ ثم قال سأوضح لكم دوافع هذا العمل الفني : ـ في طفولتنا كانت هناك مشاهد ترف لها قلوبنا سرورا كلما اتيحت لنا فرصة ملاحقتها وتتبع فعالياتها ؛ منها المشاركة في المخيمات الكشفية التي كانت تمنحنا الانضباط والتعاون والصبر والاعتماد على النفس ومساعدة الغير ؛ مع استجلاء معالم الوطن المتمثل لنا يومها في تلك الرقعة المخضلة الصغيرة التي ننصب خيامنا باعتزاز على عشبها الممرع ونحن ننشد ( نحن كشافو الوطن خير ركن للوطن )؛ اما الامر الثاني ؛ فقد كان سرورنا لايوصف ونحن نستمع الى توجيه معلم الرياضة والنشيد وهو يطلبمن عدد محدد منا مواكبة فرقة موسيقى الجيش وهي تذرع شارع الرشيد يتقدمها رافع صولجان القيادة؛بينما نكون نحن في نهاية الفرقة نسير بفخر ونحن نرتدي بزة الكشافة ؛ولقد كان فرحنا يتعاظم كلما كانت الفرقة تعزف الحانا مشهورة لاناشيد كنا وما زلنا لحد اليوم نحفظ جلها مثل ( وطني انت لي والخصم راغم ؛ بلاد العرب اوطاني ؛ حماة الديار عليكم سلام ؛ نحن الشباب لنا الغد ؛ موطني موطني ....الخ ) اما المنبع التهذيبي التربوي الآخر الذي كنا ننجذب اليه في مدرستنا ويشجعنا معلمونا على الافادة منه ؛ فقد كان ذلك الركن المخصص للمطالعة وهو عبارة عن غرفة صغيرة جهزت رفوفها ببعض الكتب الثقافية او كراسات حكايات الاطفال التي كان يتبرع بها بعض المعلمين واولياء امور التلاميذ بعد ان تكون قد أنتقيت بعناية ودقة لكي تواكب اعمارنا وادراكانا المبكر؛وذلك لكي تمنحنا طاقة متجددة تحثنا على الاعتزاز بهويتنا الوطنية والعمل الجاد من أجل رفعة البلاد وحماية وحدتها ؛ شأننا شأن اطفال بلدان العالم على اختلاف تطورها الحضاري و نظمها ومواقعها الجغرافية . لكل هذا وذاك ؛ فان المسنشارين التربوين الاجانب سيقعون في خطأ جسيم ؛ ان هم تصوروا ان الاقدام على تغيير المناهج التربوية ؛ ونزع صفحات تاريخية او قصائد تتغنى بامجاد البلاد او الامة العربية ... وما الى ذلك سيزيل عن عقول الناشئة حب الوطن والذود عنه ؛ ذلك ان حب هذا العراق ؛هو مزيج من تاريخ حضاري وثقافي ونفسي عريق متغلغل في( الجينات) ومتطور ابدا من خلال سلوكيات المجتمع وتقاليده واعرافه الاصيلة المورثة لا الشكلية المظهرية العابرة ؛ ومنصهر مع كل المقروءات والمرئيات والمسموعات التي تتغنى بحب الوطن .ان التلميذ (ا والطالب المتقدم في دراسته فيما بعد ) ؛ الذي سيحرم من أساسيات المواد الدراسية المتعلقة بتأريخه وحضارته وامجاده ؛ سيجدها محفوظة بكل سهولة في آلاف المصادر المخطوطة او المطبوعة التي تحملها المكتبات العامة في خزائنها وان لم يجدها هناك ؛ فأن مراجع السمعيات والمرئيات المسجلة بشتى الطرق ؛ أضافة الى خزين مؤسسات ( الانترنيت ) الهائلة المنتشرة كذرات الاثير ؛ كفيلة برفد طالبها بما يرغب و في اسرع من لمح البصر . ورحم الله مصطفى صادق الرافعي الذي قال : بلآدي هواها في لساني وفي دمي
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |