|
حصاد العمر..(1) .. لمحات من سيرة المناضل
عبد الجبار علي (أبو هادي)
محمد علي محيي الدين في البداية لابد لي من إزجاء الشكر الجزيل إلى الأستاذ الكاتب أحمد الناجي الذي تفضل مشكورا بتزويدي بخمسة أشرطة سجل عليها محطات أو لمحات من سيرة المناضل عبد الجبار علي التي قام بتسجيلها قبيل وفاته،وكان تاريخ تسجيلها من يوم 8/10 /1999 ولغاية الثالث عشر منه،وكان عملي في أعداد هذه السيرة استنادي إلى ما جاء في الأشرطة من ذكريات وأحداث وتسجيلها ليس بالنص أو الأسلوب الذي تكلم به صاحبها وإنما أضفت إليه شيئا يزيد في التوضيح والتقديم للحدث أو الواقعة بما لا يخرج عن المضمون العام للحديث،وبعض النصوص جاءت كما هي على لسان المتحدث الذي كان يتحدث بلغة عربية سليمة وعبارات تنبئ عن مقدرة على الحديث،وذاكرة قوية ،وتحاشيت التكرار الذي وقع به المتحدث والعودة بعض الأحيان إلى الحديث عن الواقعة ذاتها أو الخروج عن الموضوع وإيراد حادثة أخرى لا علاقة تاريخية لها بالحادثة التالية وهو استطراد جعلني أضيفه إلى مكانه الصحيح من السيرة،وحاولت ما وسعني الجهد أن أجعلها مرتبة تاريخيا لتكون بمثابة سيرة كاملة لحياته الحافلة بالكثير من الأحداث،وحاولت أن لا تطغى أرائي الخاصة على ما في السيرة فانا ناقل لها بعيد عن أحداثها ،غير متدخل في دقائقها وما فيها من أفكار ،وهي تتحدث عن فترات عصيبة مر بها الحزب الشيوعي العراقي بما واكبه من انشقاقات واختلافات رأيت أن أكون بعيدا عن الولوج في أسبابها وخلفياتها أو أكون طرفا فيها ،وحاولت أن أكون حياديا بعيدا عن أراء هذه الجهة أو تلك إلا ما يستدعيه الحدث وما تتطلبه الواقعة،والرفيق المذكور كان من المنشقين مع القيادة المركزية ،أو جماعة عزيز الحاج،وله أدوار في الحركة وموقع واضح في مسيرتها وكان من المشاركين في عملية الهروب من سجن الحلة،والمقاتلين في أهوار الغموكة وهو ما يرد بالتفصيل في ثنايا السيرة لذلك احتفظت بمسافة واحدة في ذكر الحدث بعيدا عن الخلافات الأيديولوجية والفكرية والتنظيمية للجانبين ،فقد أصبح الانشقاق في ذمة التاريخ وذهب القائمين به مذاهب شتى منهم الأبطال الحقيقيين والمؤمنين الصادقين الذين قاتلوا حتى أخر أطلاقة وضحوا بالروح أيمانا منهم بهدفهم النبيل وحقيقة توجهاتهم،وآخرين لا زالوا مؤمنين بصحة توجهاتهم ولم تدنسهم الأيام فيتقلبون بين المبادئ والأفكار فيكونون مع هذا أو ذاك وحافظوا على كرامتهم النضالية،وآخرون عادوا الى الحاضنة الكبرى الحزب الشيوعي العراقي مقرين بأخطائهم ،فيما كان البعض عار على الحركة الشيوعية عبر تاريخها وعلى جميع الوطنيين فلم يكتفوا بالانهيار والتراجع والاعتراف على رفاقهم والأخبار عنهم والتسبب بإعدامهم ،بل تحولوا إلى أعداء ألداء لكل ما هو أصيل وجميل ،وأصبحوا جواسيس وعملاء للمخابرات العراقية،ولا زالوا يعملون وفق توجهاتها وأوامرها ،ويحاولون ما وسعهم الجهد الوقوف في طريق التقدم والوحدة الشيوعية ويرفعون رايات التخلف والانهزامية،وادعاء المواقف الثورية التي لا وجود لها على الأرض،أو الانضواء وراء الأسماء الرنانة والعناوين البراقة دون أن نرى لهم أثرا أو وجودا في ساحات النضال ،وهؤلاء بدءوا يشكلون خطرا على الحركة الشيوعية بتحولهم إلى عقبات كأداء في وجه تقدمها ونمائها بما يطرحون من أفكار مريضة لم تعد صالحة في الوقت الحاضر. ولا يعني هذا تبرئة الآخرين من الأخطاء فالانحرافات اليمينية لها خطورتها على الحركة الشيوعية وأدت إلى ضمورها والحد من تقدمها وديمومتها،واليمينيين أكثر خطرا وضررا من اليساريين والجميع يقفون موقفا واحدا في تأثيرهم على مسيرة التقدم والبناء ،لذلك يتحمل هؤلاء القسط الأكبر فيما جرى ويجري،ويقع عليهم ما يقع على الآخرين من أوزار،ولعل الأضرار التي وقعت على الشيوعيين جراء المواقف اليمينية المبتذلة كانت لها تأثيراتها القاتلة التي كان ما أصاب الحزب من جراء الانحرافات اليسارية أقل أذى منها،لذلك علينا الإشادة بالمواقف الرصينة للشيوعيين العراقيين أصحاب المبادئ الثابتة الذين لم يتذبذبوا في مواقفهم أو يتمايلوا ذات اليمين وذات الشمال وظلوا علامات بارزة في التاريخ الشيوعي يرنوا إليهم الجميع بالإعجاب والإكبار،وظلت صحائفهم البيضاء وضاءة في كل زمان ومكان. وسنتناول بالتفصيل هذه المحطات التي كان للفقيد تأثيره الفاعل فيها ،وما له من وجود فاعل في الكثير من المحطات النضالية التي واكبت المسيرة الشيوعية منذ التحاقه مؤيدا ومؤازرا حتى نيله شرف العضوية وإسهامه في التنظيمات المختلفة وسعيه لبناء الحزب على أسس متينة من الضبط الحديدي والاستنارة بالفكر الشيوعي الخلاق،وما تعرض له من محاولات اغتيال واعتقال وسجون جراء مواقفه التي كان فيها مثالا للشيوعي الحقيقي الذي لا ترهبه الأخطار أو تقف في وجهه العقبات،وظل سائرا في طريق الشيوعية حتى أفول نجمه،بعد أن أدى ما عليه من واجب اتجاه شعبه وحزبه الشيوعي العراقي. ولد الفقيد في قرية برنون التابعة لمركز لواء الحلة ،والقريبة من مدينة بابل الأثرية سنة 1933 في أسرة متوسطة الحال،وكان تسلسله الثاني بين الأبناء فيما كانت مواليد الأسرة من البنات فقط لذلك كانت ولادته تعني الكثير للأسرة على عادة العرب في تفضيل البنين على البنات فكان محط عناية الأسرة ورعايتها وخصوصا من شقيقاته اللواتي يكبرنه في السن، لذلك ما أن أصيب بمرض حتى هرعت الأسرة لعرضه على أمهر الأطباء واتجهت به إلى مركز اللواء لعرضه عليه ،وحاطوه بالرعاية والاهتمام ،وما أن نشأ ونمى وأخذ يدرج مدارج الصبا حتى أسرع والده إلى إدخاله في المدرسة التي أنشأت حديثا مع شقيقه الذي يكبره بأربعة سنوات فكانوا جنبا الى جنب في الصف الأول الابتدائي وكانت المدرسة تشغل بيتا صغيرا من بيوت القرية ويديرها أستاذ فاضل عرف بجديته بين المربين والمعلمين وهو الأستاذ طه التكريتي الذي أرتبط بعلاقات متينة مع والد الفقيد وسكن القرية لأنه من العزاب بعد أن جلب معه والدته وشقيقته،وكان ذلك سنة 1937،وبعد فترة انتقلت المدرسة الى بيت أوسع،وكان أبوعلي من الطلبة المتميزين في المدرسة سواء بملابسه الجديدة التي أشتراها والده أو بقدرته على الحفظ لذلك سرعان ما أصبح محط اهتمام المعلمين فكان ينشد الأناشيد في ساحة المدرسة في الاصطفاف الصباحي وذات يوم أنشد نشيد الثعلب( خرج الثعلب يوما في ثياب الواعظينا) وهو من مقررات الصف الثالث ،فكان المميز بين الطلاب إلا أن قلة المعلمين في المدرسة وعدم قدرتهم على تدريس الصفوف الستة جعل والده يفكر بنقله الى مدرسة ثانية في كويريش التي تبعد عن قريتهم مسافة ليست بالقليلة،فانتقل الى مدرسة بابل الابتدائية لأنها أفضل من سابقتها وأكمل دراسته فيها وبعد نجاحه في الصف السادس الابتدائي بدرجة جيدة،انتقل الى الحلة لإكمال دراسته المتوسطة فيها،وقبل في القسم الداخلي لأنه من خارج مركز اللواء،وعندما باشر الدراسة في تلك المدرسة بدء يشعر بأهميته وتميزه عن الآخرين من أبناء قريته ،وأنه أصبح الآن شيئا يختلف عنهم وكان أن أمتزج بالأوساط الطلابية وبدء يقتبس من عاداتهم الشيء الكثير ويحاول مجاراتهم في أعمالهم حتى لا يقال عنه أنه وافد من الريف لذلك أكتسب عادات جديدة وبدء سلوكه ينحى منحى آخر فأخذ يرتاد دور السينما ويجلس في المقهى ليلعب الدومينو والنرد،وكانت الأفلام الأجنبية والعربية فيها الكثير مما هو غريب عليه غير مألوف لديه ،,رافق الكثير من أبناء المدينة أو المدن الأخرى فتحول تفكيره نحو أمور لم تكن معروفة لديه مما أثر كثيرا على مستواه الدراسي وكانت نتائجه في نهاية الامتحانات السنوية بين 60 -70 ،فيما كان يتوقع له أهله التفوق لما يعلمون من ذكائه ونباهته،وكانت الأفلام الأمريكية والعربية قد أكلت الكثير من عاداته الريفية الأصيلة،وبدأت الأفكار الجديدة تأخذ طريقها الى تفكيره الغض،وحدث لديه ما يشبه التمرد على الأوضاع العامة،وهو تمرد غير مدروس لقلة الوعي الفكري آنذاك. وقاده هذا التمرد الى إهمال وظائفه المدرسية فكان يذهب الى السينما بمعدل مرتين الى ثلاثة في الأسبوع،،وبدء يرفض العادات والتقاليد التي كانت سائدة آنذاك،وهذه الفترة كما يقول هي نهاية فترة الضياع وبداية فترة الانتماء،فقد حدثت في تلك الفترة الانتفاضة الشعبية الباسلة التي قادتها طلائع الشعب الوطنية وهي ما سمي بوثبة كانون 1948 ،التي جاءت ردا على توقيع صالح جبر رئيس الوزراء العراقي معاهدة أسترقاقية كبلت العراق بقيود متعسفة،فكانت أخبار الانتفاضة في بغداد تلهب حماس المواطنين وخصوصا فئة الطلبة التي كانت أكثر الطبقات وعيا في تلك الفترة،وقد رافق الانتفاضة أن قامت الإدارة المدرسية في مدرسة الريف الزاهر في المحاويل بحجب الأرزاق عن الطلبة وتوزيع كميات قليلة منها وسرقة المتبقي ،مما دفع الطلبة الى إعلان الإضراب والخروج بمظاهرة تطالب بكشف الجناة وتبديل الإدارة الفاسدة ،فكان أن توسط الوجهاء والشخصيات لإنهاء الإضراب منهم الأستاذ عبد الكريم كاظم الدليمي من البو سلام والحاج عبيد الكاظم ،وكان أن حدثت مظاهرات في الحلة تزامنت مع الإضراب والوثبة فعطلت المدارس تلك الأيام وأخذت الجموع تجوب شوارع المدينة بمظاهرات صاخبة تطالب بإلغاء المعاهدة وسقوط الوزارة،وقد هاجم المتظاهرون دار الاستعلامات البريطاني وقاموا بتهشيم زجاجها وتدمير محتوياتها وإحراقها ،وهذه الدار تمثل الحكومة البريطانية وتتخذ منها وكرا لنشر الدعايات وشراء الذمم وتحريك العملاء،وقد شارك في المظاهرة العمال والفلاحون والطلبة والكثير من قادة الرأي في المدينة وكان للشيوعيين دورهم الواضح في أذكاء نار لوثبة ودفع المواطنين للمشاركة فيها،ومن الأهازيج التي كان يرددها المتظاهرون (نوري سعيد القندرة وصالح جبر قيطانه) وكانت هذه الأهزوجة قد شاعت وذاعت حتى بات يرددها الصبيان في الأزقة والشوارع. ومما يلفت النظر أن بعض الشباب الذي يدعي الانتماء القومي وهم في حقيقتهم من أبناء الأقطاعين والتجار والمتنفذين في تلك الفترة،وكان يتزعمهم شباب من آل جريان العائلة الإقطاعية المعروفة قد وجهوا إنذارات إلى الطلبة المشاركين بالانتفاضة بأنهم سيقومون بمداهمة القسم الداخلي كما فعل أصحابهم في بغداد عندما هاجموا القسم الداخلي لكلية الملك فيصل ،وانهالوا بالعصي والسكاكين على طلبة الكلية من الديمقراطيين والشيوعيين وهم يصيحون بهوس (الإسلام ديننا والقرآن كتابنا ،والشيوعية عدونا) وقامت السلطة الملكية البائدة بإغلاق الكلية وأراء تحقيق شكلي،ولم يحاسب الجناة لضلوع أدارة الكلية بالجريمة وموافقة السلطات عليها ،وكان هؤلاء مدفوعين من قبل حزب الاستقلال ، وكان في القسم الداخلي الكثير من الطلبة الديمقراطيين والشيوعيين،ومدير القسم المرحوم الأستاذ حسين راجي ،فقام بإحضار مسدسه،وظل يحرس القسم حتى صباح اليوم التالي،وكان القسم يقع في محلة الأكراد مقابل محطة الغاز الحالية،وقد قام الطلاب بتشكيل فرق للحراسة وهيئوا وسائل الدفاع البدائية عن قسمهم حيث جمعوا الكثير من الطابوق والحجارة ووزعوه في أماكن متفرقة من سطح القسم للرد على المهاجمين،ويبدوا أن المهاجمين أحسوا بالاحتياطات المتخذة فلم يحدث الهجوم،وإنما حدث الهجوم في اليوم التالي أثناء الدوام الصباحي،حيث أخذ أحد زعماء الحركة الطلابية من الديمقراطيين الذي لم تسعفني الذاكرة باستذكار أسمه ،وضرب ضربا مبرحا من قبل هؤلاء،وعندها خرج الطلاب أبجمعهم في مظاهرات تندد بهذا العمل الإجرامي الجبان،وقد استنكرت أدارة المدرسة العمل وخرج التدريسيين في المظاهرة إلى جانب الطلاب،وكان للإدارة المحلية المرتبطة بالإقطاعيين موقفها المهادن من هذا العمل ،ولم تتخذ الأجراء المناسب لمحاسبة الجناة،مما خلق نوع من التعاطف من قبل الإدارة المدرسية مع الديمقراطيين وأسهم في انحيازهم إلى جانبهم في القادم من الأحداث.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |