بعد تسعين عاماً من الفشل والخيبة والخسران هل من خلاص للعراق؟

 

د. حامد العطية

 hsatiyyah@hotmail.com

 تسعون عاماً مرت على العراق منذ انسلاخه عن الدوله العثمانية، وعلى مدى هذه العقود التسعة تولى أبناؤه تسيير أموره، تحت وصاية بريطانية في البدء تحولت إلى تحالف قوي اعتبره الكثيرون تبعية لبريطانيا، تلته فترة استقلال – ظاهري على الأقل-  ليفضي مؤخراً إلى احتلال، وهكذا بدأ الكيان العراقي تاريخه الحديث في الربع الأول من القرن العشرين تحت نير احتلال أجنبي ليفضي بعد حوالي تسعين سنة إلى نفس الوضع، أي تحت الاحتلال، وكأن الزمن بقي جامداً عند 1917 وحتى اليوم، والفارق الوحيد هو أن الاحتلال في حينه كان بريطانياً واليوم أمريكياً بمشاركة بريطانية وحفنة من الدول التابعة، فماذا نسمي هذا الوضع الذي لا نجد له نظيراً في التاريخ الحديث لدول العالم بعد انتهاء زمن الاستعمار بنوعيه؟

قبل تسعين سنة دخل الجنرال مود البريطاني العراق مدعياً بأنه "جاء محرراً لا محتلاًً"، فلم يصدقه معظم العراقيين، الذين رفضوا الاحتلال لتعارضه مع ثوابت عقيدتهم الدينية ووطنيتهم، وعلى الرغم من تشتتهم في إثنيات وأديان وطوائف وتفرقهم في عشائر غالباً ما كانت متصارعة فقد توحدوا حول الثورة على المحتل، وانضوى معظمهم تحت قيادتهم الدينية التي أفتت بالجهاد ضد المحتلين، فلم يترددوا في التصدي لأكبر قوة في العالم آنذاك بأسلحتهم البدائية، فأحرزوا النصر تلو النصر على القوات البريطانية، مما دفع بوزير مستعمراتهم في حينه ونستون تشرشل للتهديد باستخدام الأسلحة الكيماوية الفتاكة ضد الثوار العراقيين، وبعد انتهاء الثورة استأثر بالسلطة المتعاونون مع الإنكليز، الذين ارتضوا للعراق استقلالاً شكلياً وسيادة منقوصة مقابل مساعدتهم على التسلط على أغلبية العراقيين التواقين للحرية الكاملة والاستقلال التام، أما اليوم فدعاة محاربة المحتلين أو على الأقل مقاطعتهم واجبارهم على الانسحاب بالوسائل غير القتالية مضطهدون، بل أن الحكومة العراقية المدعومة من بعض المراجع الدينية تطلب من مجلس الأمن سنة بعد أخرى التجديد لقوات الاحتلال، وتروج لاتفاقة أمنية ما هي إلا غطاء واه للتبعية لأمريكا، كما لا تؤيد معظم الجماعات السنية انسحاباً سريعاً بدعوى التخوف من الفراغ ونشوب حرب أهلية، ويتشبث قادة الأكراد بالمحتلين، وكأن لا حياة للأكراد في العراق بدونهم، كل هذه الحقائق تقود إلى الاستنتاج بأن العراقيين قبل تسعين سنة كانوا أكثر وعياً وتمسكاً بدينهم وأشد اخلاصاً لوطنهم وحرصاً على عزتهم وكرامتهم من العراقيين المعاصرين.     

قبل تسعين سنة ولد العراق موحداً من فوضى الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية والاحتلال البريطاني، والآن يخشى من اضمحلال العراق بسبب فوضى الاحتلال والخبث الأمريكي والإرهاب المصدر من الجزيرة ومؤمرات أعرابها، آنذاك لم يفكر أحد من العراقيين بتقسيم بلدهم الفتي، لا على أساس إثني ولا وفقاً لتوزع طائفي، على الرغم من شعور الشيعة بالغبن الفادح على امتداد قرون طويلة من التسلط العثماني ذي المذهب السني، ولم تسمع من عراقي واحد تحريض طائفي أو إثني، ولم يجرأ أحد من السنة على قتل الشيعة لأنهم طالبوا بمشاركة عادلة في الحكم، كما لم يثور الشيعة بعد نقض الحكم الملكي لوعوده بانصافهم، وما أبعد اليوم عن الأمس، وهل يعقل أن يكون العراقيون قبل تسعين سنة وغالبيتهم العظمى من الأميين أكثر تمسكاً بدينهم ووطنهم وحفظاً لأواصر الآخوة بينهم من العراقيين اليوم وغالبيتهم العظمى من خريجي الجامعات والمدارس؟

فشل العراقيون في الاتفاق حول ملك لبلادهم فاستوردوا شخصاً من الحجاز الأكثر تخلفاً من بلادهم ليكون ملكاً عليهم، وبعد اعتلاءه العرش بتسعين عاماً فشل العراقيون في الاتفاق حول صيغة حكم لبلادهم، فراحوا يستغيثون بالمحافل الدولية والأقليمية وبالقريب والبعيد عنهم لمساعدتهم في التوفيق بين فئاتهم المتصارعة، وعلى أية حال فمن قال بأن العراقيين اليوم يحكمون بلادهم بأنفسهم؟ فالإحتلال باق، والبلد بدون سيادة، وقرار الحكومة مقيد.

خلال التسعين سنة التي انقضت على انشاء الكيان العراق تعاقبت على حكمه أنماط مختلفة من النظم السياسية، بدءً بالملكية شبه الدستورية ومن ثم حكم الزعيم الأوحد فالحزب الواحد القائد والقائد الحزبي الأوحد المتسلط، وكلها باءت بالفشل الذريع، فقد تقوضت جميعها بفعل الإنقلابات وآخرها بالاحتلال الأجنبي، ولم تترك واحدة منها إرثاً سياسياً قابلاً للبقاء والتطور، فلم تكن البرلمانات في العهد الملكي منتخبة بحرية وديمقراطية حقة، ولم تكن الجمهوريات التي خلفت الملكية سوى ستار رقيق للدكتاتورية والطغيان، والأحزاب مجرد اسماء على غير مسميات، يصطنعها افراد طامحون للسلطة والتسلط كوسائل وأدوات لبلوغ مآربهم، فلا فكر ولا منهج أو برنامج سياسي، والحزب ملكية خاصة بقائده ومؤسسيه، وهم باقون في مناصبهم ما شاؤوا أو حتى الموت، ولم نسمع بتبدل قيادي في حزب نتيجة انتخاب، وإذا حدث تغيير في القيادة فغالباً ما يكون ناجماً عن صراع داخلي يفضي للإطاحة بقيادته أو إنشقاق يتولد منه حزب جديد.

ومنذ تكوين العراق الحديث وحتى اللحظة تعامل الساسة مع عامة الشعب على أساس كونهم رعية أو رعاعاً، لا خيار لهم سوى الطاعة العمياء والرضا بما يختاره لهم القادة، ولو كان يحمل اختيارهم في طياته الموت الزؤام لهم، والويل كل الويل للرعية التي تخرج عن طاعة قائدها.

أثبتنا نحن العراقيون فشلنا في السياسة عندما انتهى بنا المطاف إلى كيان مهدد من الداخل بالتفكك، ألد أعداءنا هم عراقيون، لا تهمهم سوى مصالحهم وليجرف الطوفان بقية العراقيين والعراق، فإن كانت مصالحهم لا يخدمها سوى الاحتلال قالوا مرحباً بالاحتلال وليدنس الأمريكان تربة العراق الطاهرة، وينهبوا خيراته، ويسخروا أبناءه لخدمة أهدافهم الشريرة، ويتنافس معهم في الضلال وحب الذات أولئك العراقيون الذين تسلطت عليهم أحقاد طائفية ومصالح ذاتية فأعلنوها حرباً طائفية إرهابية شعواء، راح ضحيتها مئات الآلاف من العراقيين العزل، وتركت شرخاً واسعاً في بنية المجتمع العراقي.

انعكس فشلنا السياسي على مجتمعنا شقاقاً وتفريقاً، كان أهل يثرب  من الأوس والخزرج متفرقين ومتحاربين فجاءت رسالة الإسلام  يحملها رسول الرحمة إليهم لتؤلف بين قلوبهم، وكان العراقيون متآلفين ومتصالحين قبل تسعين سنة، فجاء الساسة وأسيادهم وحلفاؤهم الأجانب ليفرقوا بينهم، ويزرعوا الأحقاد الإثنية والطائفية في قلوبهم، وبلا شك كان المجتمع العراقي قبل الاحتلال البريطاني أشد تماسكاً وتآخياً منه في الوقت الحاضر، وكان العراقيون أكثر تمسكاً بقيم دينهم ومكارم الأخلاق، أما اليوم فقد تفككت أواصر العائلة، وتفسخت روابط العشيرة والجيرة، ففي ظل التدهور القيمي تجرأ الأخ عل نهب حقوق أخيه، وبات العراقي مسهداً من الخوف من غوائل جاره، ولم يعد الخارج من بيته يأمن على نفسه من الذبح أو الاختطاف أوالسلب أوالنهب، وانتشر الفساد في الحضر والريف.

إذا كان النظام السياسي فاشلاً والمجتمع منقسماً فالاقتصاد في تخلف مستمر والتنمية معطلة، فإذا كانت الجمال يقتلها الضمأ والماء فوق بطونها محمول لأنها أولاً حيوانات غرائزية لا عقلانية، وثانياً لأنها في البيداء فلو وجدت أمامها ماءً لشربت منه حتى ارتوت، فما عذرنا نحن العراقيون يقتلنا الجوع والمرض وأرضنا تحت أقدامنا تطفح بالنعم والخيرات؟  فأغلب العراقيين، ما عدا المنتفعين بالسياسة وأثرياء الحرب والسراق والمختلسين والمرتشين، لا يتمنون اليوم سوى سد الرمق وستر العورة ودفع البرد القارص. في أوائل القرن العشرين كان العراق بلداً مصدراً لا للنفط وإنما للحنطة والشعير والتمور وغيرها من المحاصيل الزراعية، وكان النجدي قبل أن تنشأ دولة الوهابيين الإرهابية يحلم بالهجرة من بلاده للعيش ولو في قرية الزبير من أرض العراق ليشبع خبزاً وتمراً ولبناً، ويروي الخليجيون من سكان ما يعرف اليوم بالكويت وقطر والإمارات العربية بأن أباءهم وأجدادهم كانوا يترقبون في المرافيء بلهفة رسو السفن القادمة من العراق ليملئوا بطونهم من تمورها، أما اليوم وفي مطلع القرن الواحد والعشرين فنحن نستورد معظم غذاءنا من الخارج، وقد هاجر الملايين منا إلى مختلف دول العالم طلباً للقمة العيش، ومئات الآلاف منهم يعملون لدى أوباش العربان الخليجيين، الذين يسومونهم سوء المعاملة مستغلين ضعفهم وحاجتهم ومتشفين بمصائبهم، وكلما استمعت لعراقي يقارن بين تطور دول الخليج التي لم تنقضي على تكوينها أربعون سنة وبين خراب العراق وددت لو مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً.

أعداء العراق كثيرون، ويود البعض منهم لو لم يكن هنالك عراق البتة، وعلى هذا الهدف تلتقي مصالح أمريكا وحلفائها الغربيون والصهيونية الحاقدة على العرب والمسلمين والنظم العربية العميلة لأمريكا والصهيونية مثل مملكة آل سعود، فلا أحد منهم يريد عراقاً موحداً وقوياً ومتطوراً، وبالرغم من كل ذلك فالمسئولية عن الفشل العراقي هي مسئوليتنا نحن العراقيون بالمقام الأول، وعلينا أولاً الاعتراف بذلك،  وتوجيه أصابع الإتهام إلى المسئولين عن هذا الفشل التاريخي المخزي، وعلى رأسهم الطبقة الحاكمة الفاسدة أثناء العهد الملكي من رؤوساء قبائل وبقايا عثمانيين وضباط الجيش العراقي الفاسقين المتهافتين على السلطة وقادة وأتباع الحركات الحزبية التافهة المستوردة وبعض رجال الدين الدنيويين وأشباه المثقفين من الأكاديميين الوصوليين، كما ينبغي علينا تقصي أسباب ضعفنا وفشلنا، الماثلة للعيان، والعمل بجد لتصحيح مسيرتنا والنهوض بوطننا من جديد، وليست هنالك بداية أفضل من التوحد حول طرد المحتلين الأمريكان، ورفض الاتفاق الأمني معهم، واستعادة استقلالنا التام، والتعاهد بيننا جميعاً على الالتزام بالهدي الآلهي وبمباديء العدل والمساواة والجدارة والحقوق والتنمية للجميع.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com