|
الديمقراطية والمجتمع المدني
ضياء الجصاني/ رابطة الرافدين لحقوق الانسان-الأمانة العامة أولا- المجتمع المدني-مقاربة المفهوم: يعد تحديد المفهوم، مقدمة لا مناص منها لمناقشة موضوع ملتبس كالذي نحن بصدده، وعلى رأي المؤرخ اليوناني (كوسيديوس)، فان اهمال المفاهيم يؤدي بنا الى (ان نمتدح الطاعة العمياء كأنها تحقيق للديمقراطية). ومن المفيد أن نذكر، لمن يريد المتابعة، ان معجم أكسفورد، هو أول مرجع يأتي على ذكر، مصطلح المجتمع المدني، وكان قد جاء قبل ذلك، في الكثير، من موسوعات الفلسفة والعلوم ، حيث ان المفردة (مدني)، قد الحقت بعدد من المصطلحات، مثل (العصيان المدني)، و (القانون المدني)، و (الحقوق المدنية)، و (الحريات المدنية) وغيرها. وما يعنينا في حدود هذه الدراسة، هو تعريف نحدده نحن، ويقوم على قدر من الاجرائية، تضع المفهوم في متناول اليد، كواحدة من الآليات التي تسير بنا، الى الغايات التي نسعى لها. وكمدخل لتناول مفهوم المجتمع المدني، بخواصه العامة، فسوف نقول: (ان المجتمع المدني، هو واحدة من الآليات المجتمعية، الضرورية لتوفير أعلى قدر ممكن، من التوازن والاستقرار للجماعة، ويتمثل في تجمعات ذات قواعد راسخة، للتعايش والعمل التطوعي المشترك، لتحقيق اهداف تخدم المجموع، وان هذه التجمعات، قد تسبق من حيث النشأة، سلطة الحكومة الرسمية، أو تسير بموازاتها). وبهذا المعنى فسيكون بوسعنا القول، ان جميع المجموعات البشرية، الرعوية والزراعية فيما بعد، التي قامت تحت قانون الحاجة الجمعية، قد كونت شكلا ما، من اشكال المجتمع المدني، قبل ظهور حكومات المدن، بزمن طويل. وان جميع القبائل البدائية، وامتداداتها المنضوية تحت نظام القبيلة، في الوقت الحاضر، هي مجتمعات مدنية طبيعية، فطرية، غير مقصودة. ثانيا- المجتمع المدني وسلطة التفويض الطبيعي لقد كانت المجتمعات البدائية، مرحلة انتقالية عبرت بالبشرية، من مرحلة (جمع القوت)، الى مرحلة (انتاج القوت)، التي تميزت بظهور المجموعات البشرية الرعوية الجوالة، ومن ثم القرية الزراعية المستقرة، فالمدينة بأنساقها الاجتماعية، وما تلا ذلك من تطورات، على مستوى الادارة، وظهور حكومات المدن. ومن الطبيعي أن تعمد السلطة الحاكمة، الى مد نفوذها على حساب أنموذج القبيلة، وأن تلجأ الى التشريع. فكانت المدونات القانونية، بديلاً لأعراف القبيلة، التي واجهت التطورات الجديدة، بشيء من التحسب والتردد، أو الرفض في حالات معينة، وكان لابد من وجود قوة تنفيذية، لفرض الوقائع الجديدة بطريقة أو باخرى. وقد مهد هذا الى مرحلة جديدة، انتهت بتمركز السلطة، بيد المؤسسة الحكومية، مما أدى الى اقصاء، مؤسسات المجتمع المدني الفطرية، عن مركز القرار، ولكن بدرجات متفاوتة، حيث انها لم تشطب تماما. وظلت العائلة والقبيلة، والمؤسسة الدينية، وجمعيات الحرفيين والصناع وما شابهها، تعمل جنبا الى جنب مع السلطة. وقد كانت في حالات معينة، نداً للسلطة التي تسعى، أما الى التقرب منها وتعزيز مواقعها، أو لتحجيم أدوارها، والامعان باقصائها، ولو بالقوة المفرطة. وأياً كان شكل المجتمع المدني، في الحالات التي ذكرناها، فهو لم يبلغ أنموذج المجتمعات المدنية، الطبيعية الفطرية والبدائية، سواء من حيث طبيعة التأثير وقوته، والانصياع الاختياري له، أو من حيث بساطة التكوين. ويمكن أن توصف العلاقات، بين افراد المجتمعات المدنية الفطرية، بانها علاقات تعاقدية عرفية ورضائية. وهي شيء مختلف تماما، عما يطلق عليه سلطة التفويض الطبيعي. سواء بصيغة الحق الالهي المباشر، أو الحق اللالهي غير المباشر، التي قامت عليها الدولة المستبدة، أو كما تسمى أيضاً، دولة السلطة المطلقة، أو ما تبع ذلك من الحكومات الدستورية، التي أنشأت وفق نظريات العقد الاجتماعي، وكلاهما قد عمدا الى صهر المجتمعات المدنية الطبيعية، في حكومات تجاوزت، الحدود الضيقة للمدينة، لتبسط نفوذها بالقوة المسلحة في معظم الأحيان، على كامل الاقليم، أو لتمتد فيما بعد فتخضع الأقاليم المجاورة. ثالثا- مبادئ العقد الاجتماعي ودولة السلطة الدستورية: لقد استمرت سلطة الحق الطبيعي، قروناً طويلة، قبل أن تشهد المجتمعات المدنية، تحولاً جذرياً صاحب الانقلاب الهائل، في الفكر السياسي الغربي، الذي شهدته أوروبا، في مطلع عصر النهضة، وأبان القرنين السابع والثامن عشر بوجه خاص. ولعل الفكرة التي ألمحنا لها فيما تقدم، والقائلة بأن المجتمع المدني، قد سبق في وجوده التأريخي، ظهور الدولة، وانه قد أكد قدرته، على ادارة شؤونه طواعية، وبشكل رضائي، خارج مفهوم السلطة نفسها، قد كان مصدر الهام، لعدد كبير من مفكري عصر النهضة في اوروبا، الذين كانت افكارهم، بمثابة نقطة الانطلاق لهذا التحول. كما ان قيام الأشكال الأولى، للدولة المطلقة، على أساس نظرية الحق الطبيعي، قد أجج الصراع، بين الأنموذج القديم (المجتمع المدني الفطري)، والأنموذج الجديد (دولة الحق الطبيعي)، التي استأثرت بالسيادة على المجتمع السابق لوجودها. ولم يحسم هذا الصراع، الذي استمر مئات القرون، الا بظهور فكرة العقد الاجتماعي، التي بشر بها (توماس هوبز 1588-1679)، وأنضجها وطور مفاهيمها، (جون لوك 1691)، الذي أكد أن العقد الاجتماعي يتأسس على: 1- ارادة أفراد، تقوم على أساس قانون العقل. 2- احترام التعاقد من قبل أطرافه التي أبرمته. ومن وجهة نظر (لوك) هذه، فان التعاقد الاجتماعي، هو غاية مقصودة بذاتها، وهو لا يستقيم مع العبودية والخضوع القسري، لدولة الحق المطلق، بل أنه نفي لهما واقصاء. ومع كل التقدم الذي حققته النظم السياسية في أوروبا, الا أن مفهوم المجتمع المدني، تحت ولاية العقد الاجتماعي، كان يعني المجتمع والدولة معاً، بعد أن تحررا من وطأة (الحق الطبيعي, وقد ظل المجتمع المدني برمته، موضوع جدل محتدم، ومرتبط باشكاليات نظرية العقد الاجتماعي ومفهومه، وفشلها في اقامة الدولة الدستورية المقيدة. وقد ظلت الدولة المستبدة تتلفح بالدستور، بالرغم مما قال به (لوك)، من حق المجتمع في عزل الدولة، تحت شروط محددة، عزلاً منظماً تكون آلياته الانتخابات الدورية، أقول لقد ظل الحال هكذا، حتى جاء (هيغل)، باطروحاته التي كانت، عناصر جذب لامثيل لها، لمنظري الديمقراطية فيما بعد. والمجتمع المدني عند (هيغل)، هو الحيز الاجتماعي الأخلاقي، بين العائلة والدولة. وهو وفق هذا المفهوم، يظهر بعد ظهور الدولة، ويقوم على سلسلة من الوسائط، بين الفرد والدولة، مع عدم التخلي، عن البنى العضوية الضرورية، للحفاظ على موقع الفرد، وأهميته بالنسبة للجماعة. فالأنشطة المشتركة، وروح التعاون والمبادرة، من أجل المجموع، تعد جميعها، جزء من البنى العضوية لوحدة المجتمع، وهي بنفس الوقت جزء لا يتجزأ، من المجتمع المدني الحديث. ومع ان المجتمع المدني، بمفهومه الذي حددته، النظرية التعاونية الأهلية الهيغلية، قد استوفى خصائصه الجوهرية، كرابطة اختيارية، ينتسب لها من ينتسب بكامل ارادته، واعتبار الدولة أو المجتمع السياسي، شرطا لاستقراره وفاعليته، مع تمتع مؤسساته بالاستقلال التام عن الدولة، واحتفاظه بامتدادات اجتماعية، تتمثل بظهوره المؤثر، في الحياة السياسية، والمهنية، والمؤسسات الانتاجية، وغيرها. الا انه ظل مؤسسياً، تابعا الى الدولة الدستورية مرة، ومتمرداً عليها في مرات اخرى. وقد احتاج الى قرنين أو أكثر، قبل أن يصبح على ما هو عليه الآن، بكنف الدولة الدستورية، في مرحلة الليبرالية الديمقراطية، مجتمعاً مدنياً مستقلاً وليبرالياً. رابعا- المجتمع المدني والدولة الديمقراطية: لم يكن المجتمع المدني، بمفهومه الحديث، من بعض هبات الدولة الديمقراطية الحديثة وحسب، بل انه شرطاً حيوياً لقيامها، ذلك لأن الديمقراطية لا معنى لها، من دون أناس ديمقراطيين. ولتحقيق هذا الشرط كان لابد من التحول عن دولة العقد الاجتماعي، المقيدة نظريا بالدستور، أي من نظام الدولة (السلطانية)، ومن شعب الرعايا الى دولة الديمقراطية الليبرالية، القائمة على أساس (المدنية والمواطنة). ولكي يتحقق أنموذج هذه الدولة، كان لابد من ربط ضمانات الحرية السياسية بالقوانين والعادات، وبهذا المعنى فان الحرية السياسية، تكمن أولاً وآخراً، بالوضعية الأخلاقية للشعب نفسه، ومن هذا المنطلق يمكن القول، ان المدنية والمواطنة كليهما، مجموعة أدوار اجتماعية، ومجموعة من الأنساق الخلقية، ذات مكانة قانونية، وهي ملزمة للفرد والمجتمع والسلطة، وان مجموعة الأدوار لكي تكون فعالة، لابد أن تنتظم بمؤسسات مستقلة، على مبدأ الرابطة الاختيارية، وتنتظم من خلالها، المصالح المجتمعية للطبقات الاجتماعية، والمؤسسات الدينية، والاتحادات المهنية، ونقابات العمال، وكافة الفعاليات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى، وتصبح الدولة بمؤسساتها كافة، ضرورة لا مناص منها، لاستقرار المجتمع المدني، والمحافظة على وحدته، وتمتعه بالحرية الكاملة لأداء وظائفه، بعيداً عن سلطة الدولة.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |