الدعاء .. حاجة ملحة لانتصار طموحات المستضعفين
احمد الحسني البغدادي alsaed_albaghdadi@yahoo.com
الدعاء .. انشداد نحو الله
ولد الإنسان مشدوداً بطبيعته الفطرية .. وتوجهه الداخلي الى الدعاء، لأن علاقته بـ ((الدعاء))أحد عناصر مقومات انتصاره وهيمنته على مصاعب الحياة، وضغط المشكلات، وتراكم الأزمات في مسيرته التاريخية الإنسانية الحضارية .
فهو خليفة الله سبحانه وتعالى في الارض .. بعد أن منحه سعادة الدنيا، ونعيم الآخرة .. فعليه أن يحافظ على هذه الخلافة، ولا يكون العنصر الأساس لتحجيم سيره نحو الله، وتحريف منطلقه، وتطويق مسيرته .
ولا يمكن حل المشكلات والمعضلات التي تجتاح الإنسان .. الا بأنه يتجه بدعائه بوعي ويقظة وحساسية وإخلاص إلى الكمال المطلق الحق العليم القدير الذي أحاط علمه بكل شيء، والإستسلام لسلطانه الذي يستسلم له هذا الوجود كله، ولا يتخطاه .
فهناك إرتباط وثيق بين عالم الشهادة، وعالم الغيب !! والدعاء سبب اختياري واقعي من أسباب تحقق وجود الشيء، والفوز بالخيرات الدينية، والظفر بالمطالب الدنيوية، والنجاة من المكاره الدنيوية والاخروية .
ولذا نجد الرسل والاوصياء، لا سبيل لهم في إنهاء مشاكلهم وأزماتهم المعنوية، أو المادية الخاصة منها أو العامة .. الا أن يتوسلوا بالله جل جلاله في دعواتهم المباركة، وحالاتهم الإنقطاعية على سبيل الإستعطاف، وطلب رحمته في غاية الخضوع والخشوع والإمتثال وشدة التوجه إليه .. وهم يمثلون السمو، والأصالة، والطهارة، والرفعة الانسانية في الإرتباط بالمبدأ الفياض، والحي القيوم الذي يستوعب تطلعات مسيرة الجماعة البشرية .
فسبحان الله من أوجد في عالم الوجود الخارجي المحسوس قضايا وموضوعات مستمدة من عالم الغيب غير المتناهي الخارج عن الحس، ليحقق الإيمان الحقيقي الواقعي لعباده المخلصين، ويساعد على تفجير كل طاقاتهم المبدعة، وتحررهم من سراب تلك المطلقات الكاذبة وليدفعهم إلى نعيم الآخرة الأبدي بعد رفض كل المطلقات الوهمية وليدة عقل الإنسان العاجز.
وإن القلب الذي يدعو الله في نهاره وليله، ويطلب مرضاته ومحبته .. ولا يرى شيئاً في الوجود .. الا ويرى الله حاضراً عنده بقوله : ((إلهي هب لي كمال الإنقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء النظر إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلقة بعز قدسك)) .
وإن القلب الذي يستشعر يد الله وعينه على كل شيء بمثل هذه التربية العرفانية الإيمانية العالية الطويلة الأمد العميقة التأثير .. ليصعب أن ينسى، أو يغفل، أو يضل .. ويستحيل أن لا يدعو، ولا يتضرع، ولا يخشع بذكر الله تعالى، وملأ مشاعره من عظمته .. وهو : حيثما تلفت وجد يد الله، ووجد عين الله، ووجد عناية الله، ووجد قدرة الله .. متمثلة ومتعلقة بكل شيء في عالم هذا الوجود .
قال الامام علي (ع) :
((ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله، وبعده، ومعه، وفيه))
ونسب إلى ولده الحسين (ع) :
((عميت عين لا تراك، وخسرت صفقة عبد لم يجعل له من حبك نصيب)) .
فهذا الحس الإيماني بجلال الله وقربه معاً .. هو الذي يؤكده المنهج الإسلامي هنا، ويقرره في صورته الحركية الواقعية عند الدعاء والمناجات .. ودوره في حياة الإنسان الذي يبقى دائما وأبدا يشعر بلذة هذا الذل والانكسار، وهذا العجز والافتقار، بل ويشعر كذلك بلذة الجمال المطلق الأشمل، وبالكمال الأرفع الأهم .
أجل .. الدعاء هو يشده بمصدر العروة الوثقى، عروة السماء، ويجدد فيه الأمل، ويمنعه من السقوط، ويحرسه من القنوط وينهاه عن الاعتداء على سلطان الله فيما يدعونه لأنفسهم من الحاكمية التي لا تكون الا للواحد القهار .. كما ينهاه عن الفساد في أصقاع الأرض بالهوى الفاسد، وقد أصلحها الله بالإسلام القائد .
والنفس الإنسانية التي تتضرع وتخشع للقريب المجيب .. لا تعتدي كذلك، ولا تفسد في الارض بعد إصلاحها، فلا تشاء الا ما شاء الله، ولا تريد الا ما اراد الله سبحانه وتعالى .
نستكشف في مثل هذه الدعوات الرسالية، والحالات الانقطاعية قول سيد العارفين أمير المؤمنين (ع) في دعائه المشهور الذي أملاه على الصحابي الجليل كميل بن زياد :
((إلهي صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك)) .
وهذا هو العروج العرفاني .. وهذا هو الحب الاختياري .. وهذا هو الحضور الوجداني للمبدأ الفياض .. بل هذا هو الذي يصل بالإنسان الداعي إلى أقصى درجات القرب الملكوتي، وأعلى مقامات العارفين الشامخين .. بل هذا هو الذي يستهدف أرفع وأجل سلوك وسير تكاملي في الممكنات كلها .
قال الله سبحانه وتعالى :
((واذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي اذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون)) البقرة / 186 .
((وقال ربكم أدعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)) غافر / 60 .
وقال رسول الله محمد (ص) :
((ألا أدلكم على سلاح يجنيكم من أعدائكم ويدر أرزاقكم .
قالوا : بلى .
قال (ص) : تدعون ربكم بالليل والنهار، فإن سلاح المؤمن الدعاء)) .
وعنه (ص) :
((أفضل العبادة الدعاء، وإذا أذن الله لعبد في الدعاء فتح له أبواب الرحمة أنه لن يهلك مع الدعاء أحد)) .
وقال سيد العارفين أمير المؤمنين علي (ع) :
((الدعاء مفاتيح النجاة، ومقاليد الفلاح، وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقي، وقلب تقي، وفي مناجاة سبب النجاة، وبالإخلاص يكون الخلاص، فإذا اشتد الفزع فإلى الله المفزع)) .
وقال الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) :
((الدعاء هو العبادة التي قال الله : ان الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين . أدع الله عز وجل، ولا تقل إن الأمر قد فرغ منه)) .
وقال الامام علي بن موسى الرضا (ع) :
((عليكم بسلاح الأنبياء ..
فقيل : ما سلاح الانبياء ؟..
قال (ع) : الدعاء)) .
سعياً وراء الغيب
إن أقدس المقامات الممكنة للمسيرة الإنسانية مقام العبودية .
فالعبيد جميعاً يقفون في حضرة الألوهية .. موقف العبودية الحقيقية .. لا يتعدونه، ولا يتجاوزونه، ويقفون في مقام العبد الخاشع المتفاني في مرضاة الخير المطلق، وبها ينالون درجتي الفناء في الله عز وجل، والبقاء به سبحانه وتعالى .
والشرائع السماوية، ولا سيما الشريعة الإسلامية الخاتمة هي التي طرحت هذا المقام : مقام العبودية بقصد عقلاني ووجداني وأخلاقي .. وبالتالي فقد ربطت الإنسان بالواجب تعالى ربطا متيناً وثيقاً واعياً .. كالربط بين الأثر مع المؤثر، والمعلول مع العلة التامة .
والدعاء من روافد ذلك الربط القوي المتين، لأن له أبعاداً عظيمة في الذات الإنسانية نحو الغيب المحجوب، والارتباط بالعلام الغيوب، والانقطاع اليه بصيغته الروحية الصالحة في كل الصعد المختلفة .
وهذا التوجه والارتباط والانقطاع والامتثال والانقياد .. من روافد تكامل الذات الإنسانية في الاعتبارات المعنوية من نزاهة وإخلاص وإحساس بالمسؤولية الإسلامية التاريخية، إذ القرب الروحي من ينبوع الحكمة والكمال المطلق، يوجب بلوغ الإنسانية نحو السير التكاملي التام، كما أن الانحراف عنه، يوجب الحجب والاغشية الظلمانية في النفوس .
ومن هذا المنطلق .. يدرك المخلوق خالقه، ومن هذا المسار يعطف الخالق على خلقه .. فلا حياة الا بالعبودية الحقيقية الصادقة .
بل بها تبتهج النفس الإنسانية إلى عالم لا نهاية لأي منطلق من منطلقاته، لتجردها حينئذ عن دار البوار، وارتباطها بنور الأنوار الذي لا يمكن بحال تحديد أشعته بأي حد من حدود العوالم الامكانية .
إن مشهد الاستكانة والتضرع في الدعاء، وهيئة الخشوع والانكسار، والنزوع والتطلع إلى الله من وراء الحدود .. له نماذج متفاوتة حسب نماذج توجه الإنسان الداعي في ارتباطه وانقطاعه، وفي حبه وإخلاصه، ودرجات وعيه وإدراكه في القرب من الله تعالى، لأن الذات غير محدودة .. وكذلك الصفات، فالتطلع والانشداد إليه جلت قدرته يغدو كذلك، فلا يمكن بحال تأطيره، وإن التطلع والانشداد والسعي إليه يشمل كل الممكنات، ولا يختص بـ (الإنسان)، وبهذا الارتباط يقوم نظام التكوين، وبه تتم القيمومة المطلقة على الممكنات، لأن الكل مخلوق ومربوب له .
((تسبح له السماوات السبع والارض ومن فيهن وإن من شيء الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا)) الاسراء / 44.
ولهذا التطلع والارتباط والقرب .. درجات قد يقوى، وقد يضعف .. ولذا قد يحصل للإنسان بعض درجات التطلع والارتباط الروحي الاختياري إلى الله سبحانه وتعالى، وبعد ذلك تزول عنه فيظهر من ذلك أن التطلع والارتباط إلى الله تعالى، لم يكن في واقع الحقيقة عن نزعة إيمانية واقعية .
((وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا)) الفرقان / 23 .
((ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون)) البقرة / 17 .
اللجوء اليه تعالى لا حد له
إن الإنسان بحاجة ملحة إلى الله بكل ما يتصل به من أشياء وقضايا وموضوعات .
وهذا يعني أن اللجوء إليه لا حد له .. فالسعي وراء المبدأ الفياض يوجب العمل دائما نحوه بلا تردد، وبلا تراجع، وبلا وجل .. ويرفد للأنسان أبعاده الكبرى المستمدة من صفات ذلك المطلق الكمالية الثبوتية التي تناضل الجماعة المؤمنة نحوه بكل غال ونفيس، فالسعي وراء المبدأ الفياض كله خصائص الصفات الكمالية الثبوتية ما لا يمكن أن يحدها حد .. بمعنى أن تغدو مسيرة الجماعة المؤمنة جهوداً وجهاداً مستمراً ضد الاستلاب والافقار، وضد الاستكبار والارهاب، وصموداً وصبراً راسخاً على تحمل مسؤولية الانكسارات والانتكاسات في سبيل الواحد القهار .
ومن ثم .. يظل ضمير الإنسان وحياته ووجوده، ووجود كل شيء من حوله .. مشدوداً بالله الواحد الاحد الذي يصرف أمره وأمر كل شيء حوله وفق حكمة وتدبير، فيلتزم الإنسان في حياته بالمنهج المرسوم القائم على أساس الحكمة والتدبير، ويستمد منه قيمه وموازينه ويراقبه، وهو يستخدم هذه القيم والموازين .. ولأجل ذلك غدت ألطاف الله تعالى، وسننه عليه شاملة متكاملة بوصفه مظهر من مظاهر تجلياته، وهو الصورة من العقل الكلي في هذه العوالم الكونية كلها، وقد أعد له : ((جنات تجري من تحتها الانهار )) لا حد لجهة من جهاتها كما وكيفا، ولا ينالها أحد إلا بالتفاني في مرضاته حتى يصل إلى درجة البقاء فيه جلت قدرته .
وعلى أساس هذا كله .. امتن الله بوصفه المبدأ الفياض بإضافة ترغيب ممارسة عملية الدعاء والمناجاة كتدريب نفسي، وشعور باطني، وحضور وجداني، لاكتشاف آلامه التي تمزق ذاته، والاحاسيس التي تجيش في نفسه من غير أن يمس كبرياءه، أو يسقط شخصيته أمام من :
((يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)) سورة : غافر / آية : 19 .
لأن فيه إضافة اختيارية ينكشف وجوده على أفعال الجوارح والاحاسيس والعواطف، توجب قدسية المضاف، وارتقاء مقاماته المعنوية الابدية، وبه يذوق الإنسان الداعي لذة الحضور في ساحة المعشوق الواقعي، والمحبوب الحقيقي .
الدعاء غريزة فطرية ذاتية
إن الدعاء مع كونه ضرورة تاريخية ملحة من حيث المبدأ لانتصار الأهداف الرسالية الكبرى .
بيد أنه حاجة نفسية غريزية فطرية ذاتية في حياة الإنسان كذلك في كل الاحوال، وفي كل الأزمان، ولا تقيد حاجاته بشيء دون شيء .
وأي حاجة نفسية غريزية أعمق وأدق وأيسر منه .. مع كونه سر العبادة، ولذة مناجاة الله، والخضوع والخشوع والانقطاع نحو الحضرة الواحدية الأحدية .
نعم .. يسكب في فؤاد الإنسان الداعي النداوة الحلوة، والود المؤنس والرضا والثقة واليقين .. ويعيش منه الإنسان المسلم في جناب رضى، وقربى ندية، وملاذ أمين، وقرار مكين، وحضور وجداني ركين .
ويشهد على ترغيب الدعاء في كل الأزمان، وفي كل الأحوال .. نصوص من القرآن الكريم، وروايات من أهل البيت الاطهار (ع)، فمن الآيات الدالة على ذلك :
قوله عز وجل :
((إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين)) . الانبياء / 90 .
((فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون)) غافر / 14 .
((أدعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين)) . الأعراف / 55 .
((وادعوه خوفاً وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين)) .الاعراف / 56 .
((إذ نادى ربه نداء خفيا .. إلى قوله ولم أكن بدعائك رب شقيا )). مريم / 4 .
((ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله)) . الشورى / 26 .
وفي الوقت نفسه ذم الله نماذج من البشر اقتصروا في مناجاتهم ودعائهم في أوقات الشدائد والخطوب .. وانعدمت الأسباب من تأثيرها، وفقدت الشفعاء والشركاء حتى إذا مرت المشكلة، وانقضت الحاجة، وجاء الرخاء، وخولهم نعمة منه، ودفع عنهم الابتلاء .. عادوا إلى ما كانوا عليه سابقاً من الشرك والنسيان، وزعموا أنهم لا يدعون ربهم، ولا يسألون عنه، وغفلوا عما قالوا في الضراء بتضرعهم وإنابتهم وتوحيدهم لربهم، وحضورهم الوجداني، وحبهم الإختياري، وتطلعهم إلى الواحد القهار في المحن والاهوال حين لم يكن غيره يملك زمام الفعلية يدفع عنهم الإبتلاء .
((فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكنت أكثرهم لا يعلمون)) الزمر / 49 .
((قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين .. قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون))الانعام / 63 ـ 64 .
((قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون اليه ان شاء وتنسون ما تشركون)). الانعام / 40 ــ 41 .
ومن الروايات الدالة على ذلك :
عن رسول الله محمد (ص) لأبي ذر الغفاري :
((يا أبا ذر ألا أعلمك كلمات ينفعك الله عو وجل بهن .
قلت بلى يا رسول الله .
قال (ص) : احفظ الله .. يحفظك الله .. وأحفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، ولو أن الخلق كلهم جهدوا على أن ينفعوك بما لم يكتبه الله لك ما قدروا عليه)) .
وعن الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) :
((من تقدم في الدعاء استجيب له إذا نزل به البلاء .. وقيل : صوت معروف ولم يحجب عن السماء، ومن لم يتقدم في الدعاء، ولم يستجب له إذا نزل به البلاء .. وقالت الملائكة : إن ذا الصوت لا نعرفه)).
وعنه :
((كان جدي يقول : تقدموا في الدعاء فإن العبد إذا دعاه فنزل به البلاء فدعا .. فقيل أين كنت قبل اليوم)) .
حاجة الممكن الى الله
ومن الضروري بمكان أن كل ممكن .. سواء كان مجرداً، أم كان مادياً محتاجاً إلى الواجب تعالى حدوثا وبقاء في كل الاوقات والامكنة لغرض الإمكان هو مناط الحاجة، وعلى هذا الأساس فلا بد من الرغبة والتوسل إلى الله تعالى لغرض الإفتقار والحاجة إليه .. فالله تعالى هو خالق هذا الكون، وهو خالق هذا الإنسان، وهو الذي وهب كل موجود وجوده .. وإنه هو مالك كل موجود بما أنه موجوده، قد استخلف الإنسان في اصقاع الارض، ومكنه مما ادخر له فيها من قوى وطاقات على عهد منه وشرط، ولم يترك هذا الملك العام في التيه المظلم بلا دليل، يصنع فيه ما يشاء، وإنما استخلفه فيه في نطاق من الحدود المرسومة البديهية .. استخلفه فيه على شرط أن يقوم في الخلافة، وفق منهج الله، وحسب تشريعاته الخالدة .. وهنا يجيب الله تعالى دعوة المؤمن إذا دعاه بصدق، وإخلاص، وبحضور وجداني .. ففي الحديث الشريف .
((إن الله يعلم حاجتك وما تريد ولكن يجب أن تبث إليه الحوائج فإذا دعوت فسم حاجتك)) .
وكيف يعقل غفلته عن ذلك، لا سيما في مثل هذه الحياة التي لا يمكن بحال إدراك كينونتها، لأنه هو الذي ملك كل شيء وقدره تقديرا .. وهو الذي يمنع من يشاء .. وهو الذي يفيض على من يشاء .. لا خازن لعطائه ولا بواب.. من غير تأطير بتقدير دون تقدير إلى أن تقوم الساعة الكبرى .
((قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل، وتخرج الحي من الميت، وتخرج الميت من الحي، وترزق من تشاء بغير حساب)) آل عمران / 26 ـ 27 .
وهذا كله بعكس ما يزعمه اليهود ((إن الله لما خلق الأشياء وقدر التقادير .. تم الأمر، وخرج زمام التصرف الجديد من يده بما حتمه من القضاء، فلا نسخ، ولا ولا استجابة لدعاء ؛ لأن الأمر مفروغ عنه)) .
وكذلك على عكس ما تزعمه طائفة من المجتمع : أن لا صنع لله في أفعال عباده، وهم القدرية الذين سماهم رسول الله (ص) مجوس هذه الأمة، فيما رواه الفريقان من قوله (ص) : القدرية مجوس هذه الامة)) .
والخلاصة : إن الكل يرجع إليه بجميع شؤونه وقضاياه لوجوب كون ممارسة منطلقاتهم من الله سبحانه وتعالى، وهو المبدأ المعيد في الدرج الصاعد من رجوع الشيء إلى مبدأه .
الدعاء وقانون السببية التامة
صرح العلامة الطباطبائي في تفسير فقرة من حديث الرسول محمد(ص) :
((وإذا سئلت فأسئل الله وإذا استعنت فاستعن بالله .. )) .
إرشاد إلى التعلق بالله في السؤال والاستعانة بحسب الحقيقة، فإن هذه الأسباب العادية التي بين أيدينا إنما سببيتها محدودة على ما قدر الله من الحد لا على ما يتراءى من استقلالها في التأثير، بل ليس لها الا الطريقية والوساطة في الإيصال، والأمر بيد الله تعالى .
فإذن .. الواجب عل العبد أن يتوجه في حوائجه إلى جناب العزة وباب الكبرياء، ولا يركن إلى سبب بعد سبب، وإن كان الله قد أبى أن يجري الأمور الا بأسبابها .
وهذه دعوة إلى عدم الاعتماد على الأسباب، الا بالله الذي أفاض عليها السببية، لا أنها هداية إلى إلغاء الأسباب، والطلب من غير سبب، فهو طمع فيها لا مطمع فيه .
وكيف .. والداعي يريد ما يسأله بالقلب، ويسأله ما يريده باللسان، ويستعين على ذلك بأركان وجوده، وكل ذلك أسباب ؟..
واعتبر ذلك بالإنسان حيث يفعل بأدواته البدنية، فيعطي ما يعطي بيده.. ويرى ما يرى ببصره .. ويسمع ما يسمع بإذنه .. فمن يسأل ربه بالغاء الأسباب كان كمن يسأل الإنسان أن يناوله شيئاً من غير يد، أو ينظر إليه من غير عين، او يستمع من غير إذن، ومن ركن إلى سبب دون الله سبحانه وتعالى، كان كمن تعلق قلبه بيد الإنسان في إعطائه، او بعينه في نظرها، او بإذنه في سمعها، وهو غافل معرض عن الإنسان الفاعل بذلك .. في الحقيقة فهو غافل مغفل، وليس ذلك تقييداً للقدرة الإلهية غير المتناهية، ولا سلباً للإختيار الواجبي، كما ان الإنحصار الذي ذكرناه في الإنسان لا يوجب سلب القدرة والإختيار عنه، لكون التحديد راجعا بالحقيقة إلى الفعل لا إلى الفاعل، إذ من الضروري إن الإنسان قادر المناولة والرؤية، والسمع .. ولكن المناولة لا تكون الا باليد، والرؤية والسمع هما اللذان يكونان بالعين والأذن لا مطلقاً .. كذلك الواجب تعالى قادر على الإطلاق غير أن خصوصية الفعل تتوقف على توسط الأسباب، فزيد (مثلاً) وهو فعل الله هو الإنسان الذي ولده فلان في زمان كذا ومكان كذا، وعنده وجود شرائط كذا، وارتفاع موانع كذا .. ولو خلف واحد من هذه العلل والشرائط لم يكن هو هو، فهو في وجوده يتوقف على جميعها، والتوقف هو الفعل دون الفاعل))[1][1][24] .
والدعاء لا يقتضي نسف مبدأ قانون السببية التامة وهو من جملة الأسباب الحقيقية الموجبة لحصول الشيء ونسبته إلى المطلوب .. كنسبة استعمال الوصفة الطبية للمريض .. فكما أن لكل مرض استعمال وصفة طبية مخصوصة تؤدي إلى الشفاء العاجل .. وهناك استعمال وصفة طبية بلا تعيين تنفع لأنواع كثيرة من الأمراض .
وهكذا شوارق الدعاء هداية إلى السنن المؤدية إلى حدوث الشيء المطلوب .. وكما أن الوصفة الطبية بحاجة إلى روافد أخرى لتصير علة تامة، وكذلك الدعاء لا يصير علة تامة الا بعد توفر الشرائط التي يجب أن تقارن الدعاء .. طرح البعض منها في النصوص الإسلامية، ولم تطرح عدة قضايا أخرى منها لإمكانية كونها من الخفايا الغيبية التي يستحيل أن يكتشفها غير الله تعالى، والله سبحانه لا بد وأن يستجيب الدعاء على أساس المصلحة الحقيقية، لا على أساس ما يريده الداعي، وإجابته مرجوة متى استكملت عناصرها وأخلاقيتها على وجهها المطلوب، فإن لم تكن بإعطاء الداعي ما طلبه، فربما كانت بما يعلم الله سبحانه أنه خير له منه بقدر الاستجابة وقتها بتقديره القائم على الحكمة والتدبير .
قال الله تعالى :
((وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون)) . سورة البقرة / آية : 216 .
فإذن .. الدعاء داخل تحت مظلة مبدأ المصلحة الواقعية، والقيمومية المطلقة، والعناية التامة ..
إن مجرد استحضار هذه الحقائق والمشاعر ــ التي هي غاية آمال الرساليين، وقرة عين أهل التقوى واليقين ــ كفيل وحده بأن يسكب في النفس الإنسانية القناعة والرضا بما يحصل من الرزق والسماحة والجود بالموجود، وأن يفيض على القلب الطمأنينة والقرار في الوجدان والحرمان سواء .. فلا تذهب النفس حسرات على فائت، أو ضائع .. ولا يحترق القلب سعاراً على المرموق المطلوب .. ولا تحصل هذه الدرجة السامية، الا من تجرد عن ذاته بالكلية، وفنى في مرضاة الله الواحد القهار .
قال النبي محمد (ص) :
((أفزعوا إلى الله في حوائجكم والجئوا إليه في ملماتكم وتضرعوا إليه وإدعوه، فإن الدعاء مخ العبادة، وما من مؤمن يدعو الله الا استجاب، فأما أن يعجله في الدنيا، او يؤجل له في الاخرة، وأما أن يكفر له من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بمأثم)) .
وقال أمير المؤمنين (ع) في وصيته له لإبنه الحسن (ع) :
((ثم جعل في يدك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من سألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب رحمته، فلا يقنطك إبطاء اجابته، فإن العطية على قدر النية، وربما أخرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، وأجزل العطاء الأمل، وربما سألت الشيء فلا تؤتاه، وأوتيت خيراً منه عاجلاً او آجلاً، او صرف عنك لما هو خير لك، فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته، فلتكن مسألتك فيها يبقى لك جماله، وينفى عنك وباله، فالمال لا بيقى لك، ولا تبقى له)) .
وهذه هي الحقيقة الكبيرة .. لأن الإستسلام إلى الحي القيوم وإذاعة الحاجة إليه بقصد موضوعي، ونزاهة وإخلاص .
هو الذي يمثل معنى الإيمان، ويعطيه طعمه ومذاقه .. وهذه هي العبودية الحقيقية الصادقة هي التي تحقق معنى الإسلام الخالد وتعطيه حيويته وروحه .. بل هذا هو الذي يمثل معنى السلوك المستقيم، والشرف العظيم النابع من داخل الذات الإنسانية، لا من ضغوط خارجية تمارس النصائح، والمواعظ، والحرب النفسية .
وهذه هي الحقيقة الكبيرة كذلك .. لأن إذا اكتشف الإنسان الداعي أن تقدير الاشياء على وفق مشيئة المبدأ الفياض، والحي القيوم، وأنه من فضله غير المتناهي، وأنه ذو فضل عظيم، ولا حد لفضله، ولا غاية لسعة رحمته .. يعترف بتكاملية قدرته وإحاطته، ويبقى يعترف لرب العالمين في استسلام الواثق المطمئن الذي يستشعر ان كل من حوله من خلق الله ويتجاوب وإياه، الذي لا حد لعظمته وقدسيته وغناه، بل هو غير متناه أزلاً وأبداً من كل المسارات .
جواز الدعاء مطلقاً على الاستكبار والكفر العالمي
لقد استدل أستاذنا الإمام المجاهد السيد البغدادي(ت1392هـ) من خلال الدعاء على وجوب الجهاد الدفاعي .. وحسب تتبعي لم أجد في الكتب الفقهية شيعية كانت أم سنية تستدل بذلك .. إذ كتب قائلاً :
((ومنها : الآيات الكثيرة المشتملة على الدعاء، وطلب النصرة على الكفار، والعدو الصادر منه تعالى في مقام الثناء ونحوه على من صدر منهم من الانبياء وغيرهم ضرورة صراحتها في مشروعية الدعاء على الكفار وإن كانوا غير مضرين بالدين لغرض جواز الدعاء مطلقاً من غير قيد بالضرر .
وبعبارة أخرى : مشروعية الدعاء مطلقاً، تستلزم مشروعية القتال مع التمكن من دفعهم ضرورة أنه لا معنى لطلب النصرة عليهم، ولا الدعاء عليهم، ومقصوريتهم، وحفظ استقلال المسلمين، لئلا يتسلط الكفار عليهم .
فإن قلت سلمنا ذلك .. لكن لا إطلاق فيها ضرورة أنها فرض مشروعية قتالهم وهو أول الكلام ؟..
قلت : جواز الدعاء ثبت مطلقا ويكشف بـ (الإن) عن مشروعية قتالهم مطلقاً، والا لما كان لإطلاق جواز الدعاء وجه ضرورة أنه لا يعقل تجويزه مطلقاً مع كونه مقيداً .
وبالجملة دلت على مشروعية الدعاء مطلقاً المستلزم لمشروعية القتال مطلقاً .
فإن قلت : لا ريب في جوازه وصدقه في صورة حرمة القتال ؟..
قلت : هذا على خلاف الظاهر، فلا بد من صرفه إلى التعليق على فرض الإبتلاء بهم، او طلب الإستدامة لحفظ البيضة .
هذا مضافاً إلى إمكان تتميم الإطلاق بأصالة البقاء، هذا لو أغمضنا النظر عن الآيات، ففي مشروعية هذا الدعاء الآن بالقطع والسيرة كفاية في استلزامه لذلك، هذا مضافاالى ما في أدعية السجادية وغيرها من دلالتها على ما قلنا كما سيأتي إن شاء الله .
ثم إن تفسيره بالغلبة بالحجة في بعض الأخبار غير دال على الإنحصار .. مضافاً إلى تصريح بعض النصوص في الشمول لموردنا بالخصوص.
ثم إنها مجردة عن لفظ الجهاد والسبيل، فلا تغفل، ثم معنى النصرة على ما في كتب اللغة والإعانة يقال : نصره على عدوه أي أعانه))[2][2][25] .
وفي موضع آخر يقول :
((ومنها : ما ورد من الدعاء لأهل الثغور مع كونهم من أعدائهم (ع) أو أعوانهم، كما في الصحيفة السجادية، وكما في دعاء أمير المؤمنين (ع) في يوم الجمعة المروي في المستدرك، وكما في الدعاء المروي في مجمع البحرين في مادة سرى ومادة بيض، وكما في الدعاء المروي في رياض الجنان لجدنا الأعلى (قدس سره)[3][3][26] إلى غير ذلك، فإنه لو لم يكن أمراً مشروعاً لكان من الدعاء المحرم المستحيل في حقهم (ع)، بل ظاهرها الاهتمام، وكونه من الأمور المهمة زيادة على كونه أمر مشروطاً .
فإن قلت : لا دلالة فيها على مشروعية مباشرة منا، وإنما دلت على أمر آخر من محبوبية اضمحلال الشرك وغيره .
قلت : لا يخفى على العارف بأساليب الكلام دلالتها على مشروعيته منا بالمباشرة، نعم دلالتها على الوجوب أشكال، لكن يتم بالملازمة ونحوها كما مر .
فإن قلت : لا إطلاق فيها ؟..
قلت : لا ريب في استفادة حفظ الثغور في زمانهم ( عليهم السلام ) منها، كما يدل عليه قوله (ع) ((وأشغل المشركين بالمشركين عن تناول أطراف المسلمين)) وغير ذلك ... هذا والأصل قاض بالبقاء، وشبهة بقاء الموضوع تقدم جوابها، هذا مضافاً إلى إثباته بالأصل السابق بيانه بوجه آخر فراجع[4][4][27]
--------------------------------------------------------------------------------
(1[24] ) الميزان في تفسير القرآن 2 / 10، ط بيروت .
([2][2][25] ) وجوب النهضة، ص 197 .
([3][3][26] ) هو : أحمد بن محمد بن علي بن سيف الدين بن رضا الدين العطار الحسني البغدادي (ت : 1215هـ) من أعاظم فقهاء الإمامية، وصاحب الكرامات الباهرة،والمصنفات الجليلة، نوه عن كتبه وشخصيته فقهاء وشعراء وكتاب .. أبرزهم : السيد محسن الأمين في أعيان شيعته 10 / 11، وآغا بزرك الطهراني في طبقات أعلامه 1 / 875، والسيد محمد مهدي الكاظمي في أحسن وديعته 1 / 4، وعلي الخاقاني في شعرائه 1 / 220، والدكتور محمد هادي الأميني في مخطوطاته 35، وفي معجم رجاله 1 / 58، ومحمد علي جعفر التميمي في مشهد إمامه 2 / 84، والدكتور عماد عبد السلام رؤوف في تاريخ عراقه 40، والأستاذ السيد عبد الحميد في مقاله بمجلة البلاغ الكاظمية 9 / 1401هـ، والشيخ عبد الهادي العصامي في مقاله بمجلة العدل النجفية 1 / 1966م .
([4][4][27] ) المصدر السابق : ص 203 .
العودة الى الصفحة الرئيسية
في بنت الرافدينفي الويب