في مقال للفاضلة امتياز المغربي بالعنوان أعلاه أوردت صور من معانات المرأة الشرقية،وكان أن استثارت صور في عقلي الباطن كنت قد شاهدتها وأنا طفل صغير ولا زالت هذه الصور مائلة أمام ناظري بكاملها وكأنها محفورة في قلبي إلى الأبد،وتختزن الذاكرة صور مختلفة لمعاناة المرأة ،وهو ما شاهدته بنفسي قبل أقل من نصف قرن،عندما كنت طفل العب في أزقة المدينة وحواريها مع اقرأني من الأطفال ولا زالت الصور التي شاهدتها عالقة بمخيلتي ،لم يتمكن من أزالتها ما مر من أحدث أو خطوب والصورة الأولى ،عندما كنا نلعب نحن مجموعة من الأطفال في زقاق الحي ،وعلى حين غرة شاهدنا رجلا يمتطي فرسه وقد حمل بين يديه عصا طويلة وفي نهايتها رأس فتاة وقد انسدلت ضفائرها الملطخة بالدم ،والهواء يدفع بها ذات اليمين وذات الشمال،وبدلا من الهروب لهذه الصورة المأساوية كنا أسرع من فرسه نلاحقه ونحن ننظر باهتين الى رأس المرأة التي تبحلق بعينيها في فراغ الزمن دون أن نعرف لماذا وكيف وما يعني عمله الاستعراضي هذا،وتوجه ذلك الشخص الى (الشعبة) أي مركز الشرطة التي كانت تقع على رابية عالية خارج المدينة ليسلم نفسه الى السلطة،وعرفنا فيما بعد قصة الفتاة المقتولة ،فهي قد أحبت أحد أبناء قريتها واتفقوا على الوفاء وأن يكون أحدهما للآخر ولن يفرقهم أي شيء،ولكن أبن عمها الدميم الذي أصرت الأسرتين على تزويجه منها وقف حائلا دون ذلك،وما هي إلا أيام حتى شاع الخبر بأن فلانة ستتزوج من أبن عمها فلان،وكان للحب الطاغي أن يفرض نفسه على ما يريده الأهل فاتفقت مع من تحب على الفرار الى مكان آخر والزواج بصورة شرعية بعد أن يظفرا بالمكان الآمن لهم، وتم لهم ما أرادوا وتزوج الفتاة بزواج شرعي في مدينة بعيدة وعاشوا هناك متنكرين،ولكن الأهل افتقدوا أبنتهم فلم يعثروا لها على أثر ،وعلموا أنها هربت مع حبيبها فوضعوا عليهم العيون والأرصاد،وأنبث أخوتها وأبناء عمومتها للبحث عنها وقتلها مع غريمها،لغسل العار :

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم

وما أسرع ما عثر عليها في احد الأحياء الفقيرة وكأن أن جلبوها بالقوة الى قريتهم لتقتل على رؤوس الأشهاد وطاف برأسها وقد رفع على عصا غليظة كما كان العرب يفعلون عندما ينكلون بأعدائهم فتقطع رؤوسهم وترفع على أسنة الرماح ليعرف القاصي والداني أنهم أخذوا الثار أو غسلوا العار،ويا له من عار لا تغسله إلا الدماء الحمراء القانية.

والصورة الثانية:ذات يوم كنا نلعب في الشارع وفجأة برز ألينا شخص يعدوا بتمهل وهو ينادي بكلمات لتسارعها تبدو غير مفهومة لمن هم بأعمارنا لأنها غريبة على أسماعنا لعلها شعرا أو أهزوجة لم يتسنى لنا معرفة معانيها والوصول الى ما يراد منها وكان يحمل خنجرا ملطخ بالدماء وعلى ملابسه بقع من الدماء القانية وقد وضع في نهاية خنجره يد لم نعرف حينها المقصود منها،وهو يهزج ويصيح ويجوب أزقة المدينة وقد حف به الصبيان والناس تنظر إليه بزهو وإعجاب،ضاحكين فرحين دون أن نعرف السبب،ثم توجه الى مركز الشرطة ليسلم نفسه ،وقد علمنا فيما بعد أنه قد قتل زوجته المتهمة بعلاقة مع آخر وقطع كفها ليريه للناس حتى يعلم الجميع أنه قد غسل عاره وقتل ابنة عمه التي خانته مع غريب،وكانت قوانين تلك الأيام تشجع على القتل فما أسرع ما حوكم وحكم عليه بالسجن ستة أشهر ليطلق سراحه ويتزوج من أخرى.

والصورة الثالثة:عثر ذات يوم على جثة فتاة خارج المدينة،وقد شوه وجهها تشويها مريعا حتى باتت معالمه غير واضحة لأقرب المقربين، ولجسارتنا تلك ألأيام وعدم خوفنا من رؤية الدماء الحمراء القانية بفعل التربية الاجتماعية التي تجعل من الطفل صورة مكبرة لأبطال الأساطير وتحاول أن تزرع في نفسه الشجاعة،وأن لا يفزع من منظر الدماء ليتخرج قاتلا بامتياز فكنا قريبين من الجثة نتفحص ملامحها فشاهدت ما عملت الخناجر في مكان كنت اجهله تلك الأيام الى أن عرفته بعد أن تقدم بي العمر،وكان الناس ينظرون إليها كشيء عادي دون إن ترف جفونهم أو تتحرك أحاسيسهم عطفا عليها أو حزنا لما أصابها،وكأنها ليست من بني البشر،وبعد قليل جاءت الشرطة لتنقل جثتها وتسجل القضية ضد مجهول وتدفن دون أن تكون هناك شاهدة لقبرها،أو تعريف بها .

وصورة رابعة لفتاة تربطنا بها الجيرة،فقد بان عليها الحبل كما عرفنا فيما بعد فحضر أخوتها وأبناء عمومتها وأجروا تحقيقا معها وكنت أشاهد ما يحدث بالنظر من فتحة الشباك،فكان التحقيق معها لمعرفة الفاعل،والفتاة تحاول ما وسعها الجهد نفي التهمة عنها أو الاعتراف على غريمها،وفجأة أنقض عليها الأخ الأكبر وأمسك بوسادة الى جانبه وضعها على رأسها وضغط عليها بكلتا يديه وحاولت التخلص منه ألا أن الآخرين أنقضوا عليها ممسكين بأطرافها ،لإيقاف حركتها وبعد قليل استسلمت لتخف حركتها وتتحول الى جثة هامدة،وأتفق الجميع على أن القاتل فلان ليذهب الى الشرطة مدعيا خنقها لوحده دون أشراك الآخرين،ويتحمل وحده عبء الجريمة ليحكم عليه بالحبس ستة أشهر لأنه قتلها غسلا للعار.

وهناك عشرات الصور التي شاهدتها بعيني وآلاف ممن سمعت عنها مروية من الآخرين،ولعل الجريمة الكبرى ما تقدم عليه المرأة ذاتها لإخفاء زلتها،فقد عثر على الكثير من الأطفال الجدد مرميين على المزابل وقد فارقوا الحياة لخنقهم من قبل أمهاتهم لإخفاء الفعل الذي قامت به،فكنا نعثر على الأطفال في المزابل أو في الأنهار أو في الأزقة منها من فارق الحياة ومنها من لا زال به رمق فينهد أحد الغيارى لتربيته أو تتبناه أحدى العائلات المحرومة من الإنجاب،ولا أدري هل يجيز الشرع والدين والأخلاق قتل طفل بريء لا ذنب له إلا أنه طفل غير شرعي في نظر المجتمع،وهل هناك أكبر من جريمة قتل النفس المحترمة،وفي هذه الأيام أستفحل الأمر وزادت هذه الجرائم لوجود ثغرات في القانون تعفي القاتل من جريمته،فهل يمكن لأصحاب القانون تبرير التخفيف عن معاقبة مرتكب هذه الجريمة،أم أن هناك نصوص تجيز القتل لهذا السبب ،ولكن ما ذنب الطفل الذي لم يرتكب جريرة توجب العقاب،في الوقت الذي يتنعم القاتل بالحرية والآمان.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com