|
مفهوم الدولة في الخطاب السياسي العراقي
زهير المخ/ كاتب وأكاديمي عراقي ( 1 ) يخيّم على العراق قنوط عميق وشامل؛ فلأول مرة، منذ تتويج فيصل ملكاً على البلاد في أغسطس 1921 يصعب على المرء أن يجد عراقياً واحداً، على الأقل، يحتفظ ببقية باقية من أمل واه بمستقبل الكيان العراقي. "لا مخرج".. تلك هي الكلمة التي تتردد على أكثر من لسان وفي أكثر من مناسبة، حتى على لسان أولئك الذين تحدّوا كل منطق، وتدبّروا إبقاء شمعة الأمل الواهي موقدة على مدى أحلك الأوقات وأكثرها ظلاماً. ولم ينجم انهيار المعنويات الجماعي هذا عن تصاعد دخان عنف البنية المجتمعية ولا عن انتشار دعاة التطهير المذهبي وأصحاب جبهة الأكفان وعشاق الموت فحسب، بل أيضاً عن تلك الهويات القاتلة التي تقوم بتدوير الأزمات واستعمالها طاقة جديدة في توليد أزمات جديدة. فما أكثر الهويات التي يحملها كل عراقي في ذهنه وفي سلوكه وفي تطلعاته؛ فالهوية المحلية الصغيرة التي يستمدها الفرد من انتمائه العشائري أو الطائفي أو القومي أو الديني. أضف إلى ذلك طبعاً الهويات ذات التحديد المناطقي جداً، فهناك الموصلي والبغدادي، ناهيك عن الكربلائي والتكريتي، وتليها هوية الدولة الحديثة، في شكلها الخارجي على الأقل التي يتفاوت الشعور بالانتماء إليها في الأعماق بين شيعي لم يكن يطيق شدة وطأتها وكردي لم يكن يأمن شرها. هذه الهويات القاتلة ما زالت حيّة حتى يومنا هذا تثير الأهواء والعواطف الجامحة، بل أصبح البحث عن الذات بعضاً من إثبات ذات على حساب أخرى، من هيمنة وتسلط، وصار التساؤل عن هوية أو إبراز أخرى بعضاً من وقود حرب أهلية. وابتغاء النظر إلى الطور الحرج الراهن في إطاره الصحيح، فإن هذه الحلقات سوف تركّز، قدر الإمكان، على تداعيات المشهد العراقي التي قدّمت الأرضية الخصبة للاختلالات الخطيرة في مفهوم الدولة العراقية على نحو ما نشهده اليوم على أرض الواقع. نحاول هنا إذاً فهم التصور العراقي السائد لمفهوم الدولة في قوتها وضعفها، ويعني هذا الأمر مقاربة الثقافة السياسية العراقية الراهنة من زاوية النظر إلى الدولة في جبروتها وهرمها، ومحاولة تبصر العناصر المؤدية بالدولة للنهوض والهيمنة أو التدهور والهلاك. ولا ريب أن تفكيراً كهذا ليس جديداً على الخطاب السياسي العراقي، فإنه شغل عدداً من المشتغلين في العلوم السياسية سابقاً، ولم تزل بعض الأفكار التي سعوا لترويجها تشكل حتى يومنا هذا عنصراً من عناصر الثقافة السائدة، ولو أنه من الصعب تقدير أثره. إنما يبقى السؤال قائماً: لماذا أدت الإطاحة بالنظام المركزي في بغداد في أبريل 2003 إلى اختلالات سياسية واجتماعية حقيقية في بنية الدولة الوطنية العراقية الجامعة ؟ هناك أجوبة ممكنة على هذا السؤال. جواب أول يقضي بنفي الاستقرار السياسي في العراق تحت سلطة صدام حسين، ففي حين كان المجتمع العراقي يشهد غلياناً دائماً، كان على السلطة أن تتأقلم مع هذا الغليان وتأجيل انفجاره ولو إلى حين من خلال اعتمادها على أجهزة قمعية طويلة اليد، قادرة على الضرب الموجع لكل أشكال المعارضة الممكنة. جواب مماثل ثان له أبعاد أيديولوجية واضحة، ولسان حاله يقول بأنه لولا الاحتلال الأمريكي لكانت أحوال الدولة العراقية بألف خير، وربما كان من السهل بلورة الهوية الوطنية الجامعة التي تقنن العنف وتدير وتيرة الانقسامات الطائفية والإثنية على أسس عقلانية مقبولة من الجميع. جواب ثالث يختزل المسألة كلها إلى معالجة تاريخية باردة، إذ يرى أن إدارة الاحتلال لم تخترع الانقسامات الطائفية والإثنية القائمة في المجتمع العراقي والضاربة بجذورها في أشكال تنظيم اجتماعي يرقى إلى زمن بعيد، بل هي تعاطت بواقعية مع هذه الانقسامات بوصفها معطيات تاريخية ناجزة ينبغي بناء التركيبة السياسية الحاكمة عليها. لا تفسّر هذه الأجوبة على صحتها، كل شيء، وربما أنها لا تشير بصورة كافية إلى ما حصل داخل الكيان العراقي منذ إنشائه، وبصورة أدق منذ استقلاله السياسي. فبالرغم من تعدد الصيغ والبرامج والمشاريع المقترحة إن في السر أو في العلن، ظل هذا الكيان كالمريض الذي تتعدد أدويته لأنه لم يزل دون فقه حقيقة مرضه. في هذا الشأن، يبدو حنين بعض العراقيين إلى المرحلة الملكية الذي تسمع أصداؤه خافتة هنا وصاخبة هناك له ما يبرره على أيّ حال. فقد كانت فكرة الإطار الجغرافي للكيان العراقي المميّز واضحة لدى المؤسس الملك فيصل الأول في عشرينات القرن الماضي. ففي خطاب تتويجه ملكاً على العراق، تحدّث فيصل عن البلد قيد التأسيس باعتباره "شعب" و "وطن" و "أمة". وبعد حصول العراق على استقلاله حيّا الملك "اعتراف الأمم بأننا أمة حرة ذات سيادة تامة". وربما من النادر أن تقع عين القارئ الحصيف في الأدبيات السياسية لتلك الحقبة على مصطلحات تشير إلى غير ذلك من الولاءات العابرة للهوية العراقية. ففي خطابات الملك وفي البيانات الوزارية التي وثقها عبد الرزاق الحسني في كتابه الموسوعي "تاريخ الوزارات العراقية" تخلو جميعاً من أيّ إشارات يستشف منها انتماء غير الهوية الوطنية الجامعة. ويصح هذا الأمر بدرجة كبيرة أيضاً على برامج الأحزاب المختلفة التي انبثقت في تلك الحقبة، من حزب التقدم مروراً بالحزب الوطني وانتهاء بحزب العهد.وما يجدر التأكيد عليه، هنا، أنه خلال المرحلة الملكية (1921-1958) كان تعبير "الأمة العراقية" الذي ما فتئ يتردد في الصحافة العراقية آنذاك، يشير إلى ما يمكن اعتباره "هوية" كمعطى سياسي أكثر مما هو معطى ثقافي أو لغوي.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |