|
اليوبيل الذهبي باقر الفضلي اليوبيل الذهبي ليومٍ خالدٍ في تأرخ العراق الحديث، هو يوم سَطر من أجله العديد من الكتاب والباحثين والمؤرخين، أجانب أم عراقيين، الكثيرَ من البحوث والدراسات، وتناولته الصحافةُ ووسائلُ الإعلام على إختلافها، بالتحليل والتقرير والتأويل والتفسير، عبر نصف قرن من السنين ولا زالت، ولكنها لم تُجْمِعْ حتى اليوم على كُنه ذلك اليوم. الجميع ينظر، كل من زاويته الخاصة ومن فهمه الخاص، لطبيعة ظروف الحدث، أو إعادته لأسبابه. الشيء الوحيد الذي ميز تلك الأحداث، هو إرتباطها بالدعم الجماهيري منقطع النظير، وبالدعم السياسي شبه المطلق للقوى السياسية العراقية التي كانت في إعتبارات السياسة في ظروف العراق آنذاك، تُحسب في الجانب المعارض للسلطات الحاكمة، التي تَوجَه الحَدث ضدها مباشرة. وهذا ما أكسب إستيلاء القطعات العسكرية بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم على السلطة يوم 14/تموز/1958 وإعلان النظام الجمهوري لأول مرة في العراق الحديث، سمة (الثورة الشعبية) بعد أن هبت غالبية الجماهير العراقية بدعم حركة الجيش ووفرت لها حماية شعبية منقطعة النظير، مما أصاب كل مناصري النظام الملكي بالشلل للتحرك المضاد. من ذلك يمكن الدخول الى إشكالية الإختلاف في تسمية أحداث الرابع عشر من تموز- 1958 ، بالثورة أو بالإنقلاب العسكري، أو حتى بالإنقلاب الثوري، وهذا ما أشرت اليه في البداية، من عدم التوحد في بحوث الكتاب والمعلقين والباحثين والمؤرخين، على سمة وكُنه أحداث ذلك اليوم وطبيعتها الموضوعية. وستظل هذه الإشكالية قائمة لفترة طويلة في التأريخ، خاصة وإن الفترة التي أعقبت أحداث ذلك اليوم وحتى اللحظة، لا زالت تتسم بعدم الإستقرار، ويغلب عليها صراع حاد مختلف الأشكال والإتجاهات وكذلك نوع القوى المتصارعة، من داخلية وإقليمية ودولية.
فبالعودة الى الوراء ، وخاصة ما قبل الحدث، يصبح من المستلزمات الضرورية، للباحث، الذي يطمح في الوصول الى تسمية دقيقة، أو بشكل أدق، توصيفٍ علمي موضوعي لأي حدث ما، أن يدرس، وبعمق تحليلي وأستقرائي علمي، مبني على علم القوانين الإقتصادية والإجتماعية لطبيعة الأوضاع الإقتصادية في بلد الحدث نفسه، وما يقابلها من الحالة الإجتماعية ومجموعة العلاقات السياسية الداخلية والخارجية، وشكل النظام السياسي القائم ونهجه الإقتصادي والسياسي، ومستوى الوعي العام والنضج السياسي للمجتمع، وأمور كثيرة أخرى تدخل في حقل التأريخ والجغرافيا السياسية، ومنها العلاقات الإقليمية والدولية ومناطق النفوذ، والصراع الدولي، قبل أن يحدد التوصيف العلمي الدقيق للأحداث، مثل أحداث الرابع عشر من تموز-1958 في العراق. ومع كل هذا وذاك، لابد أن يجري التقييم وفق ظروف الحدث نفسه يومذاك، سواء منها الداخلية أو الإقليمية والدولية، وأن يؤخذ بالإعتبار حالة الصراع الدولي وتوازنات القوى المؤثرة على الحدث نفسه. وليس طبقاً لظروف الحالة الراهنة اليوم، رغم وجود مشتركات كثيرة تربط بين الزمنين. فالمفاهيم الثلاث المذكورة، تتداخل مع بعضها من حيث الشكل والمضمون والوسيلة، ولكل مفهوم منها خصوصيته الموضوعية وسماته الخاصة في التعريف، فمنها من حيث كونه يعبر عن مرحلة إقتصادية – إجتماعية، لها قوانين سيرورتها وتطورها كعملية قائمة بذاتها من حيث مكوناتها الطبقية والتأريخية، وواقع بنيتها الإقتصادية القائمة والعلاقات الطبقية الإنتاجية السائدة التي تتحكم بمجمل ذلك، أو بين مفهوم لا يعبر في جوهره إلا عن آلية تكنيكية تمهد في غايتها الطريق لعمل معين تترتب عليه نتائج مهمة قد تقلب وضعاً سياسياً بكامله وتؤسس لوضع جديد يختلف عنه كلياً في الأطر والمكونات السياسية والأهداف المرسومة، وهذا ما لا يرتبط بكل ما أشرنا اليه فيما تقدم، رغم الإرتباط السببي بين تلك المفاهيم..! ومن هنا يأتي التداخل والتشابك بين المفاهيم المذكورة، ويحل بعضها مكان البعض الآخر، أو أن يطغي أحدها على الآخر. وهذا ما يفترض ضرورة إزالة اللَّبس بين المفاهيم المطروحة قبل الحكم وبشكل عاطفي على توصيف الرابع عشر من تموز – 1958 في العراق، ذلك اليوم المجيد في حياة العراقيين..! من أجل أن لا يغرق المرء في تفاصيل البحث في أمر كهذا، وهو يحتاج الى بحث ودراسة تتطلب جهداً أكبر قد لا تتسع له مساحة كهذه، يمكن الإختصار والإجمال في القول، بعد أن جرى تحديد بعض الخطوط العامة التي يمكن أن يعتمدها المرء لرسم الحقيقة التأريخية التي تقف وراء ما جرى في يوم الرابع عشر من تموز من عام 1958؛ بأن تلك الأحداث، ليس عبثاً أن إقترنت تسميتها بالثورة،..! فليس من الغرابة بمكان ، أن يصطلح العديد من المؤرخين أو الكتاب على إطلاق تسمية أحداث ذلك اليوم ب"الإنقلاب العسكري"، أو بعكسه، إطلاق توصيف (الثورة) من قبل كتاب وباحثين آخرين، فالأمر في جوهره يرتبط بما تمثله إنعكاسات تلك الأحداث على المصالح المتباينة للفئات والطبقات الإجتماعية المختلفة للمجتمع؛ من حيث مدلولاتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية، من جهة، ومدلولات العملية العسكرية نفسها التي أطاحت بالنظام السياسي يوم الرابع عشر من تموز من عام 1958، وآثارها الآنية المباشرة في حينه، من الجهة الأخرى. ولابد لأي باحث يعتمد أسس البحث العلمي، بعيداً عن تأثير المصلحة المباشرة على توجهات الفكر وإستنباط الأحكام، أن يأخذ ذلك بالإعتبار..! العملية العسكرية: في فجر الرابع عشر من تموز عام 1958 تحركت مجموعة من القطعات العسكرية، بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم ومجموعة من الضباط ، وقامت بالسيطرة على دار الإذاعة العراقية في بغداد ووزارة الدفاع والقصور الملكية، وأعلنت من دار الإذاعة البيان الأول، الذي وجه الى الشعب العراقي، معلناً سقوط النظام الملكي القائم، وقيام النظام الجمهوري في العراق. فما هي مدلولات ذلك؟ - الحدث ذاته، إن جردناه من أسبابه وظروفه وأهدافه، سيكون أمامنا مجرد حدث إنقلابي، جرى التخطيط له مسبقاً لتحقيق أهداف محدودة ومحددة سلفاً وتتلخص في السيطرة على المؤسسات الدفاعية والأمنية للسلطة القائمة وإستلام سلطة البلاد بدلها. - ما تعنيه بعد ذلك، هبة الجماهير العراقية عن بكرة أبيها بعد سماع إعلان البيان من دار الإذاعة العراقية فجر ذلك اليوم، لتغطي جموعها في كل رقعة من الأرض في كافة المدن والأرياف معلنة وبفرح غامر مساندتها للتحرك العسكري، مطلقة منذ الصباح الباكر لقب (الثورة) على الحدث، مباركة لنفسها ذلك اليوم عيداً قبل أن يسميه لها أحد بأمر أو توصية. - إندماج كافة القطعات العسكرية في شتى أنحاء البلاد مع ملايين الجموع المحتشدة في شوارع المدن والساحات العامة وفي الأرياف، ومنذ الصباح إنطلق الهتاف الشهير( عاش تلاحم الجيش ويه الشعب). - لأول مرة في تأريخ العراق الحديث تزدحم الشوارع بملايين النسوة جنباً لجنب مع الرجال، في أكبر حشد جماهيري ثوري، شاركت فيه كل فئات المجتمع بدون تمييز. - فقدت العملية العسكرية المباغتة للنظام القائم يومذاك وإجهزته الأمنية، صفتها العسكرية، لتتحول خلال سويعات قليلة الى دفق جماهيري ثوري هائل، هز كل زوايا البلاد، وأمسكت فيه الجماهير زمام المبادرة في المحافظة على النظام والأمن العام في كافة أنحاء العراق، مما قطع كافة الطرق والمحاولات على جميع القوى التي حاولت أن تسترد المبادرة، ولكنها أخفقت وإندحرت جميع محاولاتها للتصدي للحدث الكبير. - كان للعملية العسكرية تأثيرها المباشر على وعي الناس في حينه، والذي ترجمته بوعيها الفطري وبعد سماعها للبيان المعلن من دار الإذاعة، بأن ما جرى إنما يستهدف قلب النظام القائم وهو موجه من أجل مصالحها، فإحتظنته على الفور، ولم تترك لحظة للتفكير والتأمل والإنتظار، وكان موقفها حاسماً ولا يقبل النقاش، فإندمجت في العملية العسكرية مثلما إندمجت العملية نفسها بها، وهكذا رسمت (الثورة) الشعبية طريقها وخطوتها الأولى، في الرابع عشر من تموز /1958 على الصعيد الميداني، وقد شاركت فيها جميع فئات الشعب وقومياته العربية والكردية والتركمانية والكلدوآشورية وغيرها وغيرها من فئات الشعب الأثنية والدينية.. الخ..! - لم يكن في مخطط قيادة العملية العسكرية ما يشير الى عزمها اللجوء الى أعمال العنف والإنتقام التي عادة ما ترافق مثل هذه الأحداث العاصفة، ومع ذلك فإن إجراءات تلك القيادة بعد أحداث العنف التي إستهدفت العائلة المالكة والسيطرة على الموقف، عزز القول والرأي بأن هذه القيادة كانت تتحرك وفق عمل مبرمج سياسياً ولها أهداف أبعد من مجرد القيام بعمل عسكري إنقلابي لشلة معزولة بيدها السلاح وبعض مراكز القوة داخل الجيش العراقي، وهذا ما أكدته بعد ذلك، مسيرة العملية السياسية. العملية السياسية : إرتبطت العملية السياسية برمتها بالمسيرة التأريخية لنضال الشعب العراقي على خلفية الصراع الذي كانت تخوضه مختلف مكونات الشعب، من أجل التمتع بحرياتها السياسية والديمقراطية، ومن أجل تحسين أوضاعها الإقتصادية والإجتماعية في المدن والريف. وكانت جملة العملية السياسية آنذاك محصلة تراكم نتائج صراع دام أكثر من ثلاثة عقود، إبتداء من تإريخ العراق الحديث، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وإتخذ أشكالاً مختلفة، من إنتفاضات فلاحية وإضرابات عمالية وتظاهرات شعبية، ومحاولات إنقلابية عسكرية. فلم تشهد البلاد حياة سياسية برلمانية ديوقراطية مستقرة طيلة تلك الفترة، التي تميزت من الجانب الآخر، بطابع هيمنة النفوذ الأجنبي، ومحاولات ربط البلاد بإتفاقيات ومعاهدات إسترقاقية منها؛ الإقتصادية، كإتفاقيات النفط، ونظام الإسترليني، وأمنية؛ كإتفاقية 1930و 1948 و حلف بغداد. ولست هنا، بصدد الدخول بتفاصيل ذلك الصراع وتشعباته، ولكنه من تحصيل الحاصل القول؛ بأن تراكم أحداث تلك السنين يقف وراء أحداث الرابع عشر من تموز/1958 ، بل يدخل في صلب أسبابها، مما يعزز القول؛ بأن ماحدث ذلك اليوم هو ليس مجرد ناتج عرضي لمسيرة الصراع حسب، بقدر ما هو تعبير وتجسيد حي لنتيجة الصراع نفسه مقروناً بظروفه الوطنية والإقليمية والدولية، وفي ظل مستوى الوعي السياسي والوطني السائد يومذاك. كما ومن غير الطبيعي، أن يتجاهل المرء تداعيات الصراع العربي الإسرائيلي ونتائجها المدمرة على نفسية المواطن العربي، والفشل الذريع الذي لحق بالسياسة العربية الرسمية عام/1948، والهزيمة الماحقة للجيوش العربية يومذاك نتيجة تلك السياسة، وما جره كل ذلك على التغيرات اللاحقة في المنطقة، والتي كان من أبرزها قيام مجموعة الضباط المصريين بقيادة جمال عبد الناصر في 23 يوليو /1952 بإسقاط نظام الحكم الملكي في مصر وإعلان الجمهورية، والتغيرات الأخرى في عدد من الدول العربية بعد ذلك. ومن الأمور اللافتة والتي تحسب لصالح التحرك العسكري الذي جرى في الرابع عشر من تموز/1958 وتضفي عليه طابعاً سياسياً ثوريا، يمكن الإشارة الى بعضها بشكل مختصر: _ صلة الوصل بين قيادة منظمة الضباط الأحرار، وسكرتارية جبهة الإتحاد الوطني للقوى والأحزاب السياسية الرعاقية المعارضة، منذ وقت سابق على يوم التحرك العسكري. وهذا ما فسره إبلاغ عدد من الأحزاب السياسية الوطنية، قواعدها بوقت قصير من التحرك العسكري وتهيئتهم لمساندة حركة الجيش عند وقوعها، حيث حشدت أعضائها وأنصارها ومؤيديها يوم الرابع عشر من تموز/1958 لدعم وتأييد التحرك المذكور. _ المساندة السريعة للثورة التي أعلنها كل من؛ الإتحاد السوفيتي وجمهورية مصر العربية ودول عدم الإنحياز وغيرها من الدول العربية. _ أن القائمين بالثورة ربطهم برنامج واضح وذو مضمون ثوري رغم إنهم لم يكونوا متجانسين، حتى بالحدود الدنيا في أهدافهم الحقيقية، فكل طرف حاول المساهمة من أجل السيطرة لاحقاً وفرض برنامجه الخاص، وهنا باعتقادي يكمن كل ما واجه الثورة ومنذ يومها الاول من عراقيل، وهذا ما يؤكده سرعة قبول البعض من قادة الثورة والمنظمة للإنخراط بالجهود التآمرية ضد الثورة ومسيرتها فيما بعد. _ رغم أن القيادة المعلنة والتي كانت على رأس السلطة الجديدة، ذات طابع عسكري، متمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم، إلا أن أول حكومة تم تشكيلها برئاسته، كانت ذا طابع مدني، وتمثل فيها الأغلبية من أحزاب جبهة الإتحاد الوطني ممن أيدوا التحرك العسكري في الرابع عشر من تموز، وهذا ما عبر عن الطابع السياسي الوطني للحركة. _ ردة الفعل الصاعقة التي أظهرتها دول العالم الغربي وفي مقدمتها دول حلف الناتو وأمريكا، ومحاولتها التحرك لإجهاض الحركة (الثورة) في أيامها الأولى. أما على الصعيد الإقتصادي الإجتماعي، والذي يعتبر من العوامل الإساسية التي منحت التحرك العسكري في الرابع عشر من تموز/1958 طابعاً ثورياً، بل ويعتبر من أحد أسباب تأييد ومساندة التحرك المذكور من قبل الجماهير وطلائعها السياسية، فيمكن تلخيصه فقط وبإيجاز في: _ ظاهرة الفقر المدقع المتسعة والتي كانت تشمل البلاد من الشمال حتى الجنوب، والتي كانت تعكسها أحزمة الفقر الكثيرة التي كانت تحيط بالمدن العراقية. وهي تعبر عن تزايد الفائض السكاني في الريف والتخلف الصناعي في البلاد، مما صب في خانة البطالة التي تعم البلاد بنسب كبيرة. _ حالة الإستغلال العبودي لطبقة الفلاحين، وسيادة شكل العلاقة شبه الإقطاعية، وقد جسدته الهوة الواسعة والتباين الشديد في ملكية الأراضي الزراعية لصالح الإقطاعيين. التي دفعت بالملايين من الفلاحين الى ترك مناطقهم الزراعية للتوجه الى المدن، أو الهجرة غير المنتظمة الى دول الجوار، مثل دولة الكويت. وكي لا أذهب بعيداً في السرد، أقول إضافة لما تقدم، فإن العراق في حينه، لم يعدو عن كونه بلداً ريعياً يعتمد في تطوره التنموي على مدخولاته الجزئية من مردودات النفط الريعية، والتي كانت تتحكم في نسبها شركات النفط الإحتكارية العالمية. أما على صعيد التنمية الإقتصادية فلم تشهد البلاد إلا تقدماً محدوداً وخلال فترة قصيرة، في النصف الثاني من الخمسينات، وبعد تأسيس مجلس الإعمار، بعد مناصفة حصة العراق في العائدات النفطية، وكانت أغلب المشاريع التي أقدم عليها المجلس المذكور، تتركز في بناء الطرق والجسور والهياكل الإرتكازية وعدد قليل من المشاريع الصناعية، مثل صناعة الإسمنت والطابوق. وخلاصة الأمر، فإن أي حديث عن ثورية أحداث الرابع عشر من تموز/1958 ، لا يمكن أن تغطيه مقالة بهذه المساحة القليلة، وليس من الإنصاف المرور على منجزاتها الكبيرة مرور الكرام؛ فما جسدته هذه المنجزات من خلقِ صفحةٍ كاملةٍ من المتغيرات الجذرية في حياة شعب لا يبالغ المرء إذ يقول؛ بأنه كان يعيش، في ظل حكمٍ شبه تابعٍ للهيمنة الإستعمارية، ليحقق وخلال فترة لا تتجاوز العامين مأثرة عظمى، في التحرر من التبعية الأجنبية، وفي تحرير مصادر ثروته الوطنية المسروقة من قبل الشركات الإحتكارية الدولية*، وفي سن قوانين تقدمية لصالح المرأة، وفي إعادة توزيع ملكية الأراضي الزراعية، وفي إطلاق الحريات الديمقراطية وغيرها الكثير والكثير من المنجزات التقدمية الثورية في جوهرها، والتي لا يمكن أن تتحق، إذا ما كان الرابع عشر من تموز/1958، مجرد إنقلاب عسكري معزول كما يظنه أو يتصوره البعض من الباحثين والكتاب. إنها حدث نفذه الجيش كفصيلة شعبية وطنية مسلحة، لتتحول إلى ثورة شعبية عارمة، فرضها الشعب على العسكر، فأطارت صواب قادة الحركة قبل الدوائر الغربية، التي فقدت منطقة نفوذ حيوية بالغة الأهمية، ليس فقط لثرواتها، بل لموقعها الهام في مواجهة الطرف الآخر في الصراع الدولي يومذاك..! ولكن الحدث نفسه، يبقى محطة فاصلة في تأريخ العراق الحديث، وهو ثورة بما تصدت له من أهداف، حاولت جهدها تحقيقها في وضع أقل ما يقال عنه ؛ إنه شهد تكالب رجعي استعماري، قومي ضيق الأفق، وعنصري لوقف مسيرتها، وهذا يعبر عن المخاطر التي تلمسها كل هؤلاء على مصالحهم، فيما لو إستمرت مسيرة الثورة، ولذلك أسقطوها بعد أن أنهكوها، وعزلوا قيادة السلطة عملياً وفكرياً عن الشعب ومصالحه..! فإذا كنا قد أطلقنا تسمية (الثورة) على ثورة العشرين، والإنتفاضة على أحداث 1952 والوثبة على أحداث 1948، وجميعها لم تحقق تلك التغيرات الجذرية في حياة المجتمع، السياسية والإجتماعية _الإقتصادية، بقدر ما أنجزته نفس تلك الجماهير في الرابع عشر من تموز /1958 وبالتحالف مع القوى الوطنية المسلحة من الجيش العراقي، من منجزات تأريخية على كافة الأصعدة. والتي ستظل صفحاتها متوهجة في تأريخ العراق الحديث؛ معلماً لما سطره الآباء والأجداد من مأثرة لا تنسى، فهي بالأحرى، جديرة وبكل معنى الكلمة، بأن يطلق عليها وبإعتزاز (ثورة الرابع عشر من تموز/1958 الشعبية التحررية.) الثورة التي كنست بقايا النظام شبه الإقطاعي، وحررت ملايين الفلاحين من ربقة النير العبودي، ومنحت أمام المرأة سبل الحياة الكريمة، مكسرة قيود التخلف والرجعية، وصانت للعراق وللعراقيين الكرامة الوطنية؛ محطمة قيود التحالفات المشبوهة "حلف بغداد"، ومحررة الثروة الوطنية من سراقها المتنفذين من شركات النفط الإحتكارية، ومعبدة الطريق أمام نهضة إقتصادية كبيرة، وغيرها الكثير من المنجزات التقدمية، وهو غيض من فيض، ما يضعها في المصاف الأولى لثورات الشعوب في تأريخ الإنسانية القريب..! ومع ذلك يبقى 14 تموز/1958 عرساً عراقياً مليئاً بالدروس والعبر، ومشعلاً يضيء الطريق للأجيال التي تبحث عن الحقيقة، بعيداً عن الإنحيازات العاطفية والحزبية ، وإعتماداً على الحيادية الكاملة؛ فمهما يكون العرس جميلاً ومؤثراً، فإنه لا يخلو من نواقص وعيوب، وهذا ينبغي أن يدرس في ظل الظروف والتوازنات التي كانت تحيط بالحدث نفسه وبمستوى الوعي العام للسلطة والجماهير وقواها السياسية، وهو أمر متروك الحكم عليه للتاريخ..! ___________________________________________ * تحاول الشركات الإحتكارية النفطية اليوم، العودة المحمومة لإسترداد مواقعها المفقودة في العراق من جديد.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |